تغير مفاجئ.. هكذا نشرت قناة "فرنسا 3" خريطة المغرب    فلقاء الخطاط مع وزير الدفاع البريطاني السابق.. قدم ليه شروحات على التنمية وفرص الاستثمار بالأقاليم الجنوبية والحكم الذاتي    مجلس المنافسة كيحقق فوجود اتفاق حول تحديد الأسعار بين عدد من الفاعلين الاقتصاديين فسوق توريد السردين    برنامج "فرصة".. عمور: 50 ألف حامل مشروع استفادوا من التكوينات وهاد البرنامج مكن بزاف ديال الشباب من تحويل الفكرة لمشروع    الغالبية الساحقة من المقاولات راضية عن استقرارها بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    أول تعليق من الاتحاد الجزائري على رفض "الطاس" طعن اتحاد العاصمة    جنايات الحسيمة تدين "مشرمل" قاصر بخمس سنوات سجنا نافذا    خلال أسبوع.. 17 قتيلا و2894 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة بتطوان    طابع تذكاري يحتفي بستينية السكك الحديدية    مقتل فتى يبلغ 14 عاماً في هجوم بسيف في لندن    الأمثال العامية بتطوان... (586)    المهمة الجديدة للمدرب رمزي مع هولندا تحبس أنفاس لقجع والركراكي!    نقابي: الزيادة في الأجور لن تحسن القدرة الشرائية للطبقة العاملة والمستضعفة في ظل ارتفاع الأسعار بشكل مخيف    الدوحة.. المنتدى العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان يؤكد على ضرورة الالتزام باحترام سيادة الدول واستقلالها وضمان وحدتها    محطات الوقود تخفض سعر الكازوال ب40 سنتيما وتبقي على ثمن البنزين مستقرا    لأول مرة.. "أسترازينيكا" تعترف بآثار جانبية مميتة للقاح كورونا    هجرة/تغير مناخي.. رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا يشيد بمستوى التعاون مع البرلمان المغربي    من يراقب محلات بيع المأكولات بالجديدة حتى لا تتكرر فاجعة مراكش    في عز التوتر.. المنتخب المغربي والجزائري وجها لوجه في تصفيات المونديال    ليفاندوفسكي: "مسألة الرحيل عن برشلونة غير واردة"    بلينكن يؤكد أن الاتفاقات الأمنية مع السعودية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل شبه مكتملة    مساء اليوم في البرنامج الأدبي "مدارات" : المفكر المغربي طه عبد الرحمان.. بين روح الدين وفلسفة الاخلاق    ستة قتلى في هجوم على مسجد في هرات بأفغانستان    وزارة الاقتصاد: عدد المشتركين في الهاتف يناهز 56 مليون سنة 2023    توقيف نائب رئيس جماعة تطوان بمطار الرباط في ملف "المال مقابل التوظيف"    دل بوسكي يشرف على الاتحاد الإسباني    مساعد الذكاء الاصطناعي (كوبيلوت) يدعم 16 لغة جديدة منها العربية    تعبئة متواصلة وشراكة فاعلة لتعزيز تلقيح الأطفال بعمالة طنجة أصيلة    الدورة ال17 من المهرجان الدولي مسرح وثقافات تحتفي بالكوميديا الموسيقية من 15 إلى 25 ماي بالدار البيضاء    مقاييس الأمطار بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    استهداف المنتوج المغربي يدفع مصدرين إلى التهديد بمقاطعة الاتحاد الأوروبي    توقيت واحد فماتشات البطولة هو لحل ديال العصبة لضمان تكافؤ الفرص فالدورات الأخيرة من البطولة    تم إنقاذهم فظروف مناخية خايبة بزاف.. البحرية الملكية قدمات المساعدة لأزيد من 80 حراك كانوا باغيين يمشيو لجزر الكناري    "الظاهرة" رونالدو باع الفريق ديالو الأم كروزيرو    الريال يخشى "الوحش الأسود" بايرن في ال"كلاسيكو الأوروبي"    "أفاذار".. قراءة في مسلسل أمازيغي    أفلام بنسعيدي تتلقى الإشادة في تطوان    الملك محمد السادس يهنئ عاهل السويد    ثمن الإنتاج يزيد في الصناعة التحويلية    صور تلسكوب "جيمس ويب" تقدم تفاصيل سديم رأس الحصان    دراسة علمية: الوجبات المتوازنة تحافظ على الأدمغة البشرية    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و535 شهيدا منذ بدء الحرب    التنسيق الوطني بقطاع الصحة يشل حركة المستشفيات ويتوعد الحكومة بانزال قوي بالرباط    فرنسا تعزز أمن مباني العبادة المسيحية    العثور على رفاة شخص بين أنقاض سوق المتلاشيات المحترق بإنزكان    عرض فيلم "الصيف الجميل" للمخرجة الإيطالية لورا لوتشيتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    فيلم من "عبدول إلى ليلى" للمخرجة ليلى البياتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    "النهج" ينتقد نتائج الحوار الاجتماعي ويعتبر أن الزيادات الهزيلة في الأجور ستتبخر مع ارتفاع الأسعار    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    توقعات طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو القاسم السبتي الشريف
نشر في ميثاق الرابطة يوم 20 - 05 - 2011

جميل جدا أن نكتشف، ونحن نُنَقب في التاريخ الفكري لبلدنا الحبيب، شخصياتٍ علمية لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، لاسيما إذا كان ميدان اشتغال هذه الشخصيات يتعلق بمواضيع أدبية أو فكرية ظاهرها الشعر والأدب واللغة، وباطنها التاريخ والفلسفة وعلم الإنسان.. من هذه الشخصيات التي آثرت أن أعرف بها في هذه المقالة الأديب الكبير أبو القاسم السبتي المعروف بالشريف الغرناطي شارح مقصورة حازم.
هو أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن ناصر بن جنون بن القاسم بن الحسن بن الحسين بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ولد في السادس من ربيع الأول سنة 667ه بمدينة سبتة –أعادها الله إلى سابق عهدها- ونشأ بسبتة، وتلقى فيها علومه وثقافته الأولى، وظهر نبوغه المبكر في الأدب واللغة والشعر، وساهم في تألقه كون أبيه كان عالما محترما، عرف في مدينة سبتة في مجالي الفقه والأدب.
والجدير بالملاحظة أن اشتهار أبي القاسم السبتي باسم الشريف الغرناطي جاء من كونه شريفا ولي القضاء بغرناطة لمدة، وعليه فالتسمية الأصح في نظري هي أبو القاسم السبتي الشريف.
انتقل الشريف السبتي من سبتة إلى الأندلس، وهو لا يزال في بداية الشباب لأسباب ما تزال غامضة، إلا أن الشعر الذي خلفه صاحبنا السبتي بشأن ارتحاله يُنبأ عن نوع من ضيق أصابه، لكننا لا ندري على وجه التدقيق نوع هذا الضيق، يقول رحمه الله:
لولا مضاربُ من آل النبيّ بها وهُنَّ ما هُنَّ من طيب ومن كرم
لقلت لا جادها صوب الحيا أبداً إلا بناقع سمِّ أو عبيط دم
بدأ الشريف السبتي مسيرة التدريس والإقراء بعد استقراره بالأندلس، وكان ذلك أولا بمدينة مالقة، وعندما عرف قدره وأُنزِل منزلتَه، اتصل بكبير الكتاب وهو يومئذ الشيخ أبو الحسن بن الجيّاب، فعينه في ديوان الإنشاء، ثم بعد ذلك عين قاضيا في مالقة، ثم نقل بعد ذلك إلى قضاء غرناطة سنة 743ه، في زمن الملك النصري أمير المسلمين يوسف بن إسماعيل المعروف بأبي الحجاج. وبعد أربع سنوات قضاها الشريف السبتي في القضاء، تفرغ للتدريس والتنظير، والتف حوله طلبة العلم يأخذون عنه درر الأدب العالي وفقه اللغة، ثم أعيد إلى القضاء في غرناطة وبقي فيه إلى أن لقي الله سنة 760ه. وبعد وفاته رثاه تلميذه الأديب الخطير ابن زَمْرَك بشعر نادر بقوله:
أغرى سراةَ الحيّ بالإطراق نبأٌ أصمَّ مسامعَ الآفاق
أمسى به ليلُ الحوادث داجيا والصبحُ أصبح كاسفَ الإشراق
فُجعَ الجميعُ بواحدٍ جُمعتْ له شتى العلا ومكارمُ الأخلاق
كان الشريف السبتي محل إجماع في ميدان الثقافة والأدب العالي، بالإضافة إلى ثقافته الفقهية الواسعة، يقول تلميذه العلامة ابن خلدون بشأنه: "إنه شيخ الدنيا جلالة ووقاراً ورياسة وإمام اللسان حوكا ونظما في نظمه ونثره".
من شيوخ الشريف السبتي الكبار نذكر محمد بن هانئ السبتي، والرحالة الشهير بن رُشيد السبتي، وأبو إسحاق الغافقي، وأبو عبد الله القرطبي، أما تلاميذ أبي القاسم السبتي فلا يقلون علما وشهرة عن أساتذته، نذكر منهم لسان الدين بن الخطيب الأديب المؤرخ الطبيب، والمؤرخ وعالم العمران الكبير العلامة ابن خلدون، والوزير الشاعر محمد بن يوسف بن زَمْرَك الذي رثاه بعد موته كما مر معنا، وأحمد بن حسين المعروف بابن قنفذ.. فأنت ترى أيها القارئ الكريم عظم وجلالة قدر هذا العالم الذي ربط بين جيلين من الأجيال الذهبية لتاريخ العلم في الغرب الإسلامي، بن هانئ وابن رشيد والغافقي والقرطبي من جهة، ولسان الدين وابن خلدون وبن زمرك وابن قنفذ من جهة أخرى.. وكلهم طبعوا العصر بعلمهم وثقافتهم وأثّروا في مجريات الأحداث..
لصاحبنا أبي القاسم السبتي مؤلفات عظيمة منها: "التقييد الجليل على كتاب التسهيل"، و"تقييد على درر السمط في خبر السبط لابن الأبار"، و"جُهد المُقِلّ"، وهو ديوان شعره الذي أهداه إلى تلميذه ابن الخطيب، و"الدرة النَحوية في شرح الآجُرّوميّة الشهيرة في النحو"؛ و"شرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي"، وشرح القصيدة الخزرجيّة في العروض والقوافي المسماة "رياضة الأبي في قصيدة الخزرجي"، و"اللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان"، و"رفع الحُجِّب المستورة عن محاسن المقصورة"، ويعتبر هذا المؤلف الأخير أشهر كتابات الشريف السبتي على الإطلاق، وقد ارتبط باسم علم بارز هو حازم القرطاجنّي صاحب المقصورة الشهيرة.. ويمكن أن نستنتج استنتاجا أوليا من خلال التعرف على مؤلفات الشريف السبتي مفاده أنه كان شارحا كبيرا بما يعني عملا منهجيا وتربويا وثقافيا كبيرا ينم عن بعض مقاصد الرجل ونواياه..
كان أبو القاسم السبتي شاعراً كبيرا، وله في الشعر، كما يقول تلميذه ابن الخطيب في الإحاطة في أخبار غرناطة: "القِدْح المعلّى والحظ الأوفر والدرجة العليا، ونظمه، كما يقول النباهي في "تاريخ قضاة الأندلس": "كلُّه رائق المعنى صريح الدلالة صحيح المعنى".
ويعتبر ديوان أبي القاسم السبتي في حكم المفقود. يقول الأستاذ ابن سودة في "دليل مؤرخ المغرب الأقصى ص427": "وقفنا على طرف منه حين البحث في الخرم بخزانة القرويين وقد دخله التلاشي جِدًّا والأمر لله"، لكن كتب التراجم احتفظت بالمقدمة التي قدم بها الشريف السبتي ديوان شعره المسمى "جهد المقلّ"، والتي تضمنت كثيراً من ضروب الفن الأدبي العالي، وتشكل أيضا قمة الإبداع النثري عند أبي القاسم السبتي الشريف.
قال في مقدمة ديوانه كما في "الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين بن الخطيب (2/186): "الحمد لله نُرَدِّدُهُ أخرى الليال، فهو المسؤول أن يعصمنا من زلل القول وزلل الأعمال، والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها جملة من بنات فكري، وقطعاً مما يجيش به في بعض الأحيان صدري، ولو حزمت لأضربت عن كتبها كل الإضراب، ولزمت في دفنها وإخفائها دِيْنَ الأعراب، لكنني آثرت على المحو الإثبات وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات، وإذا هي عُرضت على ذلك المجد، وسألها كيف نجت من الوأد، فقد آويتُها من حرَمكم إلى ظلّ ظليل، وأحللتُها من بنائكم مُعَرَّساً ومقيل، وأهديتُها عِلْماً بأن كرمكم بالإغضَاء عن عيوبها جدُّ كفيل، فاغتنم قلة التهدية مني إن جهد المقل غبر قليل، فحسبها شرفاً أن تبوأت في جنابك كنفاً وداراً، وكفاها مجداً وفخراً أن عقدتَ بينها وبين فكرك عقداً وجواراً".
يقول العلامة محمد بن عبد العزيز الدباغ في كتابه "من أعلام الفكر والأدب في العصر المريني" عن صاحبنا أبي القاسم السبتي: "ولم يكن في تناوله للموضوعات مقتصرا على الجانب التقريري المجرد، الخالي من الملاحظة والمقارنة، بل كان يعمد إلى المعلومات فيقدمها على أساس كونها وسيلة لتهذيب العقل واللسان والخلق، ويضفي عليها من شخصيته العلمية والأدبية والخلقية ما يجعلها جذابة موحية مؤثرة، فلا يطلع عليها القارئ حتى تراه حريصا على أن تصبح تلك المعلومات جزءا من كيانه، ينصهر معها ليستعملها من جديد استعمالا يتلاءم مع شخصيته كإنسان واع ومهذب، فلا يكون قابلا لكل ما يسمع، ولكنه في الوقت ذاته لا يكون عنيفا في النقد والمواجهة..".
ولما كان ديوان شعره مفقوداً فقد حاول الأستاذ محمد هيثم غرة‏ من قسم الآداب بجامعة دمشق في عمل سماه "شعر الشريف السبتي" أن يجمع ما تناثر من شعر أبي القاسم في كتابه "رفع الحجب المستورة" وفي الكتب التي تحدثت عنه أو ترجمت له فلم يتجاوز ذلك مئة وخمسين بيتاً..
أما الأغراض الشعرية التي طرقها الشريف السبتي فمتنوعة، فقد مدح صادقاً لم يرجُ الجزاء، ورثى باكياً الأهل والأصدقاء، وتغزل عاشقاً، وتشبب متيماً قل عنده الرجاء، وبكى شبابه وزهد، ووصف وأجاد كما يقول الأستاذ محمد هيثم غرة.
لكن أبرز الأغراض في شعره الرائع الغزل والوصف، أما الغزل فقد جاء عنده في سبع قصائد، وأشهرها قصيدته التي على النون والتي تجاوزت الثلاثين بيتاً، وهي أطول قصائده على الإطلاق. وغزله عذري بالأساس، ذكر فيه صدود المحبوب وبخله بالوصال، وشبّه نفسه فيه بالشاعر "توبة" فلقد أصابه في الحبّ ما أصابه..
وأما الوصف فقد جاء عنده في ثماني مقطوعات لم تتجاوز الواحدة منها عشرة أبيات، وصف دولاب الماء وناعورة السقي والزورق والمنزل والرمح ودواة الحبر وشقائق النعمان. وهنا نستشف الرقة التي تميز بها أبو القاسم الشريف السبتي في تعامله مع معطيات الطبيعة، و يبدو من شعره الرائق تعبير دقيق بالكلمات على الأشياء، ولا يستعمل التجريد إلا بما يدعو إلى تأمل، وأي يساهم في اكتساب ملكة أو تهذيب ذوق..
وما يلفت النظر في مجموعه الشعري قصيدتُه التي قالها حينما أجبر على مغادرة سبتة موطن رأسه والارتحال إلى الأندلس، فقد جاءت معبرة عن نفسية الرجل الذي لم يقدِّر الناس علمه وأدبه وأخلاقه وعمله وفضله..
ويعلق الأستاذ هيثم غرة في دراسته "شعر الشريف السبتي" بكلام جميل على شعر الشريف السبتي بقوله: "وكأنني بأصحاب تلك المصادر التي ذكرت الرجل أو ترجمت له قد اكتفت باختيار أمثلة من شعره فأخذوا ما أخذوا وذكروه، وتركوا ما تركوا وأهملوه فضاع، فلقد وجدت الشريف شاعراً مطبوعاً ليس عنده تكلف، ينساب شعره عذباً زلالاً في جداول الفكر والقلب، ما رأيتُ عنده ما كان يطغى على شعر تلك المرحلة من الزخرفة الكلامية والحلل البديعية إلا ما تسرَّب منها عفو الخاطر.
ووجدتُ ألفاظه رقيقة مأنوسة بعيدة عن الغرابة أو التعقيد اللذين كثيراً ما يلاحظهما المرء في شعر العلماء والفقهاء والمُحدِّثين واللغويين، لذلك شُبِّه شعره بالنجوم لو نظمتْ سلكاً، وهو يجري مع النفوس ويملكها ملكاً، وتزخر قصائده بالمصطلحات التاريخية والفقهية والاجتماعية ممَّا يدلُّ على تنوّع ثقافته واختلاف مقاصده العلمية والأدبية.
وقد قال شيخه ابن هانئ السبتي في معانيه الشعرية بأنها: "غرَّاء جالبة السرَّاء، آخذة بمجامع القلوب، موفية بجوامع المطلوب جالية لصدأ القلوب كما في النبوغ المغربي للعلامة عبد الله كنون.
قال الشريف السبتي في شقائق النعمان (نبتة مشهورة تسمى في المغرب بلَّعمان):
حدائقُ أنبتتْ فيها الغوادي ضروبَ النَّوْرِ رائقة البهاء
تجودُ بكلِّ هطّالٍ كفيلٍ لها في كلِّ يوم بارتِواء
فما يبدو بها النعمانُ إلا نسبناهُ إلى ماءِ السماء
والأبيات موجودة في "نفح الطيب" للمقري 5/198، وفي النبوغ المغربي لكنون باستثناء البيت الثاني، وفي والوافي في الأدب العربي للعلامة محمد بن تاويت ( 2/439).
وقال الشريف السبتي وقد وخطه الشيب:
دعتْني إلى لهو التصابي وما درتْ بأنّ زمان اللهو عنيَ ذاهبُ
فقلتُ لها مالي وللّهو بعدما تولَّى الصبا وازورَّ للغيدِ جانبُ
وقد وخطتْ بيضٌ من الشعر لمَّتي تخبِّر أنَّ البيض عني رواغبُ
أألهو وفجرُ الشيب قد لاح بدؤهُ بفَوْدي فقالت: أوّلُ الفجر كاذبُ
وقال الشريف السبتي متغزلاً (نفح الطيب للمقري، 5/195):
وأحورَ زانَ خديّه عِذارٌ سبى الألبابَ منظرهُ العجابُ
أقول لهم وقد عابوا غرامي به إذ لاح للدمع انسكابُ
أبعد كتاب عارضه يُرَجّى خلاصٌ لي وقد سبقَ الكتابُ
وقال يصف ناعورة ماء (الوافي في الأدب العربي، لابن تاويت، 2/435)
وذي فلكٍ ما دارَ إلا قضى بأن يُعادَ إلى الروضِ الشبابُ جديدا
تجودُ بنوءِ الفرغِ فيه كواكبٌ فتَسقي وِهاداً ريُها ونُجودا
إذا الكوكبُ المائيُّ مِنهُن قُورنت به أنجمُ الأزهارِ كُن سُعودا
أما فيما يتعلق بكتاب الشريف السبتي "كشف الحجب المستورة في محاسن المقصورة" فيقول الأستاذ محمد بن عبد العزيز الدباغ في كتابه: "من أعلام الفكر والأدب في العهد المريني (مطبعة النجاح الجديدة، 1992، ص: 76): "ارتبطت مقصورة حازم القرطاجني في تاريخ الأدب العربي بالشرح الذي وضعه عليها الشريف الغرناطي المسمى: كشف الحجب المستورة في محاسن المقصورة". لقد وجد أبو القاسم السبتي المشهور بالشريف الغرناطي في حازم صورة من نفسه ورأى أن هذه المقصورة إذا لم تجد من يحللها ويبرز ما تحتوي عليه من درر وفرائد؛ فإنها تبقى غامضة أمام كثير من قرائها، فقال في مقدمة شرحها: "إني لما تأملت مقصورة الإمام الأوحد أبي الحسن محمد بن حسن بن حازم الأنصاري القرطاجني ألفيتها تجمع ضروبا من الإحسان، وتشتمل على أفانين من البيان، وتتضمن علوم جمة في علوم اللسان، وتشهد لمنشئها بنا انتظمته من غرائب الأنواع، واتسمت به من عجائب الإبداع، فإنه سابق الميدان، وحائز خصل الرهان، لا جرم أنها بما أورد من الفوائد، وقيد من الأوابد، ووصف من المعاهد، وضرب من المثل الشارد، وأومأ إليه من الوقائع والمشاهد، وانتحاه من المنازع البيانية والمقاصد، ديوان من دواوين العرب أودعه كثيرا من تواريخها، وجمع فيه من المعارف ما يعترف لقدمه برسوخها.." إلى أن قال: "وقد رأيت أن أضع عليها كتابا أضمنه شرح غريبها، والكلام على بدائع أسلوبها، منبها ما اخترع من أنواع الأغراض وضروبها، ثم أمد عنان القول فيما أشار إليه من أيام الأوائل وحروبها، فيكون جامعا لكثير من الفنون، محتويا على الأبكار من غرائب الكلم والعون، مطلعا على أخبار الأمم الخالية والقرون". ولم يخلو شرح أبي القاسم السبتي لمقصورة حازم من بعض الأخبار التاريخية المفيدة، التي لا تنحصر في عصر؛ لأن بواعث ذكرها إنما كانت حسب الإشارات التي ترد في المقصورة وهي متنوعة، منها ما يتعلق بأيام العرب قبل الإسلام ومنها ما يتصل بمجريات الأحداث في العهد الإسلامي مشرقا ومغربا.. واحتوى شرح السبتي لمقصورة حازم نبذة من تاريخ الدولة الموحدية، والدولة الحفصية في المجالات السياسية والفنية والحضارية.. ويعد هذا الشرح من أهم الكتب التي حافظت على أسماء بعض المدن الأندلسية وبعض معالمها سواء منها ما بقي أو ما اندثر.. وكان أبو القاسم السبتي معجبا بيعقوب المنصور الموحدي وبمواقفه الحضارية والعسكرية، فسجل في إطار الازدهار الحضاري والتقني ما أبدعه المهندسون له في جامعه المتصل بقصره حينما وضعوا له مقصورة متحركة، وذكر وصفا لها من قصيدة لأبي بكر بن مجبر مطلعها:
أعلمتني القي عصا التسيار في بلدة ليست بدار قرار
وفي سياق حديثه عن الأقاويل التي حيكت بشأن موت يعقوب المنصور الموحدي، وأنه ظل مرابطا بالأندلس متكتما لحاله، وقال بعضهم أنه زهد في الملك، وتوجه إلى بيت الله الحرام، وأنه جاور في المدينة عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ليخفي أمره. قال أبو القاسم السبتي (ج1، ص 155): "ولهم في ذلك حكايات يقولونها إلى الآن كلها تخرص وأباطيل".. فنحن نرى هنا أيها القارئ الكريم الحاسة النقدية التي تمتع بها هذا الأديب الكبير، الذي آمن أن الكتابة الأدبية علم وأمانة ورسالة وتربية، وليست تسويد الورق كما قال يوما أبو بكر بن العربي المعافري..
ويبدو من تعليقات أبي القاسم السبتي الشريف على مقصورة حازم قدرته العجيبة على التدقيق اللغوي بما يجعل القارئ يتوق إلى التعرف على المزيد من أسرار اللغة، كل ذلك مع استحضار السياق التاريخي واستدعاء درر الشعر العربي. من ذلك تعليقه على كلمة المعلى، يقول (ج1، ص5): "المعلى هو السابع من قداح الميسر، وهو أعظمها حظا، وكانوا يقامرون بها على الجزور بعد أن يجعلوها عشرة أجزاء. فإذا اجتمع المعلى والرقيب أحرز المعلى من أجزاء الجزور سبعة، والرقيب ثلاثة، فاستحقا جميعها، وهو الذي فسر به قول امرئ القيس:
وإذا ما ذرفت عيناك إلا لتقدحي بسهميك في أعشار قلب مقتل
فجعل قلبه عشرة أجزاء، وزعم أن هذه المرأة استحقت جميعها بسهميها، وهما المعلى والرقيب، وقد أوضح هذا المعنى الذي فسر به بيت امرئ القيس شيخنا أبو عبد الله الصديني رحمه الله فيما أنشدنيه:
إذا اقتسم الهوى أعشار قلبي فسهماك المعلى والرقيب
وقد فسر بيت امرئ القيس بغير هذا. يعلق العلامة محمد بن عبد العزيز الدباغ بقوله (من أعلام... ص: 80): "فنحن نرى الشريف الغرناطي يشرح الكلمة بدقة، ويتتبع بواعثها في الحياة الاجتماعية الجاهلية وأثرها في الأدب العربي فيما بعد.. ويختار منحى من مناحي التفسير، وهو المنحى الذي استدل بشعر أستاذه فيه، لكنه مع ذلك يذكر أن بيت امرئ القيس فسر بغير هذا ليترك مجال التذوق للقارئ، وليلا يسد عليه أبواب البحث والتنقيب.
وأطرف ما يذكره العلامة محمد بن عبد العزيز الدباغ في كتابه "من أعلام الفكر والأدب في العصر المريني، ص 90) قوله: "وهكذا نراه يستنكر المجازفة في القول كما يستنكر الغلو في الأخبار، وتبدو هذه الظاهرة عنده في كتابه كله، فهو عندما وجد حازما يصف ملك المستنصر (الحفصي) بقوله:
ملك حوى ملك سليمان الذي لم يتجه لغيره ولا ابتغي
لم يستسغ هذه الطريقة في المدح وقال: "ولا أحب لأبي الحسن أن يتسامح في أن يحاكي بملك سليمان عليه السلام ملك أحد من الناس، والله تعالى يقول: "قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" [سورة ص، الآية: 35]، وعسى أن يكون قصد الناظم أن ممدوحه لم يبلغ أحد من ملوك زمانه مبلغه في سعة الملك، فيقف به التشبيه على هذا القدر ونعوذ بالله من الغلو" .. ويستمر الأستاذ الدباغ في إمتاعنا بإظهار بعض الجوانب العلمية العميقة في الكتابة الأدبية عند أبي القاسم السبتي، من ذلك قوله: "ومن عجيب أمره أنه يستغل الجانب البلاغي في تحديد بعض الأحداث التاريخية، فنجده مثلا وهو يتحدث عن التصغير في الاستعمال العربي (ج1، ص: 190) فيقول: "والتصغير أن لم يكن له معنى يحرزه كان قبيحا في الشعر؛ لأنه لا موجب له إلا إقامة الوزن، فإذا حصل بإزائه معنى حسن موقعه وعذب اللفظ كقول أبي فراس يصف حاله حين أسر:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر
فدل بالتصغير على أنه ما أُسِر ولا قدَر العدو عليه إلا بعد أن فر عنه الجيش، فلم يبق معه إلا النفر القليل من خواصه".. وهكذا نجده يعيننا على استغلال النصوص الأدبية في الوصف التاريخي، وفي تحديد صورة بعض الأحداث، بحيث ينبغي أن تكون اللغة تعبيرا مطابقا للواقع، وأن تحمل مسؤولية الإيحاء لتصبح بها الأحكام في حيز المقبولات.. رحم الله أبا القاسم السبتي الشريف ونفعنا بعلمه، والله الموفق للخير والمعين عليه..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.