السنتيسي: "الحكومة فشلت في ترجمة وعودها الانتخابية ما دفع المواطنين للاحتجاج"    حصري: قنصلية المملكة المغربية بباليرمو تحتفي بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المجيدة    الفريق الاستقلالي بمجلس النواب يشيد بالقرار الأممي حول الصحراء ويؤكد دعمه لقانون المالية 2026    على هامش تتويجه بجائزة سلطان العويس الثقافية 2025 الشاعر العراقي حميد سعيد ل «الملحق الثقافي»: التجريب في قصيدتي لم يكن طارئاً أو على هامشها    قصيدتان    سِيرَة الْعُبُور    محكمة ألمانية تنصف غازي أمام ماينز    وفد من الجمعية المغربية لرؤساء مجالس العمالات والأقاليم يشارك في منتدى الجمعية الفرنسية    سقطة طبّوخ المدوّية    المسلم والإسلامي..    سدس عشر نهائي مونديال قطر لأقل من 17 سنة.."أشبال الأطلس" يرغبون في الزئير بقوة أمام المنتخب الأمريكي    "فيفا" يكشف حكام مبارتي "الأسود"    اختبار مزدوج يحسم جاهزية "أسود الأطلس" لنهائيات كأس إفريقيا على أرض الوطن    تساقطات مطرية تنعش السدود والمزروعات والجديدة وآسفي تتصدران بأعلى المعدلات    الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة - مقاربة استراتيجية    امطار متفرقة مرتقبة بمنطقة الريف    نجاح واسع لحملة الكشف المبكر عن داء السكري بالعرائش    الوكيل العام يكشف خيوط "شبكة إسكوبار الصحراء" ويلتمس إدانة المتهمين    ثَلَاثَةُ أَطْيَافٍ مِنْ آسِفِي: إِدْمُون، سَلُومُون، أَسِيدُون    اليابان تسمح للشرطة باستخدام الأسلحة النارية لمواجهة انتشار الدببة    وزير الداخلية يدافع عن تجريم نشر إشاعات تشككك في نزاهة الانتخابات.. لا نستهدف تكميم الأفواه    "ملايير الدراهم لا نعرف هل تصل إلى المواطن أم لا".. التويزي يدعو إلى تقييم دعم الدقيق والغاز    المغرب يستأنف الرحلات الجوية مع إسرائيل اليوم الخميس    وزير خارجية مالي: سيطرة المتشددين على باماكو أمر مستبعد    المجلس الاقتصادي والاجتماعي يوصي بإجراء تقييم مرحلي للإصلاح الجبائي وقياس أثره على المقاولات الصغيرة    تقرير رسمي يسجل تنامي الجريمة في المغرب على مرّ السنوات وجرائم الرشوة تضاعفت 9 مرات    انتعاش مؤشرات بورصة الدار البيضاء    المنتخب الوطني يجري آخر حصة تدريبية بمركب محمد السادس قبل التوجه إلى طنجة    موريتانيا تُحرج البوليساريو وترفض الانجرار وراء أوهام الانفصال    قمة المناخ 30.. البرازيل تقرر تمديد المحادثات بشأن قضايا خلافية شائكة    مجلس ‬المنافسة ‬ومندوبية ‬التخطيط ‬يستعدان ‬لوضع ‬النقط ‬على ‬الحروف الكشف ‬عن ‬جشع ‬الوسطاء ‬والمضاربات ‬غير ‬المشروعة    مباحثات تجمع بنعليلو برئيس "الأنتربول"    بعد القرار 2797.. تغييرات إدارية في بعثة "المينورسو" تمهد لمرحلة جديدة من الإصلاح    إسرائيل تشن غارات في جنوب لبنان    الكونغرس يقرّ إنهاء الإغلاق الحكومي    تراجع أسعار النفط لليوم الثاني على التوالي    بالصور .. باحثون يكتشفون سحلية مفترسة عاشت قبل 240 مليون عام    المديرية الإقليمية للشركة الجهوية متعددة الخدمات ابن مسيك سيدي عثمان مولاي رشيد سباتة .. تدخلات متواصلة لصيانة و تنظيف شبكة التطهير السائل    كيوسك الخميس | المغرب يضاعف إنتاج محطات تحلية المياه عشر مرات    افتتاح مركز دار المقاول بمدينة الرشيدية    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    برنامج طموح يزود الشباب بالمهارات التقنية في مجال الطاقة المستدامة    ديمقراطيون يكشفون عن رسائل مسرّبة تكشف اطلاع ترامب على فضائح إبستين الجنسية قبل تفجّرها    تعاون أمني مغربي–إسباني يُفكك شبكة لتهريب المخدرات بطائرات مسيرة    انبعاثات الوقود الأحفوري العالمية ستسجل رقما قياسيا جديدا في 2025    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    أشبال الأطلس يرفعون التحدي قبل مواجهة أمريكا في مونديال الناشئين    الحكم الذاتي: من الإقناع إلى التفاوض إلى التطبيق ..    توقيع اتفاقية شراكة بالرباط للنهوض بالثقافة الرقمية والألعاب الإلكترونية    أربعة منتخبات إفريقية تتصارع في الرباط على بطاقة المونديال الأخيرة    "الماط" يستغل تعثر شباب المحمدية أمام اتحاد أبي الجعد ويزاحمه في الصدارة    ليلة الذبح العظيم..    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر الناظوري جمال أزراغيد يسرق النار في ديوانه " غنج المجاز"
نشر في أريفينو يوم 19 - 09 - 2013

بوارق لون الضياء ، في الصورة، أصابع إبداع فني، تؤطر اسم الشاعر، و جانبا من عنوان الديوان . بينما حروف بيضاء تشكل من جهتها هي الأخرى اسم الشاعر، ثم تتابع سيرها نحو ظهر الغلاف لتنتشر جزءا من قصيدة ، أبية الشرود، رغم التكسير، الذي يشوب أبياتها، على مستوى الشكل. فهي منتظمة كما هو شأن النظم في اللغة قطعة من قصيد، منتشية برقصها الخفي، على إيقاع خلاخلها المتمردة عن كل صوت غير صوتها. و كذلك هو شأن باقي قصائد الديوان. فهي جريئة . تكسر كل الأصنام القديمة. تخترق السماوات المفنوحة ، عبر " الصحون المقعرة ". و ترطن بلغة الآخر من خلال " msn " . من غير" ذهول" ، تلج منظومتك االلغوية/ الشعرية، تعبث بمحتوياتها القديمة، تتلف كل تعاويذك النقدية، ثم تتأبط أسرارها. تشدك من متاهاتك. و تنزل بك الى الحياة بكل صيرورتها، و مستجداتها .
العنوان ، رغم كل التباساته البيانية و اللعبية ، إشارة مرور إلى فضاء شعري حداثي، يمارس فيه الشاعر إبداعه الخاص، و يؤسس لوجوده كشاعر يمتلك ملكة النظم و التركيب ، الذي يلحم اللغة الشعرية بالنبض و الإحساس بالحياة بالفعل.
العنوان يوجه القارئ ، نحو خلفية بلاغية ، يومض فيها " المجاز " ، كمكون أساس في بناء اللغة الشعرية. غير أن القصائد لا تدعي بذخا في فنون البلاغة التقليدية، بقدر ما هي تقترب من لغة يكمن جمالها في تناسق بنياتها، تبهر المتلقي و لا ترهقه ، تمتعه و تفيده في نفس الوقت. 4
كما أن كلمة " غنج " التي تسبق لفظة " مجاز " ، في العنوان، و من خلال موقعها التركيبي، تشير إلى تمويه جميل و دال، يوحي بمدى تمنع قصائد الديوان على تقنية "المجاز" في صورته التقليدية ، لتنتظم نصوصا ذات " قول" خاص مغاير لقول الكل، تراكيبها اللغوية ، تبحث عن حياة جديدة للألفاظ .
و " غنج على شنج"، جملة متداولة عند العرب ، بمعنى " رجل راكب " . وهو مدلول يفتح لنا آفاق أخرى للقراءة في نصوص القصائد، نلاحق عبرها، ملمحا، تشي به الأبنية الفنية لقصائد الديوان. حيث يمكن أن يكون الشاعر قد استلهمه، لينحت ذاته الشاعرة، كفارس للغة. يمتلك نواصيها. منها يقد أصالته و حداثته ، و بالتالي هويته الشعرية . يسك صور مخياله الشعري ، بلغة غير نمطية و لا معيارية ، و إنما هي لديه، إشراقة فنية ، مقتطفه من شعلة الأوليمب. بها صاغ أفكاره . ونضد رؤاه . ثم جسدها صورا شعرية، منصهرة من نفسه الشعري . مطعمة بروح عصره.
إذا آمنا بالنظرية القائلة بأن للنص الشعري " إشاراته"، و للقارئ خلفيته المعرفية، فإن قراءتنا للنصوص، أمدتنا بإشارات، جعلتنا ننساق وراء هذا الملمح. و هي محاولة استقرائية، تبررها، صعوبة تصديق أن الشاعر المحاصر بمناخ عصره، بكل ما يروج فيه اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا و إعلاميا و تقنيا ، يسلمك بطاقة هوية قصائده عند بوابة الديوان.كما أن قصائد الديوان، بكل ألوانها الذاتية و الموضوعية، حافلة بالصور المبتكرة. أبنيتها الشعرية، منفلتة من ربقة القواعد البلاغية التقليدية ، للبناء الشعري. و معجمها اللغوي ابن شرعي لعصره.
في هذا السياق نأخذ مثلا على هذا ، قول الشاعر في قصيدة " وتر الملكوت ":
ادع قلبك أن يتشمم عطر الحياة
صحبة امرأة
تمازح الشمس
عبر ال MSN
أناملها شاشة تومض بالعالم 5
و قبل أن نسائل قصائد الديوان ، عن مدى علاقتها بالعنوان. يستوقفنا الإهداء، حيث في البدء كان الجدة. " ينبوع المجاز في زحمة الحياة"، حضن يتسلل إليه الشاعر ، فضاء مليء بالأسرار . وهو من جهة أخرى، ينبوع لديه من التجارب، ما يفرض ضرورة ابتداع و خلق لغة، قادرة على احتواء الأفكار التي أنضجتها. لغة لحمتها جذور الهوية الأصيلة ، وسداها مكونات المجتمع الحديث ، بتقنياته و عقلانيته. فانتظمت وعاء شعريا بللوريا ، يعكس درجة الوعي الفني باللغة على حد قول تودوروف بهذا الخصوص :" هناك دائما وعي باللغة في أساس كل موقف أدبي". 6
الجدة رمز الجذور ، و دائرة معارف عن كيفية اكتشاف " المعرفة بالعيش " le savoir de vivre". ينبوع يمد الشاعر بالزاد المعرفي بالحياة. غير أننا ، في سياق اختيارنا لمسلك التوظيف الجمالي للغة الشعرية ، في قصائد الديوان ، محكومون بأن نأخذ بقولة تودوروف :" ليس هناك من جملة واحدة في العمل الأدبي ، يمكن أن تكون بحد ذاتها انعكاسا بسيطا لمشاعر المؤلف الخاصة ، و إنما هي دائما تركيب و لعب"7 . فلا بد أن نأخذ في الاعتبار، أن المشاعر و الصور، ،هي بنيات شعرية تنبئ عن علاقة تفاعلية ، تربط الشاعر بمجتمعه ، وتوضح موقفه من الوضع الإنساني العام . . الجدة ينبوع تجارب، يلقي بالشاعر في مرجل الشعر، فيه يصهر لغته. فالشعر، كما يقول هايدغر، لا يقبل اللغة ، كمادة يجب صياغتها. بل هو يرى أن الشعر هو الذي يجعل اللغة ممكنة. يوشي الشاعر كل هذا ، قي قصيدته " غبطة الروح" ، إلى أن يقول :
في شرفة الوطن العالي
أتفقد لغتي المحروسة بإذن الحياة
أحفرها على الجسد وشما
يتناسل
في رحيب الدهر
تتناقله الجدات نياشين على سدة الجبين8
و انطلاقا من حضورها الملهم، استحقت الجدة إهداء الديوان. رمزية الجدة ، لها حمولتها . تلخص فعل الوجود الإنساني . فعل الامتداد في سنين العمر، حيث تتناسل الأزمنة، و تتجدد التجارب…والشاعر خزان التجارب. تتوزع هذه الحمولة الدلالية ، بين المتون الشعرية للديوان ، تناصا يمتح من الموروث الديني و الشعري و الاجتماعي . ليضيء بإيماءاته ، معان أفكار و تصورات عن الجمال ، و عن القيم. و عن ظواهر مجتمعه، و مستجدات عصره.
" الحداثة، هي ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة، من التقنية و العقلانية و التعدد و التفتح"9، و لغة القصائد تحمل بعضا من هذه الملامح . حيث التفتح قد يجد منفذه عبر الشاشة . يقول الشاعر في قصيدة " غنج المجاز " ، الذي سمي الديوان بميسمها :
إذا أينعت رؤوس الذبذبات
فوق بحر سحيق
يرتدي عمر السحاب
حين تساقط قرب يدي...؟
و أنا ألف الشاشة في آخر الطريق..
هل من عين تسائلني
نبيذ الهوى المضبب بالهفوات؟10
تتكلم قصيدته " زهور اليباب " ، عن استسلام لغته لغواية الحداثة ، قائلة :
آه من نار تدنس بعضي
أن استتر في فيوض العشق
يقنبل مهدي المهرب على كتف "هابيل"
في صقيع الفلوات.
لا حاجة لي إلى ورق التوت
لأخفي عورة لغتي
المجللة بأردية الغواية11
يتكئ الشاعر ، على تقنية " التناص". يؤسس بها لغته الحداثية في القصائد ، يلقحها بترصيع لغوي، مأخوذ سواء من المعجم اللغوي لمستجدات الحياة في عصره ، أو من إشارات دالة لنصوص شعرية من التراث.
توزعت تقنية التناص،في المعمار اللغوي للقصائد ، فسيفساء تعبيريا، يضخها بطاقة إضافية، على الإيحاء بالمعاني ، وعلى الإيماء للمتلقي ، بهوية الشاعر الوجودية ، و جذورها الثقافية ، و الدينية، والاجتماعية . ويبدو هذا بصورة مكثفة في قصيدة " عاصفة خيل " . يفرخ التناص تركيبا وصورا ، ابتداء من اسم " مريم "، الذي يمثل حجر الأساس لثقل حمولته الدلالية في توليد الصور الشعرية بالقصيدة . يقول :
مريم تصحرت قياثر خصيبها
إلى أن يقول :
أن ينفث فيها روحا
ثم يقول :
مريم يسحبها المخاض إلى الوليد 12
قبل أن ينتقل ، إلى تناص من نوع آخر، وهو موروث الشعر العربي القديم ، حيث يشير إلى قصيدة لامرئ القيس، من خلال البيت التالي:
الليل...مضت عليه فصول و لم ينجل 13
وكلما غصنا في استقراء أكناه اللغة و الدلالة ، تبدى لنا كيف أن الشاعر ينثر تناص الكلمات و المفردات ، رذاذ عطر ، هو مزيج من رحيق الماضي ، و مستقطر الحاضر ، يدبج بها، قصائد من وحي مخزون الذات المبدعة.
و حتى عندما يتجاوز إدراكه واقعه ،و يلجأ للخيال لولوج عوالم أخرى ، قد تكون ملكات أخرى للعقل المبدع ، يلجأ الشاعر، إلى تزويد الأشياء الخالية من الحس ، بالشحنة الحسية اللازمة، و كل ذلك عن طريق لغة ينحتها، يستنبت لها حقولا أخرى للتلاقح ... يحيكها ضمن نسيج علائقي ، من إبداعه ... و يتيح لها إمكانات لخلق " مجاز" من طراز آخر.يقول في قصيدة " قاع الورد":
من قاع الورد
الطارد للهواء الغبي من نقطة العراء
تجيء قمرا ضئيلا
يحرس سقف الكون
من هشاشة الأوزون14
و تتوالى أبيات القصيدة ، تنسج عالمها الخاص، أردية من حداثة ، بختم مفرداتها . من " الأوزن" ، الى " هيروشيما " ، إلى " مصحة التجميل" الى أن يقول :
" تنح عن جسدي ...و تنغم بعولمة الوجوه".15؛ بامكاننا أن نتكلم عن لغة القصائد بطريقة مبهجة و مبتكرة على حد تعبير " تودوروف" ، حيث الاستعمالات اللغوية في القصيدة ، تجذر لمفردات ، من حقول لغوية مستجدة تاريخيا و حضاريا و اجتماعيا. وهو يكاد يبرر ذلك من خلال باقي أبيات القصيدة حين يقول :
من قاع الورد
تجيء
و أنا حاضن للنهر في رئتي
أحبس مصبه في هويتي
أكفن أنفاسه
بلغتي
)ما عرفت أن رئتي أوسع من النهر(16
الشاعر محتضن لحضارة عصره....يروض لغتها لتخدم شعره هو. اللغة مسكن الكينونة كما يقول هايدغر و الشعر يركز الانسان في عمقه الإنساني. و هذا ما جعلنا نضع النصوص الشعرية للديوان ، في سياقها التاريخي ، الذي يحيلنا بدوره على السياق الاجتماعي. حيث أن مساحة الحرية ، التي امتلكتها القصيدة الحديثة، وفرت للشاعر مناخا شعريا أرحب، لتقديم موضوعات قصائده ، في لغة مفعمة بنفس إنساني يتراوح بين الذاتي و الكوني.
يقول أمبرتو إيكو بهذا الخصوص: " ففي لهجات الشاعر ، و في كل إبداع من صنيعه الفكري ، نجد الإنسانية و بؤسها. كما نجد مأساة الواقع برمتها.تتمرأى ، و تتعاظم بشكل مستمر في شخصه المعذب، و المنعم"17؛و بالديوان قصائد متزرة بغنائية، مشحونة بالانفعالات. تقدم وصفا فنيا ، للشخوص ، و المواقف ، و المشاعر، بلغة تؤكد انفلات قصائد الديوان ، من ربقة المدونة البلاغية القديمة، التي يشاكسنا بها العنوان. تشدنا إلى حالة من حالات الشاعر الوجدانية . تعكس تحولاته النفسية ، من خلال تجربته الذاتية. انطلاقا من القصيدة الأولى بالديوان " شهد العواصم" ، التي افتتح بها الشاعر جمال أزراغيد ، ديوانه، قائلا :
جاءتني....
امرأة غزاها روف الأصيل
في غربة الأنا
تستنسخ حلمها
بلهفة الريح
الى أن يقول :
ما لعينيك الكحيلتين بالأسرار
تلامسان عميق الروح
بهبة الكبد ؟ 18
مشهد حواري ، أحادي الصوت، لسارد ، يروي حكاية عشق/سراب ، يتموج على حواف أزمنة نائية، أشار إليها الشاعر بصورة مكثفة للأزمنة بقوله " روف الأصيل " ...مشيرا الى زمن آخر، إشراقة الصبا في عمر المرأة. استدعتها لحظة آنية، هي لحظة الرحيل. يسترسل الشاعر في حواريته :
إن شئت سيدتي.......
الذاهبة
في شهد العواصم
بعد أن تركت البحر أمامي
أعبه على الضجر
وحيدا19
صور تداعيات فعل الرحيل ، تقلق ذات الشاعر. " تركت البحر أمامي أعبه على الضجر" خطاب بلغة الحسرة. مرة أخرى ، مشهد الرحيل يخترق المنام "المدلل" للشاعر، في قصيدته " طوق الرحيل "، حيث نجده يقول :
في المنام المدلل
لمحتك...يا شهقة الروح
تمشين بمعية أزهار
ضيعت عيونها
إثر أرض
ستدركها صعقة الخطو المطير..
ليت عماها الأسير
يفك
طوق الرحيل إليها20
تعكس القصائد الثلاثة الأولى ، نفسية شاعر تتلظى بلهيب الفراق، حيث تمضي الغنائية ، صوتا إيقاعيا، ينتظمها. فراق و ليل و عشق. مضخات تزود ذات الشاعر بإمكانات جديدة للغة ، يولد منها وحدات التعبير، عن البوح الشجي. ملهمات الوحي القلق . مولدات شجن يضيء للمتلقي ، معجما لغويا ، مسكوكا من ذات الشاعر و تجاربه الوجدانية. يقول في قصيدته الثالثة ، " ليل في كف الوميض":
.........
كنت أعشقه
حد مدن تذبح صدرها
بغموض بارد
قبل أن يولد أنس الحنين
أن يومض حدس الملك الحزين
إلى أن يقول :
..............
و ما الليل
الا صوتي المذبوح على حافة النهار
إذا ما تلبس بالكائنات
نطق حرفا لا يلين ...
لا يبين...
سوى على ضفة ورق
أضاءته
قناديل الظلام 21
بوح شعري، يرشح بالحنين الى أنس الأمكنة ، من خلال تيمة " الملك الحزين" ، و بإباء الشاعر، و تعاليه على الشكوى،إلا ما كان من حروف ، لا تبين و لا تلين إلا " على ضفة ورق" . لغة ، تنبني جملا فنية ، في هيكل شعري. أبيات تعكس حميمية مشاعر " الأنا المجروحة في العشق الأليم" ، كما جاء في آخر بيت في القصيدة ، و هي قصيدة لغتها غير مغرقة في التجريد . وظيفتها الفنية، اكتساب شعرية الدلالة من خلال نفخ حرارة الأحاسيس في ألفاظها.
مع قصيدة " مقاطع في الحرب " ، تبدأ ذاتية الشاعر تتفاعل مع المشترك الإنساني العام.بعد أن تتخلص الأبيات من هيمنة تاء المتكلم في المقطع الأول، حيث يقول :
كلما
التقيت غاويتي بالمقهى
حدثتني عن مغزى الحب في زمن الحرب
صمت صمت الورد وسع الرماد
همست لها : قريبا ، ترقبي قلبي
قد
يجيئك
رصاصة
في مقتل العمر.
في المقطع الثاني تتحول "الأنا" الى " النحن" حيث نجده يقول :
الآن
ماذا جنينا
من أسرار الحرب
و خطوات العسكر في ارتعاشة الربيع
إلا كلاما على أسرة تخجل من عريها22
قصيدة بنبر المشترك. مع لغة إشارية ، تومئ إلى صورة بانورامية عن حروب ، في زمن تحول فيه العالم إلى " قرية صغيرة " :
العالم قرية صغيرة
لكن الحرب كبيرة
قد تستغرق بعض الخيانة23
القصيدة مركبة من مقاطع هي خرائط لأنواع الحروب و ألوانها، في زمن المذياع، و الكتب الرقمية الملغمة، و الثرثرة السياسية، و " السفن التي تمخر في اتجاه الشرق". قصيدة بطعم هموم الشاعر المعاصر، و مشاهداته للأحداث " التي قد تكون منها حرب العراق....و هيمنة القوى العظمى على أنظمة مشكوك في مصداقيتها...و...و....تعددت القضايا و الهم العربي/الإنساني واحد. إلى أن يمزج ذاته بالعالم صادحا :
بربك أيتها الحرب
خففي قعقعة الخراب
ما أظن هذ الأوطان
إلا من جسدي...24
وهذا ما تمت الإشارة إليه سابقا ، من كون القصائد وردت في سياق تاريخي ، يحيل على الإنساني/الاجتماعي. و سيدعم استنتاجنا هذا ، قصيدتان من الديوان هما " شهيق الأرض" ، عن زلزال الحسيمة و " أسرى الماء" عن فيضانات الناظور . و قصيدة " أريج الثناء"، التي يمجد فيها الفعل التربوي من خلال أطره. قصائد الديوان، مشاهد ناطقة . و رسالة من شاعر أحرق كل الخرائط. و أطلق العنان لرؤاه لتقتطف شعلة أولمب ، مرددا :
و أنا أتفيأ سقطة النار
وسع سماء تتهيأ لي
على سرير يجفف رجليه في سرة الطين25
مضيفا في قصيدة أخرى :
العيون كلها تضيء
فواعجبي ممن لا يستضيء26
الاحالات :
1 ديوان " غنج المجاز " للشاعر جمال أزراغيد الطبعة الأولى 2011 شركة مطابع الأنوار المغاربية وجدة.
2 مدخل الى علم الجمال الأدبي عبد المنعم تليمة ص: 106 الكتاب من منشورات عيون المقالات ط 2 1987 بالدار البيضاء.
3 كتاب " نظرية الأدب " لمؤلفيه : رينيه ويليك و أوستن وارين. ترجمة محيي الدين صبحي. مراجعة د.حسام الخطيب.عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر الطبعة الأولى 1987 . ص : 42
4 مقال ل ا.د. هيرش بعنوان " اتجاهان في التقييم الأدبي" نشرته مجلة عيون المقالاات العدد1 سنة 1986 . ص: 33 بتصرف
5 الديوان : ص : 105
6 مقال لتودوروف ، بعنوان " تطور النظرية النقدية " نشرته مجلة " عيون المقالات ً : ص 14 ، العذذ الأول سنة 1986.
7 مقال ل " تودوروف" نشر بمجلة الفكر العربي المعاصر العدد 38 سنة 1986 ص : 34
8 الديوان ص: 71
9 كتاب مدارات الحداثة للدكتور محمد سبيلا منشورات عكاظ المغرب ط 1988 ص: 91
10 الديوان ص : 47
11 الديوان ص : 43
12 الديوان ص : 38
13 الديوان ص : 39
14 الديوان ص : 100
15 الديوان ص : 103
16 الديوان ص : 104
17 مقال لأمبرتو إيكو بعنوان " المرسلة الشعرية نشرته مجلة الفكر العربي عدد ممتاز 19/18 مارس 1982 ص: 102
18 الديوان ص : 5
19 الديوان ص : 8
20 الديوان ص : 9
21 الديوان ص : 12
22 الديوان ص : 15
23 " " : 17
24 " " : 23
25 : : : 75
26 " " " 56
مع مودتي و تقديري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.