قال أسامة الزكاري، الباحث في التاريخ، إن بوعشرين أُدين من طرف «الجوقة المعلومة» قبل المحكمة. كيف تعرفت إلى توفيق بوعشرين؟ تعود معرفتي بالإعلامي توفيق بوعشرين إلى مرحلة زمنية ممتدة، سابقة عن مرحلة إقدامه على تأسيس جريدة “أخبار اليوم”. تعرفت على توفيق بوعشرين صحافيا رصينا في منابر إعلامية مختلفة، سرعان ما أثار الانتباه بهدوئه الاستثنائي وبرصانته الفريدة وبعمقه الأخاذ. لم تكن ثمة مميزات خاصة وسمته مقارنة مع رعيل جيله، باستثناء الاضطلاع بمهنة الصحافي المحترف، حيث التشبث بالمهنية، والاستبسال في الدفاع عن القيم، وإعلان “الطلاق البائن” مع مهاوي السقوط الإعلامي الذي أصاب الجسم الصحافي بلوثة الفساد والإفساد والريع. تعرفت على توفيق بوعشرين في هذه الظروف، وكانت المقارنات بين تراكم تجربته، وبين ما كانت تحفل به الساحة الإعلامية من تحولات مرتبطة بمخاضات مغرب الانتقال والتحول عند نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. وأعترف أني ربطت صداقة شخصية عميقة مع بوعشرين، على الرغم من أني لم ألتق به أبدا ولم يسبق أن جمعني أي لقاء به، ولم أتواصل معه –أبدا- بشكل مباشر. كانت هذه الصداقة ثمرة المقارنات الضرورية التي كنا نقوم بها في هذا الإطار، الأمر الذي ترسخ مع حضوري المباشر للكثير من المنتديات الثقافية والفكرية والإشعاعية في عدة مدن مغربية، حيث كان لحضور بوعشرين سلطة معنوية مؤثرة، حققها بفضل سمعته ومهنيته، وقبل كل ذلك، بفضل تكوينه الرفيع وعمق تحاليله وتمثله لإواليات استحضار البعد التكويني في مختلف التعبيرات التواصلية التي ظلت تميز خطابه. فبعيدا عن لغة الإثارة والتسطيح والشعبوية والتشهير ودغدغة عواطف المتلقي، ظلت لغة بوعشرين تنحت تجربتها لتضفي عليها ميسمها الخاص وعناصر فردانيتها المثيرة للإعجاب. لم يكن بالإمكان أن أقول هذا الكلام، عندما كان بوعشرين حرا، طليقا، نظرا لأن الأمر كان سيحتمل تأويلات تصب في خانة كيل المديح المجاني مقابل مصالح نفعية، أو شراء الذمم، أو ما شابه ذلك، لكن، الآن، وهو في سجنه، أجدني مضطرا للاعتراف بريادته، ومبادرا للتنويه ببصماته الناصعة على الكثير من أنماط تلقي أرصدة العمل الإعلامي الوطني المعاصر. فبغض النظر عن كل الملاحظات والانتقادات التي يمكن توجيهها له بخصوص هذا الموقف أو ذاك، وبخصوص هذه المبادرة أو تلك، يظل توفيق بوعشرين صاحب التأثير الأعمق لدى القراء المدمنين على البحث عن التفاصيل “الأخرى”، وعن الخطابات غير المهادنة، على الأقل بالنسبة إلى الجيل الذي أنتمي إليه.. كيف تجد تجربته الصحافية؟ بدوري أتساءل، هل يمكن إجراء التقييمات الضرورية بخصوص تحولات الكتابة الصحافية للعقدين الماضيين للقرن الحالي بدون الإحالة إلى تجربة الصحافي توفيق بوعشرين؟ وهل يمكن تفكيك بنية كتابة “الافتتاحيات” بدون النهل من معين تراكم هذه التجربة؟ وهل يمكن استيعاب نسق هذه الكتابة بدون الاسترشاد بمضامين هذه “الافتتاحيات”؟ ثم، هل يمكن القبض بتفاصيل النبوغ في هذا العمل بدون العودة المتجددة لقراءة خطابات بوعشرين المباشرة أو المستترة؟ وأخيرا، ألا يمكن اعتبار هذه التجربة تحولا نوعيا يذكرنا بافتتاحيات رواد العمل الصحافي المغربي والعربي، مثلما هو الحال مع الرواد حمدي قنديل ومحمد حسنين هيكل ومحمد باهي ومحمد العربي المساري؟ أسئلة متناسلة، لا شك أن الجسم الصحافي الوطني يستحضر من خلالها تجربة توفيق بوعشرين، ليس –فقط- من زاوية التتبع اليومي للأحداث وللوقائع الاعتيادية، ولكن –أساسا- من موقع الباحث عن التفاصيل “الأخرى”، وغير المطمئن لارتدادات الصدى، ولا لهدير الغمر الإعلامي الموجه والطافح والمتطلع إلى صناعة الرأي العام وإلى التأثير فيه وإلى توجيهه وإلى تطويعه. لقد ظلت “افتتاحيات” بوعشرين عميقة في رؤاها، سلسة في لغتها، مستندة إلى تريث كبير في استنطاق الوقائع وفي كشف البياضات المسكوت عنها. وقبل كل ذلك، استثمر بوعشرين تكوينه المهني الرفيع وقراءاته العلمية المدققة، من أجل إكساب كتاباته جرعات نادرة من المصداقية، ومن العمق، ومن القدرة على التحليل، وعلى التأثير في اليقينيات وفي الأحكام الجاهزة. ولعل هذا ما شكل سببا كافيا لكل المضايقات التي تعرض لها على امتداد مساره المهني من جهات متعددة، ومن مواقع مختلفة، ومن منطلقات متباينة. لم يثبت –أبدا- أن نحا بوعشرين إلى التشهير بأعراض الناس، أو إلى اعتماد أسلوب الإثارة مجالا لدغدغة العواطف ولتجييش المتلقين، الأمر الذي لم تستوعبه قطاعات واسعة من النخب السياسية الحزبية للمغرب الراهن، فاعتبرته تحاملا عليها ومحاباة لغيرها، لكنها لم تستطع استيعاب كيف أن الكتابة الصحافية تظل رهانا مركزيا في التحول الديمقراطي المنشود، وفي جهود ربط الجسور بين المهنية من جهة، والتكوين العلمي من جهة ثانية، واحترام ذكاء المتلقي وانتظاراته من جهة ثالثة. لذلك، أضحى من حقنا أن نقدر حجم الخسارة التي تكبدها المشهد الإعلامي ببلادنا جراء التغييب القسري لبوعشرين عن منبره اليومي، وهي الخسارة التي لا نعتقد أن أحدا من كل الأطياف التي حملت سيوفها الخشبية ضده، قد استطاعت ملأه أو استيعابه أو تجاوزه.. كيف تنظر إلى اعتقاله والحكم الابتدائي الصادر في حقه؟ إذا كان الحكم قد صدر في طوره الابتدائي مخلفا موجة واسعة من التساؤلات والاندهاش، فالمؤكد أن حيثيات المحاكمة وسياقاتها تظل مجالا مشرعا للمساءلة المتجددة، من طرف فقهاء القانون ومتخصصي هذا المجال. لقد قيل الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وبرزت انزياحات أنهكت الجسم الصحافي بمواقف ملتبسة، تداخلت فيها الأحقاد الشخصية مع النوايا المبيتة للأفراد وللهيآت، بل إن بوعشرين قد أدين من طرف “الجوقة” قبل صدور الحكم الابتدائي، عبر إسهال المواد الإعلامية الورقية والإلكترونية، مما يشكل مسا صريحا بمبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”. وكأني “بالجوقة المعلومة” تستبق حكم المحكمة، تمهيدا للقرار وتكييفا للرأي العام مع “الحكم المنتظر”. وبغض النظر عن كل تداعيات الحكم الابتدائي، فإن الأمل يظل قائما في تصحيح الاختلالات أثناء مراحل التقاضي اللاحقة، إحقاقا للحق، وإنصافا لضميرنا الجمعي المتمسك بتلابيب الأمل في طي هذه الصفحة التي هزت الجسم الإعلامي الوطني الراهن، صفحة توفيق بوعشرين الصحافي والإنسان، أولا وأخيرا.