أطل وزير التربية الوطنية، سعيد أمزازي، على المغاربة، مساء أول أمس، عبر بلاتو القناة الثانية، وبدا في الحقيقة منسجما مع حقيقته، أي ذلك الموظف التقني المكلّف بتطبيق إجراءات معينة دون خلفية سياسية ولا تصوّر فكري، أو أي نية لاستشراف المستقبل. أمزازي جاء ليقول للمغاربة، بكل اختصار، إن اللغة العربية لا تصلح للبحث العلمي، وإن البديل الوحيد هو اللغة الفرنسية. لماذا هذه الحتمية؟ يجيب الوزير بأن نحو 50 ألف أستاذ للمواد العلمية تلقوا تعليمهم الجامعي باللغة الفرنسية، وبالتالي، يمكنهم التدريس بهذه اللغة، عكس البدائل اللغوية الأخرى التي يطرحها البعض، مثل الإنجليزية. وكأي تقني في مكتب للدراسات «فاست فود»، يقول وزيرنا في التربية الوطنية إن أنشطة النشر والإصدارات في المغرب أصبحت تجرى بالفرنسية أساسا وليس بالعربية. هكذا، كأي مقبل على تأسيس شركة صغيرة جدا، يستسلم وزيرنا لواقع ومنطق السوق، عوض أن يخطط، من موقعه السياسي، لتغيير هذا الواقع، والانتصار للوطن ولغته وحضارته. أمزازي، وكما هي عادة التقنيين الذين يُلحقون بالسياسة، لا يرى أي داع للحلم والأمل. وحين سُئل الوزير عن رأيه في الخلاف السياسي حول الموضوع، بغض النظر عن مبرراته التقنية، لم يكن أستاذ البيولوجيا يجد ما يرد به سوى استشهادات من الخطب الملكية، كما لو أن الملك أمر يوما بالقفز على المؤسسات، وتجاهل الأحزاب والبرلمان ونقاشات المجتمع… سوف لن أدعي الرد على الوزير، بشأن قوله بموت السياسة، ولا ادعاءه تحنيط اللغة العربية، ولا تصويره اللغة الفرنسية باعتبارها ملاذا وحيدا. أدعو الوزير إلى مراجعة أرشيفه الخاص، والعودة، مثلا، إلى ندوة عقدها سلفه، رشيد بلمختار، في قاعة ندوات الوزارة في مارس 2016، وينصت إلى هذه المعطيات: هناك صعوبة في العثور على أساتذة للغة الفرنسية، حيث قال بلمختار إن مادتي الفرنسية والرياضيات تسجّلان أضعف نسبة إقبال على مباريات التوظيف، ولا تتجاوز نسبة الترشيحات عتبة 1.3 مرشح لكل منصب. وفي الوقت الذي يفسّر فيه ضعف إقبال خريجي الرياضيات على سلك التعليم بالآفاق المهنية الأخرى المفتوحة أمامهم، خاصة في الهندسة والمدارس العليا للأطر، يرتبط تراجع أعداد القادرين على تدريس الفرنسية بتراجع أعداد المتخرجين من كليات الآداب في تخصص الفرنسية. في المقابل، قال بلمختار إن مناصب أساتذة الإنجليزية تسجل حوالي 3 مرشحين لكل منصب. أي أن الاتجاه العام لدى المغاربة هو الانتقال من الفرنسية، بصفتها إرثا استعماريا أو غنيمة، إلى الإنجليزية لغة للحاق بركب العصر. وإذا أراد وزير التربية الوطنية التأكد من ذلك بالملموس، وبعيدا عن الأرقام الجافة، فما عليه سوى الخروج من مقر باب الرواح، والتوجه إلى أحد مراكز تدريس الإنجليزية بوسط الرباط، ليشاهد كيف يقف آلاف المواطنين في طوابير التسجيل، ويدفعون مقابل ذلك كلفة مالية. أما القول إن التدريس بالفرنسية سيمكن التلاميذ من ولوج أسهل وأفضل للعلم، فجوابه في أرشيف أمزازي دائما. وما عليه سوى العودة إلى يوم 9 أكتوبر 2018، حين كان المجلس الأعلى للتربية والتكوين ينظم جلسة خاصة بموضوع: «الابتكار التربوي ودينامية الإصلاح بالمغرب». يومها وقف خبير فرنسي متخصص في التجديد والابتكار البيداغوجيين، اسمه أندري تريكو، ليبرهن على الانعكاس السلبي للتعليم بلغة أجنبية. نعم، أمام المستشار الملكي، عمر عزيمان، والوزير سعيد أمزازي وآخرين، وقف هذا الأستاذ لعلم النفس بالمدرسة العليا لمهن التعليم والتربية بمدينة تولوز، وعرض نتيجة عملية تجريبية قام بها لاختبار فرضية مفادها أن تلقين مادة معينة بلغة أجنبية، يسمح بتعلّم مزدوج، يهم في الوقت نفسه المادة المعرفية واللغة الجديدة. همّت التجربة 102 تلميذ كلّهم تعتبر اللغة الفرنسية لغتهم الأصلية، موزعين على ثلاث مجموعات. التلاميذ الذين يراد تلقينهم مادة قانونية، توزعوا بين مجموعة تلقت تعليمها باللغة الفرنسية فقط، وثانية تلقت التعليم باللغة الألمانية التي يراد تلقينها إلى جانب القانون، فيما تلقت المجموعة الثالثة تعليمها باللغة الألمانية مع ترجمة الدرس إلى اللغة الفرنسية. النتيجة النهائية لهذه التجربة أبرزت أن المجموعة التي درست المادة القانونية باللغة الألمانية سجّلت أضعف النتائج، سواء في تقييم المكتسبات الجديدة في اللغة الألمانية، أو في المكتسبات الخاصة بالمادة المراد تدريسها، أي القانون. أي أن هؤلاء التلاميذ لم يتعلموا اللغة الأجنبية ولا المادة القانونية. المجموعة التي تلقت تعليمها باللغة الأصلية فقط، فيما درست اللغة الألمانية بشكل منفصل، حققت أكثر النتائج توازنا، حيث أبان تقييمها عن أن تلاميذ هذه الفئة هم الأفضل من حيث اكتساب المعرفة القانونية، فيما كانت مكتسباتهم اللغوية الجديدة في اللغة أفضل مما حققه نظراؤهم الذين درسوا المادة باللغة الألمانية. هذه التجربة أبانت، حسب الخبير الفرنسي، عن نتائج مماثلة عندما طُبقت في مادة أخرى، هي مادة المعلوميات، التي استعملت فيها اللغة الإنجليزية، فكان أن سجلت المجموعة التي درست المادة باللغة الأجنبية النتائج الأضعف في مرحلة التقييم. الآن، وبما أن عزيمان ومجلسه، وأمزازي ووزارته، كلهم حضروا هذا الدرس وتابعوا خلاصاته، لماذا يريدون تدريس أبناء المغاربة المواد العلمية بغير لغتهم الأم؟ فالنتيجة معروفة، والدليل العلمي التجريبي قائم عليها وموثق بالفيديو داخل مقر مؤسسة دستورية هي المجلس الأعلى للتعليم. قليل من الصدق لا يضرّ. وحريّ بالمصرّين على تحويل 50 ألف أستاذ مغربي من متخصصين في العلوم إلى جنود في خدمة الفرانكفونية، أن يعترفوا بأنهم يعملون على إنقاذ لغة مستعمرنا السابق من الانهيار. ومساعدة مني لدعاة الفرنسة، أنصحهم باستعمال مثل قد يفيدهم في الترافع حول ما يسعون إليه، وهو يقول: «إذا لم تستطع مقاومة الاغتصاب، فاستمتع به».