المغاربة شاركوا أيضا في حرب بالتحرير الجزائرية.. مما رواه لي زميلي أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الجزائر، الدكتور مصطفى نويصر، أنه دعا يوما الرائد لخضر بورقعة، أحد قدماء ضباط جيش التحرير الوطني الجزائري، ليقدم شهادته لطلبة الماجستير عن حرب التحرير في منطقة الجزائر العاصمة، فذكر في شهادته أن سريته المقدر عدد أفرادها ب 90 محاربا كان منهم 30 مغربيا؛ مما سبب دهشة كبرى للطلبة، بالنظر إلى الصورة المروّجة عن مغاربة الجزائر. ويذكر الرائد بورقعة في كتابه “شاهد على اغتيال ثورة”، الصادر في الجزائر سنة 1990، أن بومدين استدعى ضباطا، من أصول مغربية، شاركوا في حرب التحرير الجزائرية، كانوا في مدارس التكوين والتدريب في روسيا والدول الشيوعية الأخرى، فوضعهم في سجن المرس الكبير بوهران، قبل أن يأمر بإعدامهم، بدواعي أنهم قد يصبحوا جواسيس للنظام المغربي. إذن هي صورة مختصرة جدا عن هجرة الريفيين إلى الجزائر من أجل العمل، فكان أن شارك بعضهم في حرب التحرير حين اندلعت في الجزائر، وغادر أكثرهم إلى بلادهم المغرب، إلى الريف بالذات، حيث موطنهم الأصلي، ولذلك يُرجع البعض السبب في اندلاع أحداث الريف 58 و59 إلى بطالة العائدين من الجزائر، وانعدام قدرة الدولة المغربية الجديدة على امتصاص تلك البطالة. ومن بين من أشار إلى دور بطالة العائدين من الجزائر عبد الرحمان أنكَاي، عضو الديوان الملكي، الذي كلّفه محمد الخامس بتقصّي مسببات أحداث الريف. وقد جاء في تقريره، المقدم للملك محمد الخامس، أن البطالة الضاربة الأطناب في الريف، وخاصة بعد عودة المهاجرين من الجزائر، لها دور كبير في غضب السكان، وفي شعورهم بعدم المساواة مع باقي المغاربة، وخاصة مغاربة المنطقة المحتلة من قبل فرنسا سابقا. لنعد إلى انتفاضة الريف، ماذا تتذكر عن قيادتها؟ وكيف كان موقف عبد الكريم الخطابي منها؟ أتذكر جيدا أن السعادة التي كانت تعكسها وجوه الناس في الريف فرحا بعودة محمد الخامس مظفرا إلى عرشه، واستبشارا بإعلان استقلال المغرب موحدا بين شماله وجنوبه، والاستمتاع بانتشار الأغاني والأناشيد المعبرة عن ذلك. لكن سرعان ما حل محلها ملامح لم نكن، نحن الصغار، نتبين مصدرها بوضوح. غير أن أخبار اختطاف كل من يذكر اسم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتضييق الخناق على المشكوك فيهم بأن لهم علاقة مع جيش التحرير في الريف، وعلى من يقوم بانتقاد سياسة حزب الاستقلال؛ كانت تلك الأخبار تحاصر أفراحنا. وبدأنا ندرك بعض ما يحدث من خلال ما كان يتردد في مجالس والدي ورفقائه. ثم بدأت تصل أسماعنا ملخصات لتصريحات قادة حزب الاستقلال للصحافة، المتّهِمة للريفيين بمناهضة الحركة الوطنية وتهديد الوحدة الترابية للمغرب. في هذا السياق اغتيل عباس المسعدي كذلك.. نعم، من بين الاغتيالات التي وقعت، اغتيال قائد جيش التحرير، عباس لمسعدي سنة 1956، والذي تحولت مناسبة نقل رفاته من غفساي لإعادة دفنها في أجدير اكزناية سنة 1958 إلى ما يشبه إشعال عود ثقاب الأحداث في الريف؛ هذه الأحداث التي كانت المعاملات السيئة التي كانت تمارسها الإدارة المغربية الجديدة ضد “الرعايا” الريفيين، تزيدها اشتعالا. ولا أدري، إلى الآن، الدواعي الحقيقية لسلوك موظفي الإدارة المغربية، الذي لا يزال كثير من عناصره حاضرا في سلوك إدارة مغرب اليوم. هل يعود هذا إلى تعليمات المركز الخاصة بمناطق مجالية معينة مثلا، تطبيقا لعقيدة ليوطي؟ أم إلى التربية الحزبية المنتقمة من آراء الخطابي التي كان تحمّل مسؤولية ما آل إليه وضع المغرب للأحزاب التي كان يشبه حكوماتها بالعصابة. ولا يزال الناس يستحضرون عبارته الشهيرة: “هل أنتم حكومة أم عصابة”؟ أم يعود إلى الجهل بثقافة ساكنة المنطقة؛ هذا الجهل الذي نعتقد بأنه لا يزال يسيطر على مواقف كثير من موظفي الدولة، وعلى جل تقاريرهم عن منطقة الريف إلى يوم المغرب هذا؟ أم أن هذه الاحتمالات تتلاقى عناصرها أو بعضها على الأقل في رسم سياسة السلطات نحو الريف؟ ماذا عن قيادة انتفاضة الريف 58-59؟ بالنسبة لقيادة الانتفاضة، فإن الاسم الذي كان متداولا بكثرة بين الساكنة هو محمد بن الحاج سلاّم أمزيان، المفرج عنه من سجون الاختطاف في أواخر صيف 1958، وقد روى لي لاحقا بأنه لم تكن لديه نية قيادة مطالب الريفيين، لكنه خضع لإلحاح عقلاء الساكنة، بصفته صاحب تجربة سياسية في حزب المغرب الحر، ومثقف ينتمي إلى أسرة عريقة في العلم والمكانة الاجتماعية. فابن عمه هو الشيخ مزيان، العائد من الأزهر بمصر بحرا متفجرا من العلم، وكان مناصرا للانتفاضة. وكانت هناك أسماء أخرى معروفة في المنطقة منخرطة في الحراك، كالفقيه العبدلاوي والشريف الوزاني، والشيخ زريوح وغيرهم. مع العلم أن هذه الشخصيات كانت قد رفضت رفضا مطلقا رغبة إسبانيا في منح الاستقلال للشمال، سيرا على منهج الزمن الخليفي، الذي لم يكن تابعا للسلطان في الرباط.