أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعرية المتعالي النصي في
نشر في وجدة نيوز يوم 30 - 08 - 2009


ذ. عبد الرزاق المصباحي/ المغرب/ أسفي
توطئة:
انتخاب شعرية التعالي النصي مدخلا لمقاربة أضمومة الشاعر المتميز إبراهيم القهوايجي " للأزهار رائحة الحزن " ،

انطلق _ بالنسبة إلي _ من علاقة سابقة مع نص " ما تيسر من سفر العيد " ، وهي علاقة قراءة بريئة _ غير نقدية _ ، ألفيت من خلالها أن معطى التناص يخترق عالم النص ؛ بل يشكل بنية القصيدة و يتحكم في مفاتيح قراءتها واستكناه السيرورات الدلالية الكامنة خلف تلك البنية ، و بعد أن وصلتني باكورة الشاعر تيقنت أن التناص منطلَق جوهري ناظم ومركزي : تشتغل عليه قصائد الديوان بأبعاد خاصة و باستحضار متفرد ، بالإضافة إلى التوزيع الإيقوني للدوال البصرية ، و خطاب العتبات من عنونة و عنونة داخلية وإهداء و تقديم ... .
1 - في حصر مفهوم الاشتغال :
المتعاليات النصية مصطلح نظر له الناقد الفرنسي جيرار جنيت في كتابه "عتبات " حيث اعتبره موضوع الشعريات الحديثة ف " موضوع الشعرية (...) ليس هو النص باعتبار تفرده و تميزه _ كما يقول جنيت _ بل موضوعها هو جامع النص (... ) أو الأجدر القول بأن هذا الموضوع هو التعالي النصي " 1 ، و لقد عرفه بأنه " كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى " 2 . هاته العلاقات يمكن أن تكون علاقات تناصية ، مناصية ، ميتانصية ، تعلقا نصيا أو جامع نص . و هي أنواع خمسة تندرج ضمن ما يسميه جنيت التعالي النصي.
و سيتم الاقتصار في هذه الورقة على مقاربة عنصرين في المتعالي النصي هما : المناص أو النص الموازي و التناص .
- النص الموازي:
يشمل النص الموازي كل ما يحيط بالنص و يدور في فلكه من عنوان و مقدمة وفهرس و إهداء وصور مرفقة بالنص... و غيرها، باعتبار ها عتبات الولوج الأولى للمتن، ومدخلا أساسا من مداخل قراءته.
أ – العنوان:
يطالعنا الديوان بعنوان "مثير " من الإثارة و هي الوظيفة الشعرية للعنوان ذات الأبعاد الجمالية ؛بالقياس إلى الوظيفة " المشيرة " أي الوظيفة المرجعية للعنوان بإشارة داله – بصريا أو لغويا أو هما معا – إلى تصور متواضَع عليه و مرجع واقعي محدد .
و الجدير بالقول إن عنوان الديوان " للأزهار رائحة الحزن " يخرج في داليه الإيقوني البصري واللغوي عن هاته الوظيفة ، و يعانق بالمقابل عوالم دلالية مختلفة و متباينة و عصية على التحديد المنطقي الصارم و الجامع .
فهو يتموقع – طباعيا – في أعلى صفحة الغلاف مباشرة تحت اسم المؤلف ، و فوق لوحة الغلاف؛ التي أبدعتها الفنانة الفلسطينية حنان الآغا ، مكتوب بخط أسود بارز في حواشيه بياض ، جعله يحتل فضاء متسعا . توزيع بهذا الشكل له دلالته الخاصة ، إذ يومئ الشكل البارز للعنوان و توسطه لصفحة الغلاف أهميته بالمقارنة مع العناصر الإيقونية الأخرى من اسم المؤلف _ رغم وضعه في رأس الصفحة _ و العبارة التجنيسية " نصوص شعرية " و اسم الناشر " دفاتر الاختلاف " ، يعضد التأكيد على هذه الأهمية التحليل اللغوي للعنوان : إذ جاء _ تركيبيا _ جملة اسمية انزاحت عن النسق المحايد لتركيب الجملة في لغة الضاد حيث تقدم الخبر ( شبه الجملة ) "للأزهار " على المبتدإ المركب الإضافي " رائحة الحزن " ، و استنادا إلى اللسانيات الوظيفية ، فإن لهذا التقديم قصدية تواصلية هي جعل المقدَم في الكلام بؤرة اهتمام .
من هذا المنطلق تغذو الأزهار بؤرة العنوان و محددَه ، لكنها ليست أزهارا عادية لأنها تمتلك رائحة حزينة ، و هذا إسناد تركيبي منزاح له أثر على مدلول العنوان وطبيعة الوظيفة المهيمنة فيه ، فالأزهار في الدلالة الاصطلاحية رمز للجمال والخصب ، إنها هدية العاشق لمحبوبته ، و علامة زمن الانبعاث و الحياة الدافئة " الربيع " ، و توسم بأنها ذات رائحة أرجة ، و في عنوان الديوان إرهاصات معنوية مغايرة حيث تغرق الأزهار في الحزن و تنشره كما تنتشر الرائحة في الهواء ، و أزهار العنوان هنا تبدو معادلا موضوعيا لقصائد الديوان ، فكما أنها _ أي القصائد_ تتضمن جمالا بنيويا (الرائحة العبقة التي هي من طبيعة الأزهار ) فإنها تفصح عن حزن دفين آثر الشاعر مقاسمته و القارئ َ، ويفضح بعضا من سواد العالم و شره و جزءا هاما من رؤية الشاعر لمحيطه المحلي والقومي والإنساني ، و هي أزهار تجول في أمكنة مختلفة و أزمنة متباينة تقوض سلطتها ، فتقذف الشاعر أحيانا إلى تغريبة الوالد و العراق و إلى الوطن القصيدة والمدينة المعشوقة ( سبع عيون ) .. . و غيرها من أمكنة حبلى بذاكرة يقظة وممتدة . و ليس من غريب أن نجد المفردات الصريحة و الإبدالات المصطلحية الحافة بلفظ الأزهار متضمنة في العناوين الداخلية للقصائد :
بيني و بينك زهر أيلول - زهرة ترسم الألف ميل – لا اسم لها تلك الوردة -...
أو في المعاني الحزينة المرتبطة بالعنوان: سيرة الألم - هكذا حدثني الغياب .
إن العنوان عند إبراهيم القهوايجي يتأسس على المفارقة ironie من حيث هي صيغة بلاغية تودي غير وظيفة دلالية من خلال اعتمادها على الجمع بين المتناقضات و الأضداد التي لا تجتمع حقيقة 3 . و هي مفارقة تندرج ضمن نوع المفارقة المأساوية ** بإلباس الأزهار وصفا غير ذلك الذي هو من صميم طبيعتها و تتحد هذه المأساوية مع اللون الأسود الذي كتب به العنوان ، و هو لون المأساة والموت و حالات السديم و التعمية بل الفوضى ، رغم ما يتخلل العنوان في حواشيه من لون أبيض أو في سند support صفحة الغلاف البيضاء و مراميهما المرمّزة في التخفيف من سوداوية المعاني المؤشَّر عليها . و بالتالي فإن الشاعر في عنوانه لا يصادر عن المطلوب و يمنع فرصة الحلم في الأمل و الحياة ، بالرغم من كل المثبطات و كل ما يحيط بنا من ابتذال في القيم و انحطاط في اعتبار قيمة الإنسان ؛ بل ما يصنع إنسانيته و يسمو بها ، و لعل من بين أهمها الشعر : لذا لا نستغرب كل هذا الحضور للشعر موضوعا في قصائده و عناوين تلك القصائد : وطني .. قصيدتي – قل قصيدتك ... و ارحل – توقيعات شاعر على صدر دفتر - خلوة ... ظل قصيدك . و لا نستغرب استحضار أسماء شعرية وازنة في المتن و الإهداء، كما لا نستغرب حضور الحديث عن الشعر و الشاعر في خطاب المقدمة و المدخل.
ب – الإهداء:
الإهداء عتبة لها أهميتها في أي إمكانية قرائية للمتن ، و صيغها ثلاث هي : صيغة الإهداء الخاصة والعامة و المشتركة ، فالخاصة تتميز بطابعها الشخصي وبالعلاقات الحميمة التي يمكن أن تجمع المؤلف بأشخاص بعينهم من محيطه ، أما الصيغ العامة فلا تتحدد بأشخاص بعينهم فقد يكون المهدي له القارئ أو الذات أو النص .. . أما صيغ الإهداء المشتركة فتتأسس على التوجه إلى أشخاص معينين و تعنى بالتواشج بين عنوان المؤلَف أو نصوصه 4 .
ورد الإهداء في " أزهار إبراهيم القهوايجي " بصيغة الإهداء المشترك :
" أهدي هذه النصوص التي عشت معها
أكثر مما عاشت معي.
إلى: ريحانة البستان
والفراشتين
و البطل الحالم . "
و الإهداء يبدو حاملا لطابع شخصي إذ قد تكون ريحانة البستان زوج الشاعر والفراشتان ابنتاه و البطل الحالم ابنه ، إلا أن رغبة الشاعر في عدم تقييد إهدائه بأسماء الأعلام جعل المهدى إليه شاملا لكل محب للحرية ( الفراشتان ) و للجمال (البستان ) و للشعر ( الحلم و الريحانة ) ، و من هنا ترشَح العلاقة بين العنوان و الإهداء و تظهر وشائجهما في الدعوة إلى الحلم بما هو بعد من أبعاد القول الشعري و مقوم من مقومات دهشته كما تصرح بذلك السريالية والرومانسية على حد سواء .
ينسحب ذلك أيضا على الإهداءات الداخلية بالرغم من إقرار أسماء بعينها : إلى محمد أمين في مهده ( قصيدة سيرة الألم ) ، إلى حنان و هي تتسكع في رحلة الحرف ( توقيعات شاعر على صدر دفتر ) ، إلى جميلة في الحقيقة و المجاز ( امرأة من رماد ) ، إلى نورس الدارالبيضاء عبدالسلام مصباح في عيد الشعر ( ما تيسر في سفر العيد ) ، إلى المرحوم محمد بن عمارة ( على سبيل الرحيل ) ... الخ : تتعالق هذه الإهداءات و غيرها بشكل لافث بمتن النص بقصديات مختلفة : بأن يكون المهدى إليهموضوع القصيدة احتفاء بقدوم ( محمد أمين ) أو استحضارا لفضل ( عبدالسلام مصباح ) أو تأبينا ( محمد بنعمارة ) . و هو الأمر الذي يمكن أن نفصل الحديث فيه في الجزء الخاص بمقاربة التناص عند البهي إبراهيم .
ج- الهرمينوطيقا الأولية (خطاب التقديم) :
يشير doninque julien من خلال مصطلح " الهرمينوطيقا الأولية " إلى وظيفة التقديم المركزية بوصفه : خطابا واصفا و قولا ممهدا للنص بغايتين متكاملتين :
أولها أن يجعل العمل الإبداعي مقروءا و ثانيها أن يجعل قراءته حسنة ، و هي وظيفة إشهارية تثير المتلقي إلى الجوانب المميزة للنص ، و تجنبه _ في أحايين كثيرة _ القراءات المغرضة ، رغم أن القراءة نفسها هي إساءة قراءة كما يقول "دومان" . و هنا ينبغي التمييز _ كما يقول ديريدا _ بين المدخل و التقديم : من حيث كون المدخل يرتبط ارتباطا نسقيا بالنص غير متأثر بالطبعات وتواريخها ، ويعالج قضايا ذات صلة بهندسة النص و منطق بنائه أما المقدمة فتختلف بين طبعة و أخرى، وتستجيب لمتطلبات سياقية و تداولية 5 .
تأسيسا على هذا فإن الخطاب الواصف الذي تم تصدير الديوان به بقلم د / أسماء غريب ، و الممتد من الصفحة الأولى إلى الثانية عشر ، هو مدخل و ليس مقدمة باعتباره انشغل بتشريح بعض بنيات الديوان الموضوعية ، حيث تناولت بالتحليل الدلالات الممكنة الحافة بالعنوان و تصورها الشخصي لمراميه و أبعاده ، كما تناولت بالمقاربة الإهداء َ و ثلة من القصائد المنتقاة من درر الديوان و جواهره ،رابطة إياها بأحداث تاريخية و في الحاضر تصم العالم : أحداث العراق على وجه التمثيل لا الحصر ،بالإضافة إلى حديث عن شاعرية إبراهيم القهوايجي يستحقها الشاعر و بوسام أيضا .
و في السياق نفسه ، يمكن إدارج "مدخل " بهيجة مصري إدلبي الموسوم ب " الاحتفاء بالشعر : الغيبة و الغياب " ؛ الذي ركز في مضمونه على ثيمة التصوف و الغياب عند الشاعر .
2 - التناص :
يعي إبراهيم القهوايجي جيدا أنه يكتبه نصا إبداعيا ذا طبيعة خاصة ، يقع على الحدود بين أجناس متعددة و أشكال تعبير مختلفة ، لذا يتريث في إبداع قصائده ، و لنلحظ أن الغلاف الزمني لقصائد الديوان الستة عشر تطلب سبعة عشر سنة ،كما هو مثبت في غلاف ما قبل الصفحة الرابعة للغلاف . إننا إذا أمام "حوليات " شاعر ، و هي مدة كفيلة بأن تعكس لنا رؤى الشاعر للعالم و لمحيطه من خلال هذا المنجز ، و هي رؤى لا تقدم نفسها بشكل مباشر بقدر ما هي صدى يمكن أن نلتقطه من خلال ولوج إهاب النص ، هذا النص الذي تم توسيع مفهومه ف" ما حدث – كما يقول جاك ديريدا - ...هو عملية اجتياح أبطلت كل الحدود و التقسيمات السابقة و أرغمتنا على توسيع المفهوم المتفق عليه ....لما ظل يسمى لأسباب إستراتيجية نصا ، لم يعد منذ الآن جسما كتابيا مكتملا ،أو مضمونا يحده كتاب أو هوامشه، بل , شبكة اختلافات ، نسيج من الآثار التي تشير بصورة لا نهائية إلى أشياء أخرى غير نفسها ، إلى آثار اختلافات أخرى ، و هكذا يجتاح النص كل الحدود المعينة له حتى الآن " – 6 - .
إنها آثار تأخذ بعين الاعتبار قارئا معينا ،ترمي إلى انتشاله من كسله في التلقي المحايد إلى التلقي المنتج ، كما لا نغفل قيمتها في بلورة قالب جمالي للمبدع ( بفتح الدال ).
ونعود للتأكيد هنا على ثقافة الشاعر و وعيه بهاته الأبعاد ، إذ لإبراهيم القهوايجي تكوين نقدي رصين ،ودربة متميزة في مجال النقد تظهر في قراءاته العاشقة و الواعية لأعمال الزملاء . ومن المفيد في هذه القراءة أن نستحضر العلاقة الجدلية بين المبدع و الناقد ، فمما لا شك فيه أن المبدع أول ناقد لعمله وأول موجه له ، كان ناقدا ملما بأدوات النقد أم غير ذلك ، لكن علاقة الشاعر / الناقد بنصه تختلف باختلاف امتلاك تلك الأدوات من دونها ، وقد يجوز التسليم هنا بأن ذلك الأثر قد ألقى بظلاله على المنجز، فالوعي بأهمية التناص و دوره الاستراتيجي في بناء النص الحداثي و تحديد هويته ، جعل منه إطارا هاما للاشتغال و أداة فاعلة في تمرير الرؤى الخاصة ، و قد هيمن التناص الشعري والشاعري ( التناص المرتبط بأسماء شعراء ) بشكل يوحي بكون الشعر لدى إبراهيم القهوايجي انشغال يومي و هوس يلازمه ؛ بل " و يعيش معه " كما صرح بذلك في إهداء الديوان ، من دون أن نغفل ذلك الرجع البهي لقيم الدين الإسلامي و أخلاقه و قَصصه . هكذا نلفى المتنبي و الخمار الكنوني و محمد بن عمارة و محمود درويش و سميح القاسم و السياب و نورس الدار بيضاء عبدالسلام مصباح ... و غيرها رموزا حاضرة في النسيج النصي و مؤثثة له ولموضوعاته ، لا زمن يمنعها من التحليق الحر ، ففي قصيدة " يقذفني الشوق إلى تغريبة أبي .. . و العراق ." يستحضر سندباد السياب و مطره ، منتظرا إياه ليتطهر من أدران ربطها بفضاء مكناس ، فكأنما السندباد رمز خلاص ، بعودته يطفو الشوق و الرغبة في البوح وفي الحياة حينما تطفو سفينه على بحر المديد :
" و يعود السندباد
فتطفو سفينه في البحر المديد
لأكتب في دفتر انكساري
أشعار ميلادي " / الديوان ص : 14 /
و لعل هذا يقودنا إلى الحديث عن قيمة التماهي عند القهوايجي مع السياب ، تماه في معاناة الانكسار و كذا عدم فقدان الأمل في الحياة ، فإذا كان السياب قد عاش علة الجسد و اكتوى بنار الشوق و البعد عن" إقبال" زوجه ، فإن الشاعر يكاد يصدح بالمعاناة نفسها في بعد أبيه عنه و الذي " يستعذب وحشة مكان معرف بالإشارة إليه : ( تستعذب هذا المكان ) و هو مكان موحش و لا شك . / الديوان : 13 ؛ بيد أن ذلك لا يمنع انسياب الحياة المخضرة و عيون الخصب :
" عيناك حين تورقان
تخضر حقول قلبي " / الديوان: ص : 32 / ،
بالرغم من ذلك يبقى الحزن صفة لصيقة بالشاعر ، و بتعبير أدق بقصائد الشاعر ، و لا غرو أن نجده يوظف التناص مع قصيدة " أنشودة المطر " بقصدية دلالية مباينة للتناص السالف، و هو يخاطب اللغة في الشعر قائلا :
" عيناك غابتا حزن
وقت السحر " ، و هو الزمن ذاته ؛ الذي وظفه السياب ليجعل من عيني مخاطبته غابتي نخيل أو شرفتين راح ينأى عنهما القمر . إن هذا المثال يشير إلى الخاصية التناصية الواسمة لشعر القهوايجي ،باعتمادها على ممارسة التعديل و الانحراف و تجاوز الظروف و الدلالات ؛ التي يتأسس عليها النص الأصلي ( نص السياب ) ، فالإشارتان التناصيتان السالفتان تظهران طباقا صريحا في المعنى بينهما بالرغم من اتفاقهما في نص الانطلاق . و هذه الخصيصة تشمل باقي أشكال التناص الأخرى ،بحيث يصل التعديل و التجاوز للنص الأصلي أبعادا قصوى ، بخاصة حينما يتعلق الأمر بمعالجة ثيمة معينة أو قضية ، و لعل ذلك برز أثناء حديثه عن العراق / العراك ، فلم يجد خيرا من كافوريات المتنبي تمثيلا :
" و العراق يرقص على أنغام الدماء
و الوسن يأبى أن يداعب عينيه
حمائمه تنشد عشاقها قصائد المتنبي
يا بئرا شربت من بترولها الأمم " / الديوان ص 16 / ، إنها سخرية جميلة ؛ و لكن جمالها ك "البكا " ، و لا اختلاف مع معنى نص المتنبي " يا أمة ضحكت من جهلها الأمم " ، و في استنزاف ثروات العرب و العراق على وجه الخصوص جهل بما حيك و ما يحاك و ما هو مخطط لحياكته ضد هذا البلد المسلم السابح في برك الدم . و القصيدة بشذاها الفلسطيني و قضاياها المجلجلة حاضرة بقوة في النص عبر قطبيها المركزيين : محمود درويش و سميح القاسم ، بأفضيتها : ( الجليل – حقول الزعتر - ... ) وبأدوات النضال ( الحجر – القصيدة ... ) ، و بنفس درويش النضالي الملتزم لقضية صادرت غالبية شعره ، " ليدين من حجر و زعتر هذا النشيد " ، و هو نشيد أهداه الشاعر ليدين من طبشور و خبز ، في تحويل للمسار الدلالي السالف ، فإذا كانت الغاية عند درويش هي المقاومة : مقاومة المحتل واسترجاع حقول الزعتر بما هي رمز للأراضي المغتصبة ، فإن الشاعر يومئ بهذا التحويل إلى أن القضية في فضاءات أخرى هي التعليم و الحق في العيش الكريم المفتقد ، و هي قضايا تلازم بال الشاعر و توجهه لذلك غذت _ وبامتياز _ حزنا يحمله على كتفه و يغادر وطنه :
" سأحمل حزني على كتفي
و ارحل عنك لأصنع من عشقي
ثورة و قصيدة " / الديوان ، ص : 18 /
و هو تناص مع قصيدة سميح القاسم ؛ التي غناها مارسيل خليفة " منتصب القامة .... " . و يبدو أن النعش و الحزن سيان عند الشاعر .

إبراهيم القهوايجي كأي مبدع حقيقي ، لا يؤمن بأن وظيفة الشعر هي تقرير الحقائق و وصفها ، فهذه وظيفة خطابات أخرى يند الشعر عنها و إن عالج قضايا ، لذا جاءت مجمل التناصات الشعرية أو الدينية ؛التي لم نتحدث عنها ، مؤثثا جماليا قبل أن تقدم نفسها حاملة لدلالات .
1 – تناص الاحتفاء :
مفهوم تناص الاحتفاء ، هو مفهوم إجرائي فقط ، القصد منه الإشارة إلى شكل التناص الذي يحتفي به الشاعر بأحد رفقائه في درب الكتابة . و قد جاءت قصيدة " ما تيسر من سفر العيد " متضمنة لهذا النوع ، إذ يبدو ضمير المخاطب موجها إلى الشاعر الصديق " عبدالسلام مصباح " ، و القصيدة مهداة له
" إلى نورس الدارالبيضاء ، الشاعر عبدالسلام مصباح في عيد الشعر " ، ومن المؤشرات النصية الدالة على ما ذهبنا إليه قو ل القهوايجي :
" يا صاحب النزف
أيها المندور للعتمه
ما زلت معي
بيني و بينك حاءات
بيني و بينك متسع للغواية " / الديوان ص 48 / ، إن لفظة الحاءات هنا تبدو مبهمة ؛ بيد أن هذا الإبهام يزول عندما نعرف أنها إشارة إلى ديوان الشاعر عبدالسلام مصباح " حاءات متمردة " ، وتتضاعف الإشارة بذكر مدينة مصباح ؛ الذي عده الشاعر نورسها :
" على حرفك
أقامت البيضاء اغترابي
على حرفك نثرت إهدائي / الديوان ص : 49 / ،
تشير علامات القصيدة أن لإبراهيم القهوايجي علاقة إنسانية رفيعة بالشاعر عبدالسلام مصباح، علتها طيبة و شاعرية هذا الأخير ؛ الذي يملك قلبا مجنحا ، و حرفا مترنحا يتمنى الشاعر اقتراضه، وكذا هو مندور للعتمة ينيرها أليس مصباحا ؟
" أيها المندور للعتمه
أقرضني حرفك المرنح
قلبك المجنح " / الديوان ص 49 /
إنه حرف يفوح ريحانا و عشقا و روحا .. و كذا أحزانا رومانسية تتغنى بالذات وتغزل عليه القصائد . و يصدح بها في عيد جديد للشعر ، بالرغم من رداءة زمن يعيشه الشعر و الشعراء .
" عيد جديد
و دهر عنيد " / الديوان ص: 10 /
" عيد بأي حال
عدت يا عيد "، / الديوان ص: 10 / إنه حوار مع المتنبي و تساؤل عن الجديد؛ الذي يتلو يوم الاحتفاء بالشعر و عيده .هل بما مضى أم لأمر فيه تجديد كما يقول المتنبي . و لا ينسى الشاعر أن يعرج على حدائق هسبريس ، و في ذلك علامة نافذة إلى استحضار صاحب " رماد هسبريس " محمد الخمار الكنوني رحمه الله ، و الاحتفاء به ، فحدائقه الأسطورية لا زالت ساكنة في ذوات الشعراء، تقاوم النسيان و تنافحه ، و تؤسس لحضور الروح بدل الجسد ؛ الذي غادرنا .

2 – تناص التأبين :
يتجسد هذا الضرب من التناص في قصيدتين اثنتين هما : " هكذا حدثني الغياب " و " على سبيل الرحيل " ، حيث الحقل الدلالي الخاص بالموت يواجه القارئ مجسدا في الرحيل و الغياب ، و مفردات أخر تخترق متن القصيدتين :
" أيها الصمت
لو يمنحني الغياب
بعض إشراق الحضور
لو يغيب الغياب و لا يعود " / الديوان ص 63 /
ففي قصيدة " هكذا حدثني الغياب " ، يستحضر إبراهيم القهوايجي أسماء أدبية لامعة غادرتنا فجأة ، واختارت كرها الغياب : مليكة مستظرف الروائية المغربية الراحلة ؛ التي اشتعلت بلا كبريت و انطفأت ، فاطمة شبشوب الزجالة والأكاديمية التي ماتت غرقا ، و نجيب محفوظ النوبلي صاحب الحرافيش، ومحمد أسد الأديب السوري الراحل :
" آه لو أن للرياح أبوابا
فأعبر إليكم :
مليكة التي اشتعلت بلا كبريت
و انطفأت
في الغبار ...
فاطمة كانت تسبح ضد التيار
فوقعت وليمة لأعشاب البحر
في القرار ...
نجيب لم يعد يكحل جفن الحرافيش
تيها .
و أسد لم يعد يزأر
في عرين الخيال . " / الديوان ص : 64 /
إنه وفاء جميل من الشاعر أن يخلد بين دفتي ديوانه أسماء عانى بعضها من التهميش ، و حرمت من أبسط حق إنساني هو العلاج حين سقطت عليلة الجسد لا الروح ، كما حدث مع مليكة مستظرف صاحبة "الترانت سيس " ، والشاعر الصوفي المرحوم محمد بن عمارة ؛ الذي خص له البهي إبراهيم قصيدة كاملة ينعيه فيها ، جعلها خاتمة أزهاره الحزينة على سبيل الختم ، و " على سبيل الرحيل " .
قصيدة « على سبيل الرحيل " قصيدة طويلة بالمقارنة مع باقي قصائد الديوان، ولا تضاهيها في الطول إلا قصيدة واحدة هي " ما تيسر من سفر العيد " ،
و ليس بغريب هذا الاهتمام من الشاعر بقيمتي: الاحتفاء و التأبين . فأخلاقه الطيبة و روحه النقيه الشفافة و رقة إحساسه و تأثره بمحيطه الإبداعي الكبير، تجعله لا يكتب بالشعر فقط ؛ بل عن الشعر والشعراء .
صدر ابراهيم قصيدته الرثائية بمقتبسة ل سعيد هادف تقول " الشعراء موجودون،ما من أحد يقدر على محوهم و لو بقوة النسيان " ، إن محمد بن عمارة موجود إذا ، و النسيان قوة لا تستطيع الوقوف أمام الأقوى بقصيدته ، و بحدائق الشعر ؛ التي شذبها كأي بستاني محترف ، فمن فر إلى الآخرة إذا ؟
" أنت
أم حدائق الشعر الباقية " / الديوان ص: 71 /
يتساءل القهوايجي في إنكار و استنكار ، خاصة أنه شاهد _ و نحن معه _ على مكابدة المرحوم و على ظلم ذوي القربى، و ظلم ذوي القربى كما يقول الشاعر : " وراف الجناح " . / الديوان ص 73 /.
و كان من رائع الشاعر أن ضَمّن قصيدته المحزنة بعضا من مقاطع شعرية لمحمد بن عمارة و عناوين دواوينه، مخلدا إياها في "مملكة الروح " و كذا "في الرياح .. وفي السحابة " و في " السنبلة "و " عناقيد وادي الصمت " المتدلية، جذورها في بين دفتي كتاب و فروعها في ذواتنا ساكنة كشاردة أبدية .
- خارج المتعاليات: / على سبيل الختم /
حاولت هذه الورقة ملامسة الأبعاد الدلالية و الجمالية الحافة بالنصوص الموازية ، و قاربت قيمة التناصّ و أشكالَه واعيةً بوظائفهما المتعددة و بضرورتهما في القراءة الجادة للعمل الإبداعي ، و مستَشفةً أن شعر القهوايجي " جادة " في رؤيته للعالم و في تنوع ثيماته و احتفائه و تأبينه ، و حين يقع فيه " الحافر على الحافر " ، فإنه يكون بوعي تام ، و قصديات محددة ، يجيد الشاعر صياغتها وتمريرها في قالب جمالي / إيقوني علامي ، و إنه لعمري شاعر يستحق أكثر من لحظة احتفائية كهاته التي تجمعنا اليوم بمكناسة الزيتون . و أكثر من دعوة صادقة بطول العمر الإبداعي ، فكل ديوان وأياديك سابغة على القصيدة أيها العزيز إبراهيم .

- الهوامش:
* - القهوايجي ، ابراهيم . للأزهار رائحة الحزن ، منشورات دفاتر الاختلاف ، مطبعة سجلماسة مكناس ، غشت 2007 .
1 – المنادي ، أحمد . النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص ، علامات ، ج 61 ، مج 16 ، مايو 2007 ، ص 141 .
2 – نفسه ، ص : 141 .
3 – درمش ، باسمة . عتبات النص، علامات، ج 61، مج 16 ، مايو 2007 ، ص 71 .
** - أنواع عناوين المفارقة هي / اللفظية، المأساوية، الفلسفية، مفارقة الأحداث، مفارقة الموقف... . ينظر : درمش ، باسمة . عتبات النص، علامات، ج 61 ، مج 16 ، مايو 2007 .
4 - درمش ، باسمة . عتبات النص، مرجع مذكور، ص : 79 .
5 - المنادي ،أحمد . النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص ، مذكور ص : 144 .
6 - عبد العزيز حمودة , الخروج من التيه : دراسة في سلطة النص , عالم المعرفة . العدد: 298. نونبر 2003.ص: 176.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.