لو أن موضوع الدارجة والفصحى يُناقَش بتأنّ وبعلمية ودون تشنجات من هذه الجهة أو تلك، ودون مزايدات إيديولوجية وشعوبية أو تطرفات، لأمكَن الوصول إلى حلول تستجيب لتطلعاتنا. فليست اللغة العربية عائقا أمام التطور حتى ترتفع الدعوات إلى هجرها، وليست الدراجة بهذا السوء الذي يَسمها به البعض. وليست الفصحى خالية من الدارجة حتى يرفض البعض اليوم إمدادها بعبارات دارجة، وليست الدارجة خالية من فصحى حتى ينادي البعض بتفضيلها على العربية الفصحى. إن عربية اليوم ليست هي عربية ابن الروندي وابن مسكويه والسيوطي وأبو العتاهية، وغيرهم من قدامى اللسان العربي، وإنما طرأ عليها الكثير من التبدل، وأدخلت عليها مئات الكلمات وربما الآلاف من خارجها، لكنها أَخذت وزن اللغة العربية وانصهرت في متنها، ونُسِي أصلها الدارج أو الأجنبي. فمن المؤكد أن أغلبنا اليوم تستصعب عليه كتب القدامى، ما يفرض على المترجمين ألاّ يكتفوا بالترجمة من اللغات الأخرى، بل آن الأوان لإعادة كتابة النصوص القديمة بلغة اليوم، حتى تستطيع الأجيال الحالية فَهم نصوص الأشاعرة والمعتزلة وابن تيمية والسيطوي والغزالى وغيرهم. ومن المؤكد أيضا أنه لو قدّر للقدامى أن يبعثوا من قبورهم من أجل قراءة نصوص عربيةُ اليوم، لما استطاعوا فهم كل الكلمات، ولاستعانوا بمنجد من أجل شرح بعضها. ولعل السبب الرئيس لحدوث هذا التحول في اللغة، هو أنها لم تتجمد على ذاتها، ولم تتذرع بالأصالة، وإنما ظلت منفتحة على خارجها، تزوده بمنافعها، وتستقي منه بعضا من مفرداته الجديدة. ربما نحن نعتقد أن كل العربية هي فصيحة لأننا نسينا الأصل الدارج للعديد من مفرداتها أو منبتها الأجنبي. فالذين يرفضون إدخال بعض الكلمات الدارجة إلى المجال التداولي العربي، عليهم التفكير مليّا في سبب السماح بإدخال كلمات أعجمية إلى القاموس العربي، ولماذا لم يقع الاعتراض على الموضوع؟ ومن أين جاءت العديد من المفردات الدخيلة على اللغة العربية؟ ولماذا التمييز بين مصطلحات الدارجة والمصطلحات الأعجمية؟ هل الدّارجة بهذا السوء حتى تُرفَض كلها؟ ألا تتضمن بعض الكلمات والعبارات التي تستحق أن تُتضمن في القاموس العربي؟ إن كثيرا من العبارات المنطوقة اليوم على أساس أنها عربية فصيحة، هي في الأصل ليست عربية وإنما آتية من لغات أخرى، من قبيل: البرلمان، الديمقراطية، الاستراتيجية، التلفاز، الميكانيزمات، الإيديولوجيا، السوسيولوجيا، السوسيو – اقتصادي… إلخ. ولو أن هذه الكلمات أدخلت على العربية في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، وسيادة السخرية الهابطة، وتعاظم الشعبوية، لشاهدنا مئات الصور الساخرة، وعشرات النكت، وآلاف التدوينات، كلها تدور حول السخرية من الموضوع، ولتعالت القهقهات عندما يلوي البعض ألسنتهم بعبارة: «فْوْاتيرة» (la voiture)، والسخرية من عدم ترجمة كلمة «تلفازٌ» ونطقها كما هي مع منحها وزن اللغة العربية، والأمر نفسه بالنسبة إلى برلمان وديمقراطية… أما وسم الدارجة بأنها الشر المستطير، وأن إدخال عباراتها إلى القاموس العربي سيصيب العرب بالكسل وأنواع المرض، فهو أيضا مرفوض من زوايا متعددة؛ فنحن غالبا، إن لم نقل دائما، لا نستعمل في حواراتنا إلا الدراجة، فيما تبقى الفصحى في الأقسام والمساجد والندوات والكتب المدرسية، ومع ذلك لا نشعر بأننا نرتكب خطأ في ذلك، ولا يعوزنا شيء من الأدب في الحوار. أما من ناحية أخرى، فكثير من الأحيان نرفض الحديث باللغة العربية، ونبحث عن مصطلحات بالدراجة، محاولة منا للابتعاد عن المضمون غير المؤدب أو الذي لا تحمد عواقب النطق به إذا ما توسلنا بالكلمات العربية، لاسيما في المسائل المرتبطة بالطابوهات السياسية والدينية والجنسية: فرئيس الدولة يشار إليه ب«المعلم» أو «سِيدْنا»، والعضو الذكري للطفل يشار إليه ب«الحْطْوطّة» أو شيء من هذا القبيل بدل كلمة «قضيب»، والرغبة في قضاء الحاجة لا يشار إليها بهذه العبارة وإنما ب«ندخل للطواليت»، ونعلّم أطفالنا ألا ينطقوا كلمة أتبوّل هكذا، وإنما «بغيت ندير بيبي»، كما لم نعد نستطيع القول «عقد نكاح» وإنما «عقد زواج»، ونستعمل كلمة «النْعْاس» في إشارة إلى «الممارسة الجنسية»، وغيرها من العبارات التي إن نطقناها باللغة الفصيحة نشعر بأننا نُخلّ بالحياء، فيما ننطقها بشكل عادي من خلال الدراجة. هل علينا أن نتخلى عن الفصحى من أجل الدارجة لأنها أيسر وأكثر فهما؟ طبعا الجواب بالنسبة إلي: هو الرفض، لأنه حتى الدارجة هي دارجات متعددة، والكثير من المناطق لا يفهم بعضها البعض في كثير من الحالات، رغم أنها تتكلم الدراجة المغربية، كما أن عدم إلمامنا بالشيء لا يرخّص لنا هجره، وإنما علينا أن نقوم بمجهود من أجل الفهم. فإذا لم نفهم اللغة العربية، أو عجزنا عن الحديث من خلالها، فهذا لا يعني أن نقيم الدنيا ونقعدها من أجل البرهنة على أنها لا تساير العصر، وأنها عائق أمام التنمية والتواصل، وغيرها من العبارات الجاهزة. لكن هذا لا يعني أيضا رفض تطعيم القاموس العربي بمصطلحات من الدارجة، مقابل منحها وزن اللغة العربية، لاسيما إذا كانت هذه المصطلحات هي وحدها ما يمكن الحديث من خلاله على موضوع معين، فلو أن «البريوات» لا اسم لها إلا هذا الاسم، فما المانع من إدخال هذا المصطلح إلى القاموس العربي، وينطبق الشيء نفسه على «البغرير» وغيرها من أسماء الأشياء المستجدة على الاجتماع العربي، فكما استدمجت العربية كلمة «التلفاز» و«الإيديولوجيا» و«البرلمان»، فلا ضير أن تتضمن كلمات أخرى، شريطة أن تقوم جهات علمية بهذا الإدماج، علما أن هذا الأمر لا يخص اللغة العربية وحدها، وإنما تعرفه معظم لغات العالم، فالمجمّعات اللغوية في كثير من البلدان تَسهر دوريا على تطعيم اللغة الفصيحة بكلمات متأصلة في اللسان الدارج، حتى لا يحدث انفصام كبير بين الفصحى والدارجة، ومن أجل ألا تتجمد اللغة، أو تكفّ عن مواكبة عصرها، وهذا حال اللغة الفرنسة نفسها التي يدخل إلى قاموسها بشكل دوري عشرات المصطلحات ذات الأصل الدارج، كما أن لكل لغات العالم تقريبا دارجتها، وهناك مؤسسات تسهر على تطوير اللغة ومعالجة إشكالية علاقتها بالدراجة، لأن اللغة وُجدت من أجل التفكير والتواصل، لا من أجل الجمود والتقديس، فهي ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة، وعلى الوسيلة أن تحقق المرجو منها لا أن تصبح عائقا أمامه. نعم، من الوارد جدا أن خلفيات بعض الذين يتصدرون دعوات الانتصار للدارجة غير مؤسسة على رؤية علمية، وإنما تتحكّم فيها الإيديولوجيا، وتدعمها اللوبيات، لكن هذا لا يعني أن الذين يرفضون هذه الدعوات ينطلقون كلهم من مبررات عملية، فإلى جانب طغيان النقد الشعبوي وسيادة السخرية التي، للأسف، أصبحنا نُسمّنها وننسى أننا نرعى وحشا قد يدهسنا في يوم من الأيام، نجد بعض هؤلاء في أحيان كثيرة لا ينطلقون إلا من مبررات سياسية أو إيديولوجية من أجل الدفاع عن العربية ورفض كل الدعوات إلى تطويرها، اعتقادا منهم أن استهداف اللغة العربية هو استهداف للدين نفسه وللعروبة، والحال أن الأمر مختلف، لأن أكثر من مليار ونصف مليار مسلم لا ينطقون العربية ولا يفهمونها، ومع ذلك هم مسلمون، سواء كانوا في الصين أو الهند أو تركيا أو إيران أو ألبانيا أو إثيوبيا أو مالي أو ماليزيا أو في المغرب، فالعرب مقارنة بعدد المسلمين هم أقلية، ربما ذلك ما دفع أحد الوزراء الأفارقة إلى الرد على وزير إماراتي بالقول: «علمونا العربية، أما الإسلام فأنتم أنفسكم لا تفهمونه». فمن الأفضل لو يترك المتخاصمون أسلحتهم الإيديولوجية والسياسية ومصالحهم الضيقة، ويجلسوا إلى طاولة العلم، حتى يصلوا إلى نتيجة ترضي اللغة وتحقق المصلحة. وربما يفيد ذلك في إيقاف هذا السجال داخل الساحة السياسية واستمراره ضمن المؤسسات العلمية، حتى لا ينشغل المجتمع بالكلمات عن الاهتمام بالاجتماع والاقتصاد والسياسة والصحة والتعليم، فمشكلة منظومة التربية لا تكمن في بضع كلمات في مقرر، وإنما الخشية كل الخشية أن ذلك ما هو إلا غطاء على أزمة تزداد استفحالا في هذا القطاع الحيوي، من حيث الاكتظاظ وضعف الأجور وبطالة الخرّيجين وجشع المتاجرين في التعليم. بقلم: عبد الرحيم العلام أستاذ القانون العام