1. الرئيسية 2. المغرب ميداوي "يتباهى" باستقطاب الدول للكفاءات المغربية ويغض الطرف عن نزيف الأطباء وعجز الحكومة عن إنقاذ مستشفيات تنهار تحت وطأة الخصاص الصحيفة - خولة اجعيفري الأربعاء 7 ماي 2025 - 23:55 في لحظة بدا فيها وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عز الدين ميداوي، منشغلا برسم صورة وردية عن "جاذبية" الجامعة المغربية في الخارج، وعن الطلب المتزايد على الأطباء المغاربة من قبل الدول الأوروبية، غابت عن عرضه أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، اليوم الأربعاء، الإشارة إلى الواقع الصادم الذي يعيشه قطاع الصحة في المغرب، وإلى أزمة هجرة الأطباء والطلبة الأطباء التي تهدد المنظومة برمتها. ففي عرضه الذي تناول "منظومة التعليم العالي: الوضعية وآفاق التطوير"، شدد ميداوي على أن هناك "تنافسا على المستوى العالمي على استقطاب الكفاءات المغربية"، معتبرا أن الأطباء المغاربة، إلى جانب خريجي تخصصات التدبير والاقتصاد، باتوا مطلوبين بشكل واسع في الخارج، بل إنه صرح بلهجة تكاد تكون احتفالية: "كيدابزو عليهم فالعالم باش ياخدوهم". وأشار الوزير إلى أنه استقبل خلال أربعة أسابيع فقط عددا من السفراء ووزراء التعليم العالي السابقين، خصوصاً من فرنسا ودول أوروبية أخرى، وكان "الطلب الأول لديهم هو استقطاب الطلبة المغاربة لاستكمال دراستهم في أوروبا، لا سيما الحاصلين على شهادة البكالوريا أو الشهادات العليا"، مشددا على أن هذا المعطى دليل على جودة التكوينات الأكاديمية في المغرب. غير أن هذا الخطاب، الذي يحمل في ظاهره تمجيدا للمنظومة الجامعية المغربية، في الحقيقة يخفي في عمقه مفارقة صادمة، سيما وأن المغرب يعاني أصلا من خصاص مهول في الأطر الطبية، ومن تفاقم ظاهرة هجرة الطلبة الأطباء نحو الخارج، بسبب غياب بيئة مهنية محفزة، وتدهور ظروف التكوين، وتراجع الثقة في السياسات العمومية الخاصة بالقطاع الصحي. خصاص في الأطباء مقابل تصدير الكفاءات وفق المعايير المعتمدة من قبل منظمة الصحة العالمية، يجب أن تتوفر الدولة على 15 طبيباً لكل 10 آلاف نسمة، أما في المغرب، فيؤكد تقرير حديث صادر عن المندوبية السامية للتخطيط، أنه لا يتجاوز عدد أطباء القطاع العام في المغرب 15 ألف طبيب، في بلد يتجاوز عدد سكانه 36 مليون نسمة، أي بمعدل 4 أطباء لكل 10 آلاف نسمة. وهذا الخصاص يتجلى بشكل أكثر حدة في بعض الجهات، حيث تشير البيانات إلى أن جهة الدارالبيضاء-سطات، التي يفوق عدد سكانها 7.5 مليون نسمة، لا يتجاوز عدد الأطباء فيها 3120 طبيبًا بالقطاع العام، ما يعني طبيبًا واحدًا لكل 2464 شخصا. وتُعد هجرة الأطباء من أبرز العوامل التي تفاقم أزمة الخصاص في المغرب، حيث تفقد البلاد سنويا ما بين 600 إلى 700 طبيب، أي ما يعادل 30% من الأطباء المتخرجين حديثًا، مما يضاعف من حدة العجز في الموارد البشرية الطبية. وهذا الخصاص الحاد في الأطباء ينعكس سلبا على جودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، حيث تشير التقارير إلى أن مواعيد العمليات الجراحية في القطاع العام قد تصل إلى أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تمتد في بعض الأحيان إلى ستة أشهر، مما يدفع المواطنين إلى اللجوء إلى القطاع الخاص، رغم ارتفاع تكاليفه. وفي ظل هذه الأوضاع، تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاحات جذرية في قطاع الصحة، تشمل تحسين ظروف العمل للأطباء، وتوفير تحفيزات مادية ومعنوية للحد من هجرة الكفاءات، بالإضافة إلى زيادة عدد المقاعد في كليات الطب، وتوسيع شبكة المستشفيات والمراكز الصحية في مختلف أنحاء البلاد، خاصة وأن استمرار نزيف الأطباء وغياب استراتيجية واضحة لمعالجة هذا الخصاص يهدد بانهيار المنظومة الصحية في المغرب، ويضع مستقبل الرعاية الصحية للمواطنين على المحك. وهذه المعطيات تعني ببساطة، أن المغرب ليس في موقع مريح يسمح لحكومته بالتفاخر ب"تصدير" أطبائه إلى الخارج، بل إنه في حاجة ملحة إلى كل طبيب، وإلى كل طالب طب، إذا أراد مستقبلا أن يستجيب للحد الأدنى من متطلبات الرعاية الصحية للمواطنين، خصوصا في العالم القروي والمناطق الجبلية. أزمة ثقة وهجرة صاعدة وبهذا، فإنه خلافا للصورة التي حاول ميداوي تقديمها، تعيش كليات الطب في المغرب منذ سنوات حالة احتقان متصاعدة، بلغت ذروتها مع مقاطعة الطلبة الأطباء للدروس والتداريب الاستشفائية لأشهر طويلة تجاوزت السنة، ورفضهم لما أسموه "الإصلاح القسري" الذي تحاول الحكومة تمريره دون إشراك حقيقي لممثليهم. وقد عبّر الطلبة، في أكثر من مناسبة، عن رفضهم اختصار مسار التكوين في الطب إلى 6 سنوات بدل 7، دون توفير ضمانات أكاديمية أو بيداغوجية واضحة، في وقت تعاني فيه المستشفيات الجامعية من ضعف التأطير وغياب الإمكانات اللوجيستيكية. وما يزيد الطين بلة هو أن عددا متزايدا من طلبة الطب أصبحوا يتجهون منذ السنوات الأولى نحو تعلم اللغة الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية، استعدادا لمغادرة البلاد مباشرة بعد التخرج، ففي فرنسا وحدها، تشير أرقام صادرة عن النقابة الوطنية للأطباء إلى أن عدد الأطباء المغاربة تجاوز 7 آلاف طبيب سنة 2023، ويمثلون ثاني جنسية بعد الأطباء الجزائريين في النظام الصحي الفرنسي. شهادات معترف بها دولياً.. ولكن! من بين النقاط التي حرص وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عز الدين ميداوي، على إبرازها خلال عرضه أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، التأكيد على أن "الشهادات الجامعية المغربية معترف بها على الصعيد الدولي"، بل ذهب إلى حدّ القول إنه "لا توجد دولة لا تعترف بشهادات المملكة، وهو ما يعكس جودة التكوينات المغربية رغم الإكراهات"، وهذه الجملة، التي حملت نبرة فخر واضحة، أُريد لها أن تكون دليلا على قوة المنظومة الجامعية المغربية، إلا أن ما يُفترض أن يكون نقطة قوة بات في الواقع بابا واسعا لهروب الكفاءات الشابة، لا سيما في ميدان الطب. ففي الوقت الذي تعترف فيه دول الاتحاد الأوروبي، وأمريكا الشمالية، ودول الخليج، بجودة التكوين المغربي في ميادين حساسة كالطب والصيدلة والهندسة، لا توظف هذه الشهادات لتعزيز التعاون الأكاديمي أو إعادة الأطر إلى الوطن، بل كأداة انتقائية لاستقطاب النخبة من الخريجين المغاربة. وحسب تقارير صادرة عن الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء بالمغرب، فإن أزيد من 700 طبيب مغربي يغادرون البلاد سنويا نحو فرنسا وبلجيكا وألمانيا وكندا، مستفيدين من اعتراف هذه الدول بالشهادات المغربية، ومن كونهم يجتازون مباريات المعادلة أو التأهيل المهني بنسب نجاح مرتفعة، بسبب جودة التكوين النظري لديهم، رغم ضعف التأطير العملي في المستشفيات المغربية. واللافت، أن هذا النزيف لا يقتصر على الأطباء العامين، بل يشمل كذلك المتخصصين في مجالات دقيقة مثل جراحة القلب، وطب الإنعاش، وطب الأطفال، وطب الأشعة، ففي فرنسا، على سبيل المثال، يشكل الأطباء المغاربة ثاني جنسية أجنبية من حيث عدد الممارسين داخل المستشفيات الجامعية، بعد الجزائريين، حيث يقدَّر عددهم بأزيد من 7,200 طبيب مغربي يمارسون رسميا في فرنسا بحسب آخر إحصائيات Conseil National de l'Ordre des Médecins لسنة 2023. وبهذا فإن الاعتراف بالشهادات الجامعية المغربية في الخارج، ورغم أنه قد يُعتبر مكسبًا في الظاهر، يتحول في السياق المغربي إلى مفارقة تنذر بالخطر، إذ كيف يُمكن التفاخر بجودة خريجينا وكفاءاتهم، في حين يعاني القطاع الصحي من انهيار فعلي في الموارد البشرية، وخصاص مهول في الأطباء يقارب 32 ألف طبيب بحسب أرقام وزارة الصحة لسنة 2024، ثم كيف تُفسر الحكومة "التنافس الدولي" على أطبائنا، دون أن تسائل نفسها عن فشلها في جعل البيئة المهنية في الداخل قادرة على الحفاظ عليهم. والواقع اليوم يؤكد أن الجامعة المغربية، بدل أن تكون رافعة تنموية تعزز الرأسمال البشري الوطني، تحولت إلى "بوابة عبور" نحو الخارج، فبينما يفترض أن تعني الجودة الأكاديمية دعم التنمية الوطنية وتعزيز سيادة المغرب في القطاعات الحيوية، تحولت هذه الجودة إلى عامل طرد لا جذب، في غياب سياسة استبقاء للكفاءات، وغياب تحفيزات وظيفية حقيقية في الداخل. الجامعة المغربية: مفارقة القوة الضعيفة الوزير، لم يتردد أيضا في التأكيد على أن الجامعة المغربية أنجبت رؤساء دول ووزراء أفارقة، وأن أكثر من 200 ألف طالب إفريقي تخرجوا منها خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وقال إن من بينهم من يشغلون حالياً مناصب حساسة في بلدانهم، ويُعتبرون بمثابة "سفراء غير مباشرين" للمغرب في إفريقيا. لكنّ ما لم يذكره ميداوي، هو أن هذه الإنجازات لا يجب أن تحجب الواقع الصعب للجامعة المغربية، التي لا تزال تعاني من الاكتظاظ، والهشاشة البيداغوجية، ونقص الميزانيات، وغياب ربط حقيقي بين التكوين وسوق الشغل، خصوصاً في التخصصات ذات الحساسية الاجتماعية كالطب. في ضوء كل هذه المعطيات، يبدو أن الوزير ميداوي اختار التركيز على الصورة الخارجية للجامعة المغربية وعلى إنجازاتها الدبلوماسية الناعمة، عوض الاعتراف بعمق الأزمة التي تمسُّ أحد أكثر القطاعات الحيوية، وهي تكوين الأطباء والكفاءات المغربية عموما والاحتفاظ بهم. فبينما يسوّق الوزير ل"الطلب المتزايد على كفاءاتنا"، يغيب عن خطابه أي مؤشر على أن الحكومة تبذل فعليا مجهودا جادا من أجل الحد من نزيف الأدمغة، أو إعادة الثقة إلى الطلبة الأطباء، أو معالجة الخصاص البنيوي في المستشفيات المغربية.