ما الذي أخر المصادقة على مشروع قانون تعديل القانون الجنائي لحدود الساعة؟ يجب التوكيد بخصوص النقاش المتعلق بمشروع القانون الجنائي المعروض على البرلمان بقواعد منهجية أساسية: الجهة الوحيدة المخول لها الإجابة عن سؤال تأخر المصادقة على مشروع القانون، هو مجلس النواب وأعضاء لجنة العدل والتشريع، الذين واكبوا القانون ويعرفون مواطن الخلاف، سواء في هذه الولاية أو الولاية السابقة، حيث جرى إيداعه من طرف رئيس الحكومة سنة 2016، وبذلك من الصعب أن يحسم من لم يواكب هذا النص في أسباب عرقلته، سواء أكان طرفا حكوميا أو حزبيا. أستطيع أن أجزم لك كنائبة برلمانية عضو باللجنة ذاتها خلال ولايتين، أن سبب الخلاف الوحيد ظل، دائما، هو مقتضيات الإثراء غير المشروع. رئيس الحكومة ربط عرقلة القانون بمادة الإثراء غير المشروع، فيما اعتبر وزير العدل أن إرجاع البلوكاج لهذه المادة مجرد ضغط وتشويش؛ ما رأيك؟ استمعت إلى تصريحات وزير العدل الحالي، وأنا هنا لست في معرض الرد عليه، فهو صديق جمع بيننا نقاش جدي ومسؤول، غير أن الأستاذ محمد بنعبدالقادر لم يقنعني بتاتا وهو يدفع بكون الحكومة جرى تعديلها، وبكونه كوزير جديد للعدل لم يشارك في وضع القانون ويصعب عليه الحسم في التعديلات البرلمانية دون إعادة النقاش في المجلس الحكومي الجديد (بعد التعديل الحكومي). طبعا، أتفهم وأحترم الاعتبارات التي تجعل وزيرا جديدا يجد نفسه ملزما بالدفاع عن قانون قد لا يكون متفقا مع بعض مضامينه أو أن مرجعيته الفكرية والسياسية لا تنسجم مع بعض المقتضيات، وهنا لا يمكنني أن أناقشه على هذا المستوى، غير أن العمل المؤسساتي له منطق مختلف يفرض مسؤوليات من نوع آخر، فمع الوزير ذاته صادقنا على قانون الطب الشرعي الذي أعده وناقشه أسلافه، كما يفترض أن نحسم معه في قانون التنظيم القضائي والقانون التنظيمي للدفع بعدم دستورية القوانين بعد ترتيب الآثار القانونية بعد قرارات المحكمة الدستورية. وبالمنطق نفسه سنقول إن الوزير الحالي غير ملزم بتمرير قوانين وضعها الرميد وناقشها في مرحلة لاحقة محمد أوجار، لأن منطق الاستمرارية المؤسساتية يفرض الكثير من التضحية وتحييد الذات وإلا فبعد كل تعديل حكومي (وهو أمر يتكرر في المغرب) يجب سحب كل المشاريع من البرلمان لأن الوزراء الجدد لم يساهموا في صياغتها وقد نفعل الشيء عينه مع الاستراتيجيات القطاعية والمشاريع والبرامج، وهو ما سيجعل المؤسسات تدخل في أزمة حقيقية تضرب في الصميم معنى استمرارية الدولة. أعرف أن القانون الجنائي يتسم بحساسية بالغة ويتقاطع فيه الفكري بالثقافي وكذا بالإيديولوجي والقانوني، لكنه مسطريا يظل قانونا أودعه رئيس الحكومة في البرلمان وقرر عدم سحبه، وبذلك يجب استكمال مسطرة المصادقة عليه. السيد وزير العدل دفع، أيضا، بكونه ضد المقاربة التجزيئية وأنه يطمح إلى مراجعة شاملة للقانون الجنائي، وهنا يمكنني القول إننا كبرلمانيين نتفق معه جميعا وكنا نطمح إلى إحالة المشروع كاملا مرفقا بالمسطرة الجنائية، وهذه كانت رغبة الوزير السابق مصطفى الرميد أيضا، غير أن الإكراهات لم تسمح إلا بإحالة جزء معين، وإذا كنا قد أخذنا 4 سنوات دون أن نصادق على هذا الجزء، فلنتخيل كم سيتطلب الوقت لإجراء مراجعة شاملة، قد نذهب إلى 40 سنة أخرى. كما أذكر السيد الوزير أن مشروع المسطرة الجنائية نفسه، محتجز في مكان ما في الدواليب الحكومية لا نعرف أين بالضبط ولا الجهة المسؤولة عن تأخيره كل هذه السنوات، كما نعلم وهو ما يعلمه السيد الوزير أيضا أن الكثير من الحقوق والحريات الدستورية مرتهن بمسطرة جنائية جديدة، وبذلك نتمنى منه أن يحيلنا قريبا على البرلمان بمقاربة شاملة ومنظور حقوقي وسنكون له سندا في تسهيل المصادقة عليها. مرة أخرى، أؤكد أن الإثراء غير المشروع هو موطن الخلاف ولا ينطوي على أي مزايدة ولا يشكل أي تشويش، إنها الحقيقة التي عشناها يوما بيوم منذ 2016، وعلى من يريد التفاصيل أن يتصل بنا لنمده بها بكل مسؤولية ومصداقية لأن المادة الجنائية ليست مادة للمزايدة أو المقامرة الانتخابية وأظن أن كافة الأطراف لها من النضج ما يجعلها تعي ذلك جيدا. نحن إذن، إزاء بلوكاج مرتبط باختلاف حول مضامين قانون سيخرج لأول مرة إلى حيز الوجود، وهذا أمر طبيعي يجب ألا نهرب منه أو نتحرج منه لأنه يحدث في كل برلمانات العالم وداخل الأغلبيات أيضا، وهو ما يتطلب حوارا ناضجا يتم فيه الاستماع إلى التخوفات ومختلف الأسئلة لإيجاد حل، أما منطق البلوكاج والتقاطب وتبادل الاتهامات فلن يكون مفيدا للعملية التشريعية. الحريات الفردية، هل هي من كوابح هذا القانون؟ بكل وضوح، لا علاقة للحريات الفردية ببلوكاج القانون الجنائي، ففي الولاية السابقة التي ناقشنا فيها القانون ووصلنا إلى مرحلة إيداع التعديلات، لم نناقش فصول الحريات الفردية بصفة مطلقة، ببساطة لأن النص المحال من طرف الحكومة لم يتطرق لها. وفي الولاية الحالية لم يحضر هذا النقاش مطلقا السبب ذاته إلى أن تفجرت قضية الصحافية هاجر الريسوني، فانتبه الناس إلى أن الفصول التي توبعت بها توجد في نص معروض على البرلمان. وهنا أؤكد أن تعديلات الأغلبية المتوافق عليها، والتي جرى إيداعها لم تلامس فصول الحريات الفردية، لأن هناك إشكالا مسطريا، علما أن رئيس الحكومة وأعضاء البرلمان يمكنهم في أي لحظة، بموجب المبادرة التشريعية الممنوحة لهم دستوريا، وضع مقترحات لتعديل الفصول التي يريدون، وبذلك لم تعرقل الحريات الفردية القانون الجنائي، ما عرقله فعلا وقولا، هو الإثراء غير المشروع. هل يمكن أن يرى النور في عهد الحكومة الحالية؟ أتمنى أن تتحمل كل الأطراف مسؤوليتها، وأن تتعامل بنضج مع موطن الخلاف ومحاولة تجاوزه لأن المشروع الحالي يتضمن مقتضيات مهمة ذات بعد حقوقي، سواء على مستوى الملاءمة مع الاتفاقيات الدولية أو الإجهاض أو العقوبات البديلة أو غيرها. نحن نؤمن أن عدم إدراك الكل لا يعني ترك البعض، وإلا فانتظارنا سيطول ولن نصل إلى شيء. أظن أن الفرصة لاتزال قائمة للمصادقة على النص في هذه الولاية، وعلينا مد جسور الحوار المسؤول بيننا، خاصة مكونات الأغلبية الحكومية المختلفة الآن، كما أن الحكومة عليها أن تتحمل مسؤوليتها تجاه نص أودعته في البرلمان ولم تقم بسحبه وهو ما يعني قرار الاستمرار في الانخراط في مسطرة التشريع. وأخيرا، أظن أن ما جاء به المقترح الحكومي بخصوص الإثراء غير المشروع، هو الحد الأدنى الذي أفرزه توافق سياسي صعب في المجالس الحكومية منذ الولاية السابقة، مع التوكيد على أن تخوفات الانتقائية واستغلال النص لتصفية الحسابات لا علاقة لها بالنص في حد ذاته، واعتبرها مشروعة ومؤسسة غير أن النقاش بخصوصها نقاش يجب أن يجري في إطار آخر.