رغم انخفاضها الكبير عالميا.. أسعار المحروقات بالمغرب تواصل الارتفاع    من المثقف البروليتاري إلى الكأسمالي !    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. وهبي : "قادرون على تعويض الغيابات و اللاعبين في أتم الجاهزية ضد نيجيريا"    تنغير.. مسار المضايق والواحات، غوص في طبيعية دادس الساحرة    نقابة تندد بتجاهل الأكاديمية لأستاذة معتدى عليها بخنيفرة    الشرطة البريطانية تعتقل خمسة أشخاص بينهم أربعة إيرانيين بشبهة التحضير لهجوم إرهابي    الجمعية المغربية لطب الأسرة تعقد مؤتمرها العاشر في دكار    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    قطر تعلن رفضها القاطع للتصريحات التحريضية الصادرة عن مكتب نتنياهو    دراسة: الشخير الليلي المتكرر قد يكون إنذارا مبكرا لارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب    استدعاء آلاف جنود الاحتياط الإسرائيليين استعدادا لتوسيع العمليات العسكرية في غزة    وهبي: مهمة "أشبال الأطلس" معقدة    مسؤول فلسطيني يثمن أدوار الملك    طنجة.. العثور على جثة شخص يُرجح أنه متشرد    بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلاميذ الرحل .. شُموعٌ على الصَّخر المَكْنُون
نشر في الرأي المغربية يوم 15 - 12 - 2014

في جبال صاغرو الصخرية المنتصبة في جنوب شرق المغرب، والمعروفة بقساوتها وصلابتها وعلوها الشاهق الممتد على سلسلة جبال الأطلس الصغير، تتسلل من بين فجاجها أقدام ناعمة، تمشي بين أحجارها الساعات الطوال تحت الزمهرير القارس، باحثين عن خيمة منصوبة بين الفجاج، يستجمعون رجولتهم الناعمة بأنفاسهم المتقطعة، فتتمزق بين حجارتها أحذيتهم البالية، وتلسع الريح الباردة خدودهم المتوردة، غير أنهم عازمون على الوصول إلى الخيمة البيضاء. هم شموع متقدة تنساب من أعلى قمة بوكافر، لتحط رحالها على سفح "تيداكلين" ، فتلتقي أنوار قلوبهم الصغيرة في الخيمة البيضاء ، لتنتصب منارة العلم في أعمق مكان من المغرب العميق.
يوم كامل مع مدرسة الرحل، يكشف الوجه الحقيقي لمعاناة أطفال مصرين على العلم والتعلم رغم الفقر والجوع وبعد الطريق.
البحث عن مدارس الرحل :
في الطريق إلى الخيمة المدرسية لا توجد أي معالم للحياة، إلا ماتبدى لك في الأفق من نعاج أو حمير لعائلات الرحل ترعى بين الجبال، وكلما أوغلنا بين الجبال إلا وتتأكد لك استحالة عيش الإنسان في هذه المناطق، ويساورنا الشك في كل لحظة من المسير، هل نحن في الطريق الصحيح ؟! .
توقف مرشدنا بين تقاطع الطريق الفاصلة بين بومالن دادس وتنغير المؤدية إلى إيكنيون، حيث يترائى لك مشهد بانورامي لسلسلة جبال الأطلس الكبير والمتوسط، ومن الخلف تظهر سلسلة الأطلس الصغير، والريح الشديدة تنفث لسعاتها الباردة، قال "مبارك" وهو ينفث دخان سجارته الرديئة " من الصعب أن تقلنا سيارة إلى قرية تاكديلت!"، لماذا ؟ " لأننا على مقربة من منجم إيميضر الذي يعرف عمليات سرقة للفضة، وسكان المنطقة يتجنبون أن يقلوا الغرباء !". فكان الحل المشي على الأقدام مسافة 16 كيلومتر إلى قرية "تاكديلت".
"تاكديلت" كانت محطة استراحة للمرحلة الأشق والأصعب، بعد المسير مدة ساعة ونصف، ولا زالت أمامنا مسيرة ساعتين ونصف للوصول إلى منطقة "مسمغولي" على الصخور الحادة والصلبة ، فوق الجبال الصخرية الشاهدة على معركة بوكافر، التي دحرت الاحتلال الفرنسي واعتبرها الفرنسيون من أكثر المناطق تعقيدا لوعورة مسالكها.
من يبحث عن مدرسة الرحل كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، لا يمكن لأي أحد أن يصل إليها إلا بمرشد متمكن، وحتى المرشد يمكن أن يتوه عن الطريق إن غاب عنها مدة من الزمن .. يقول "مبارك" وهو يجمع أنفاسه المتقطعة، " لو احتجت فقط لاتصال هاتفي فسيكلفك مسيرة 4 ساعات ذهابا وإيابا!" يضيف وهو يصعد فوق أحد التلال الصخرية، أما الماء فتلك قصة أخرى تفرض علي المسير كل أسبوع أكثر من ساعتين لملئ ما أستطيع حمله من الماء وأعود أدراجي.
الوصول إلى الخيمة
بعد ساعات من المشي المتواصل، وفي حرارة تصل إلى 4 درجات، تبدت لنا من فوق تلة صخرية خيمة بيضاء منصوبة بين الفجاج، للوهلة الأولى يستحيل أن تصدق أن بين هذه القفار والصحراء الصخرية يمكن أن تتواجد مدرسة، لكن بالفعل هي مدرسة أبناء الرحل. يحكي علي الأمين رئيس جمعية شمس الخيرية قصة بداية المدارس: " انطلقنا بقسم واحد يضم 25 تلميذا، واليوم لدينا 5 مدارس تضم 265 تلميذا من أبناء الرحل !، وعندما سألناه عن المستقبل، نظر إلى السماء كمن ينتظر المطر، يأتي أوربما لا يأتي، لا جواب !.
انتصبت ثلاث خيام بيضاء على سفح الجبل، أكبرها القسم وأوسطها المطبخ وأصغرها الحمام، ابتسم "مبارك" ابتسامة عريضة وهو يشرح دور كل خيمة، وعندما وصل إلى الحمام قال وهو يضحك أذكر أنني وضعت خيمة الحمام الصغيرة وسط خيمة المطبخ لشدة البرد. قاطعناه، وأين كنت تقضي حاجتك ؟، قال مبتسما "عطا الله لخلا"، ثم استطرد: ومضت أيام حتى جاءت أمطار عاصفة اقتلعت كل الخيام، وقمت في منتصف الليل أجمع وألملم شتات الأقسام والخيام لوحدي.
قصص تلاميذ مصرين على التعلم رغم الفقر وطول المسافة:
لباسهم الرث، وأحذيتهم الممزقة، ووجوهم الملسوعة بالبرد، لم تمنع هؤلاء الصغار من مجاراة قسوة الطبيعة والحضور إلى خيمة الدرس، لكن للأسف خارج الوقت الدراسي، سبب التأخر ليس عدم وصول سيارة المدرسة، أو التأخر في إعداد الفطور، أو مشاهدة الرسوم المتحركة، سبب التأخر هي الكيلومترات التي يقطعها التلاميذ للوصول إلى خيمتهم التعليمية، في اتصال هاتفي تحكي "فاطمة" أحد معلمات سد الخصاص، ممن رماهن القدر للتعليم في خيام الرحل، ولم نستطع الوصول إليها لبعد المسافة، (تحكي) أنها اضطرت إلى تغيير وقت الحصة الدراسية حتى الساعة 10 صباحا، لأن طول المسافة التي يقطعها التلاميذ تمنعهم من الوصول في الثامنة أو الثامنة والنصف، حيث يضطر بعضهم للخروج مع الساعة السادسة صباحا، تحكي فاطمة وابتسامة الحسرة تحجرج في حلقها: "خاصكم تجيو، الكلام ما يبين والو". ينقطع الإتصال بسبب ضعف "الريزو"، ثم نعاود المحاولات، وتستجمع فاطمة أنفاسها بعد ربط الاتصال: وضعية التلاميذ صعبة جدا جدا لكنني في نفس الوقت أستغرب لإصرار التلاميذ على الحضور رغم البرد الشديد، والفقر المدقع.
دخلنا القسم وأخذنا نفرق بعض الحلوى والبسكويت على الأطفال، وعلت الابتسامة محياهم جميعا غير أنها ابتسامة صامتة مشبوبة بالحياء، واحترام المعلم، مدت أصغرهم يدها لتأخذ نصيبها من الحلوى، غير أنها يدها ليست كأيادي أطفال المدينة ولا حتى البادية، يد متشققة بسبب البرد ومتسخة بسبب نذرة الماء والجفاف، تغطيها أكمام بالية، وأقمصة رثة، أخدتها "خديجة" وأكلتها في فرح صامت.
أما علي فيحكي ذات مرة عندما عاد إلى أحد خيام الرحل ومعه بعض الملابس التي وصلته من المحسنين قال لأحد أبناء الرحل ماذا تريد أن أجلب لك من المدينة عندما أعود؟، فأجاب الطفل دون تردد : «أريد قراءة»!، قال وهو يضحك صدمني !. ومن الطريف المبكي في نفس الوقت، أن التلاميذ طلبوا من معلمهم عدم ممارسة الرياضة لأنها تساهم في تمزيق أحذيتهم، وتزيد من معاناتهم في الطريق!.
معلموا الرحل ولكن … ! :
يسافرون أينما سافر الرحل، يحملون أقسامهم وكراسيهم وسبورتهم معهم، يطبخون لتلاميذهم، يعيشون في خيام أقسامهم، ويقضون حاجاتهم في الخلاء. الرحل يعتبرونه المعلم والطبيب و"المقدم" والقارئ لرسائلهم، وحتى المسؤول عن أبنائهم عندما يسافر الرجال إلى الأسواق، يتكلم "حسن" أحد معلمي الرحل ونحن نتفقد خيمة القسم: من يريد أن يعلم أبناء الرحل يجب أن يكون له ضمير مائة معلم وصبر مائة معلم، لأنه مهما كان الأجر الذي تتقاضاه لن يعادل ليلة واحدة في البراري والقفار، وفي خيمة باردة جدا ومعرض لشتى أخطار البرية، لسعة عقرب أو لدغة ثعبان، أو أن تلتهمك الذئاب، فما بالك بموسم دراسي كامل".
قال وعلامات التوثر ترتسم في قسمات وجهه: أذكر أنه جائتني في إحدى الليالي امرأة من نساء الرحل تحمل رضيعها الذي كان على مشارف الموت، يقول: فوجدت نفسي عاجزا عن المساعدة، وكل الرجال ذهبوا إلى السوق"، واضطرت للمسير أكثر من ساعتين ليلا فقط لأعبأ الهاتف وأتصل بالإسعاف، التي جاءت لإنقاذ الطفل.
انزوى "حسن" إلى أحد أركان خيمة المطبخ، حيث تتناثر على زوايا الخيمة "كراطين" السردين، وأكياس الأرز والعدس تتوسطهم طنجرة كبيرة، وقنينة غاز، تنهد تنهيدة عميقة وقال: بُعد المسافة واستحالة عودة التلاميذ إلى خيامهم، فرض علينا أن تكون لنا وظيفة أخرى وهي الطبخ، نعم أنا طباخ المدرسة ! لا تستغرب، فالحقيقة المرة هي عندما تعيش بين هؤلاء الأطفال، تهون عليك أغلب همومك ومشاكلك، وتعيش معهم كأنك ولدت معهم، فكنت المعلم والأب والصديق لهم، وأصبح قدرك من قدرهم !.
خرجنا من الخيمة حتى اقتربنا من الحمام، سكت برهة من الزمن ثم انفجر ضاحكا، وقال أما هذه فيصعب أن أحكيها لك ! لماذا ؟، حسنا سأحيكها لك دون أن تضحك ! قال وهو يتأمل في خيمة الحمام، في أحد الأيام كان الجو باردا جدا لم تنفع معه اللحافتين التي كانت لدي، حتى ضربتني صعقة برد حادة أفاضت ماءا دافئا في سروالي فتبولت دون إرادتي! لم أصدق أن الماء الذي في سروالي هو بولي، جلست على الفراش في صمت غريب، أنظر وأتأمل حالتي لوحدي في هذه القفار… أطرقت رأسي للأرض وأنا أضحك وأقول في نفسي : لم أفعلها عندما كنت صغيرا وفعلتها عندما كبرت !.


[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.