تعيش الحسيمة، التي لطالما عُرفت ب »جوهرة البحر الأبيض المتوسط »، أزمة صامتة تختفي خلف واجهات مُرمَّمة وشعارات سياحية برّاقة. غير أنّ حقيقتها تكشف مدينة مثقلة بقرن من الارتجال العمراني، والانقطاعات التاريخية، والمشاريع المعلّقة. وتتبع مسارها — انطلاقا من جذورها الاستعمارية إلى الأوراش الكبرى في القرن الحادي والعشرين — يوضح لماذا ما زالت تكافح كي تصبح حاضرة منسجمة، نابضة بالحياة، وتليق بمكانتها على ضفاف المتوسط. مدينة بلا خيط ناظم في الفكر العمراني المعاصر، يشدّد باحثون من أمثال كليمان-نويل دودي على فكرة أساسية: المدينة ليست يومًا عملاً منجزًا يُغلق قوسه. فهي ليست مجرد تراكم لمبانٍ أو منشآت، بل كيان حيّ يتشكّل عبر التاريخ والذاكرة والإرادة الجماعية. وحين تفقد المدينة هذا الخيط الناظم، وحين تتحول من دينامية مشتركة إلى مجرد تراكب لأوراش تقنية، تغدو فضاءً مشوشًا، بلا أفق ولا روح. والحسيمة، تلك اللؤلؤة المتوسطية التي اختُزلت طويلًا في شعار سياحي، تجسّد – بكل أسف – هذا المسار المبتور. النظرة المتأنّية إلى هذه المدينة تكشف عن عمرانيّة مضطربة، وغياب رؤية استراتيجية، وعجز مزمن عن تحويل طاقة استثنائية إلى مشروع جامع ومهيكل. فالخيارات المعمارية الأخيرة — من ساحات أُعيد تهيئتها بلا روح، إلى أحياء نبتت من غير خيط ناظم — تجسّد فقرًا جماليًا وضعفًا في الارتباط بالذاكرة الثقافية. لقد انقلب الفضاء العام إلى مشهد وظيفي جامد، منزوع الرمزية، بينما كان بوسعه أن يتحوّل إلى حاضن لذاكرة جماعية. والسكان، وإن وجدوا إسمنتًا جديدًا يلمع، فإنهم لا يجدون فيه صدى لهويتهم. ثلاث محطات لعمران مفكَّك تروي المسيرة العمرانية للحسيمة تاريخًا من الانقطاعات التي صاغت فضاءها وعمّقت اختلالها الراهن. ففي كل محطة لم تنمُ المدينة ككائن حيّ يتطور بشكل متواصل، بل كحصيلة لقرارات متفرّقة، كثيرًا ما جاءت منبتّة الصلة عن ذاكرتها وجغرافيتها. وبدل أن تتبع مسارًا ديناميًا متماسكًا، تراكمت القطيعات وتراصّت الطبقات بلا خيط ناظم، تاركة وراءها مدينة مشرذمة، تفتقر إلى الانسجام والملامح الواضحة. الحسيمة قبل البداية المرحلة الأولى (1925): تأسيس على إيقاع الحماية الإسبانية تعود البدايات إلى سنة 1925، حين شُيِّدت المدينة في ظلّ الحماية الإسبانية بعد الإنزال العسكري. آنذاك حُمِلت اسم فيّا سانخورخو، وظهرت من العدم، من غير نواة سابقة أو مَدينة عتيقة يُحتفى بها. كان الموقع الأول المقرَّر في سهل أجدير/سواني، لكن القرار انتقل في النهاية إلى الموقع الحالي — ويُروى أنّ ذلك جرى تحت تأثير عشيقة الجنرال الإسباني ميغيل بريمو دي ريبيرا، المدير العسكري لإسبانيا حينها — في ما يكشف منذ البداية طابعًا اعتباطيًا ومزاجيًا للاختيار المؤسِّس. رسم المهندسون والمعماريون الإسبان شبكة هندسية صارمة بخطوط متقاطعة، تتمحور حول ساحة مركزية واسعة، وإلى جانبها حيّ من الشاليهات-الحدائق المستوحاة من الطرز الأوروبية. لم تُصمَّم المدينة كتعبير عن مجتمع محلي ناشئ، بل كأداة للسيطرة والضبط العسكري، وهو ما جعلها تحمل منذ لحظاتها الأولى بذور عمران غريب عن التقاليد الثقافية والجغرافيا الريفية. الحسيمة، في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين المرحلة الثانية (ابتداءً من 1975): توسّع ارتجالي وأزمة عقارية مع منتصف السبعينيات، وتحديدًا سنة 1975، دخلت الحسيمة مرحلة جديدة حين أطلق المجلس البلدي المنتخب أوراش التوسعة العمرانية عبر أحياء مثل المنزه وباريو أوبريو وباريو حدو. غير أنّ هذا التمدّد جرى على أنقاض الغابات التي كانت تمثّل آنذاك الرئة الخضراء للمدينة، من دون رؤية متكاملة أو وعي بالتوازن البيئي المطلوب. في الخلفية، كانت القضية العقارية تزيد المشهد تعقيدًا: فالملف المعروف ب« ماركيز دي كوبا»، الموروث عن زمن الحماية، شكّل رمزًا لعمليات استحواذ مشبوهة على الأراضي، بلغ صداها حدّ أن يُوصَف بعضُها ب«سرقة القرن». وما زالت ضبابية هذا الملف وتشابكاته القضائية الممتدة إلى اليوم تكشف عن ثقل الهشاشة العقارية على شرعية العمران المحلي. منذ تلك الحقبة، بدأ يتبلور الاضطراب العمراني الذي يطبع الحسيمة إلى يومنا هذا: نموّ متقطع تحكمه الارتجالية بدل التخطيط، وتراجع فيه الفضاء العام من إطار منظم وذاكرة مشتركة إلى مشهد وظيفي جامد، منزوع الرمزية والمعنى. الحسيمة، في مطلع خمسينيات القرن العشرين المرحلة الثالثة (منذ مطلع الألفية): وفرة المشاريع وتعمّق التشرذم مع بداية الألفية الجديدة، دخلت الحسيمة مرحلة جديدة مع تدفّق فاعلين عموميين كبار مثل صندوق الإيداع والتدبير (CDG) ووكالة التعمير والتنمية (ERAC) ومجموعة العمران، عبر برامج ضخمة أبرزها منارة المتوسط. فأُطلقت مجمّعات سكنية وفنادق وتجزيئات وتجهيزات متنوّعة، وانضم إليهم لاحقًا مستثمرون خواص من أبناء المدينة. لكن هذه الاستثمارات، على أهميتها وحجمها، لم تُبنَ على رؤية حضرية متكاملة، بل تراكمت فوق بعضها البعض في غياب خيط ناظم يربطها بمشروع موحّد للمدينة. وهكذا تعزّزت هشاشة النسيج العمراني وتعمّق تفتته. تغلّب المنطق العقاري والاقتصادي على التفكير الشمولي، فتجسّد بذلك مفارقة لافتة: مدينة تتزاحم فيها الأوراش وتتعاظم المشاريع، غير أنّ كثرتها لم تنتج انسجامًا أو توازناً، بل عمّقت الفوضى التي كان يُفترض أن تعالجها. الحسيمة، مدينة الزمن الحاضر حكمة التراث المعماري الريفي يقدّم التراث المعماري للريف مشهدًا متوهّجًا يفضح التناقض مع الفقر الجمالي الذي يسم العمران المعاصر. فالعمارة التقليدية، التي تبلورت عبر قرون في جبال وعرة، تحمل بصمة حكمة بنائية تستند إلى البساطة والوظيفة. جدران حجرية سميكة تقي من حرّ الصيف وقسوة الشتاء، أسقف مائلة لتصريف أمطار غزيرة، وأفنية داخلية تنظم إيقاع الحياة العائلية: كل عنصر فيها يولد من ضرورة، بلا زخرف زائد ولا تكلّف. هذه البيوت لا تهيمن على المشهد الطبيعي بل تنصهر فيه، مستندة إلى مواد محلية وأشكال متناغمة. ويذكّرنا هذا النموذج، الموروث عن تاريخ طويل من التكيّف، بأن البناء ليس تراكماً للإسمنت، بل فنّ ابتكار فضاءات تحفظ للإنسان كرامته وتُطيل عمر الذاكرة الجماعية. حاضر يفضح مواطن العجز يؤكد الحاضر صواب هذا التشخيص. فقد جاء صيف 2025، الذي قُدِّم على أنه موسم استثنائي، ليكشف عن عمق الاختلالات البنيوية. فعلى شواطئ الحسيمة انفجرت الفوضى السياحية على مرأى الجميع: احتلال عشوائي للفضاء العمومي بصفوف من الكراسي والمظلات ، وتأجير غير منظم للشقق بعيداً عن الأطر القانونية، واكتظاظ في الممرات والمداخل، وانتشار للتسول، وغياب لأي تأطير فعلي. وهكذا، بدل أن تعكس المدينة صورة إشعاعها الطبيعي، بدت كمنتجع منهك عاجز عن ضبط شواطئه أو توفير خدماته الأساسية. ومن دون مرافق صحية عمومية على طول الساحل، ومن دون مراقبة للأنشطة غير المهيكلة أو قواعد واضحة لتنظيم الاستغلال البحري، تحوّل أهم رصيد للحسيمة إلى مصدر إحباط واستياء. أما التوصيف الممجوج ب «جوهر المتوسط» فلم يفعل سوى إبراز الفجوة السحيقة بين الخطاب والواقع. مدينة عالقة في مسارها غير المكتمل يدعونا دوادي إلى النظر إلى المدينة كمسار دائم التشكّل، لا كمجموع حلول ظرفية، بل كدينامية حيّة تصل الماضي بالحاضر والمستقبل. غير أنّ هذا المسار يبدو في الحسيمة وكأنّه توقّف في منتصف الطريق. كل قرار أشبه برقعة مؤقتة، وكل ورش يتعامل معه كغاية قائمة بذاتها. تنمو المدينة على إيقاع متقطّع، بمبادرات متنافرة تفتقر إلى التنسيق، من غير أن تتجه يومًا نحو أفق مشترك. تُغضّ الأبصار عن استمرارية الفضاءات، وتُهمل الحاجة إلى الربط بين النقل والسكن والفضاءات العامة. فتتشكّل في النهاية صورة متجاورة الأجزاء، مشرذمة، تعجز عن أن تمنح السكان أو الزوار إحساسًا بمشروع حضري جامع أو رؤية متماسكة رسم مسار جديد ومع ذلك، فكل شروط الانطلاق نحو مسار آخر متوافرة. فجغرافية الحسيمة — بشواطئها البهيّة، وتضاريسها المنيعة، وانفتاحها على المتوسط — تمنح قاعدة فريدة لتصوّر مدينة تنسج حوارًا حيًّا مع البحر والجبال. أما تراثها المعماري المحلي، المجبول برموز ومعارف متوارثة، فيمكن أن يلهم عمرانًا يثمّن الثقافة ويؤسس لرهان الاستدامة البيئية. وذاكرتها التاريخية، الموشومة بنضالات ورموز بارزة، قادرة أن تتحوّل إلى دعامة لهوية حضرية واثقة ومنفتحة. غير أنّ ما ينقص هو الرؤية الاستراتيجية، والحكامة البصيرة، والطموح الجماعي: القدرة على تحويل هذه المؤهلات إلى مشروع مهيكل ومتكامل. فطالما ظلّت الجماعة تكتفي بالترقيع، وتُطلق أوراشًا متفرقة، وتتعامل مع الفضاء العام كمساحة تُملأ لا كحكاية تُكتب، ستبقى المدينة رهينة مسارها غير المكتمل. إن التحدي الحقيقي ليس في تضخيم البنى التحتية، بل في إعادة الروح إلى الأمكنة، وصل الفضاءات ببعضها، وإشراك السكان في صياغة أفقهم الحضري. استعادة الانسجام الحي تمنح فكرة دوادي عن المدينة كمسار متواصل للحسيمة أفقًا توجيهيًا واضحًا. فالمدينة لم يعد يليق أن تُختزل في ديكور سياحي أو ورش أبدي مفتوح، بل أن تُتصوَّر ككائن حيّ تتراكم تدخلاته في استمرارية عضوية: حيث تُنير الذاكرة دروب الحداثة، ويلتقي البُعد الجمالي بالوظيفة، ويتحوّل العمران إلى حوار دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل. المسألة، في جوهرها، ليست في كثرة البناء بل في جودته؛ ليست في إضافة كتل إسمنتية جديدة، بل في نسج خيط من التناسق الغائب، وفي إعادة الروح إلى عمران يتعطّش إلى حياة نابضة ومعنى مشترك. أولوية تفرض نفسها تتمثل الأولوية أمام الحسيمة في تحويل الفوضى الراهنة إلى دينامية تحمل ملامح الغد. ويعني ذلك توجيه الاستثمار نحو خدمات عمومية أساسية، وتنظيم النشاط السياحي بإنصاف، وإبراز قيمة العمارة المحلية، وابتكار فضاءات تُغذّي روح الألفة وتُرسّخ الانتماء بدل أن تُفاقم الارتباك. ويعني أيضًا تبنّي حكامة واعية تكفّ عن التهرّب من المسؤولية، وتملك شجاعة رسم خارطة طريق بعيدة المدى، تتكامل فيها الاستدامة مع الثقافة والاقتصاد في نسيج واحد متوازن ومتماسك. رهان مفتوح على المستقبل إذا قبلت الحسيمة هذا التحدي، ستستعيد موقعها كمدينة للتماسك والفخر الجماعي، كحاضرة متوسطية لا تكتفي بجذب الصيف، بل تؤمّن طيلة العام فضاءً يليق بذاكرتها وبأهلها. أمّا إذا أدارت ظهرها، فستبقى أسيرة مفارقة المسار غير المكتمل: مدينة تملك من المؤهلات ما لا يُحصى، لكنّها محكومة باللاانسجام وبإحباط متجذّر. فمستقبل الحسيمة لا يُحسم في مؤسسة واحدة، بل في تلك المعادلة الحسّاسة التي تصل بين العامل ورئيس المجلس والمواطن. ومن قدرة هؤلاء على مزج السلطة بالتدبير والمشاركة، تنبثق إمكانية تجاوز الارتجال وبناء مدينة حيّة، تحفظ الذاكرة وتفتح أبوابها على أفق جماعي واعد.