نشرة إنذارية.. زخات مطرية محليا قوية مرتقبة اليوم السبت وغدا الأحد بعدد من مناطق المملكة    "كاف" تثمن افتتاح ملعب طنجة الكبير    أخنوش من مديونة: قطعنا أشواطًا مهمة في بناء مغرب صاعد والمواطنون ينتظرون استكمال الأوراش الكبرى    هجوم إلكتروني بالصومال.. بيانات آلاف الأمريكيين بقبضة مجهولة    المغرب... دولة الفعل لا الخطاب    رياض السلطان يقدم مسرحية الهامش وموسيقى لؤلؤة البحيرات العاجية ولقاء فكري حول ذاكرة المثقف    نزاع حول أرض زراعية يخلف قتلى بالعراق    مكناس…توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في تورطهم في قضية تتعلق بالضرب والجرح باستعمال السلاح الأبيض    غزة: عشرات الخيام تغرق في مواصي خان يونس جراء الأمطار الغزيرة    محمد نمسي يحرز الذهب في الرياض    عامل العرائش و السلة الفارغة: كيف أنهى الأسطورة و تحققت نبوءة الانهيار!    ترامب: آمل بانضمام السعودية إلى "اتفاقات أبراهام" قريبا... وبن سلمان يزور واشنطن الأسبوع المقبل    ارتفاع سعر صرف الدرهم ب 0,2 في المائة مقابل الدولار الأمريكي ما بين 6 و12 نونبر 2025    المال مقابل الدراسة.. رصاصة جديدة تطلقها حكومة أخنوش على الطبقة المتوسطة    وادي المخازن وخلل الموازين / الجزء 12    من هو عبد الله اشويخ المدير الجديد لوكالة "أنابيك"؟    وليد الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    ليكيب: المغرب يحطم رقمه العالمي في عدد الانتصارات المتتالية بفوزه على الموزمبيق    استفادة الجيش الصيني من "علي بابا" تثير الجدل    الملك يجدد الدعم لحقوق الفلسطينيين    أمطار رعدية قوية... نشرة إنذارية تشمل طنجة وتطوان وعدة مناطق شمالية    لحمداني ينال "جائزة العويس الثقافية"    وزارة الثقافة تعلن الإطلاق الرسمي لمشروع تسجيل "فن زليج فاس وتطوان" على قائمة يونسكو للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية    تطور جديد في ملف "إنتي باغية واحد".. متابعة دي جي فان بتهمة تهديد سعد لمجرد    قمة متناقضة بين "الماط" المتصدر ورجاء بني ملال الأخير    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    الأستاذ اللبار يدعو إلى رفع مستوى العناية بذوي الاحتياجات الخاصة    حجز أزيد من 23 ألف قرص مخدر وتوقيف شخصين بالدار البيضاء    "التقدم والاشتراكية" يعلن رفضه لمشروع قانون مالية 2026 ويصفه ب"المخيّب للآمال"    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    خطاب "العُكار": حين يفضح "أحمر الشفاه" منطق السلطة..تحليل نقدي في دلالات وأبعاد تصريح وزير العدل حول الفساد    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    مباراة ودية بطنجة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف لصفر    المسرحية المغربية "إكستازيا" تهيمن على جوائز الدورة 30 لمهرجان الأردن المسرحي    المنتخب المغربي يهزم موزمبيق وديا.. أوناحي يسجل أول هدف في ملعب طنجة بعد تجديده    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    تداولات بورصة الدار البيضاء سلبية    الطرق السيارة بالمغرب.. افتتاح فرع مفترق سيدي معروف بمعايير هندسية وتقنية دقيقة    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    إطلاق المرحلة الثالثة من تذاكر "الكان"    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    بوانوو: بلاغ وزارة الصحة لم يحمل أي معطى حول شبهة تضارب المصالح ولم يشرح التراخيص المؤقتة للأدوية التي يلفها الغموض التام    جنوب إفريقيا تحتجز 150 فلسطينيا    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    صنصال يؤكد أنه "قوي" لن يدمره السجن و"متفائل" بتحسن العلاقات الفرنسية الجزائرية    مجلس النواب يصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    المسلم والإسلامي..    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المغربوفوبيا.. من العداء الاستراتيجي إلى الهوس الوجودي
نشر في الصحيفة يوم 17 - 11 - 2022


حسن ناجح
الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 - 15:05
المغربوفوبيا.. من العداء الاستراتيجي إلى الهوس الوجودي
في كل مرة يخطو فيها المغرب بثقةٍ نحو ترسيخ مكانته الإقليمية، تطفو على السطح موجةٌ جديدة من الخطاب العدائي القادم من الجارة الشرقية، غالبًا ما تكون مصحوبةً باستفزازاتٍ عبثية وممارساتٍ لا أخلاقية تعبّر عن حقدٍ دفينٍ يُمكن توصيفه ب"المغربوفوبيا". هذه الحالة، من منظورٍ نفسي-سياسي، ليست مجرّد موقفٍ ظرفي، بل عقيدةٌ جماعيةٌ تُسقِط فيها الجزائر على المغرب كلَّ ما عجزت عن معالجته في ذاتها: هشاشتها التاريخية، صدمتها الثورية غير المحسومة، وغياب الأب الرمزي الموحِّد. ومن ثمّ، لا يبدو الأمر خصومةً سياسيةً أو تنافسًا جيوسياسيًا فحسب، بل أقرب إلى هوسٍ وجوديٍّ متجذّرٍ في قلقٍ عميقٍ داخل بنية الدولة الجزائرية، التي جعلت من "المغربوفوبيا" عقيدةً دائمةً ودرعًا لشرعيةٍ مأزومة، أكثر منها سياسةً خارجيةً واعيةً ومدروسة النتائج.
ويتطلّب فهمُ هذه الظاهرة اعتمادَ مقاربةٍ ثلاثية الأبعاد:
وجودية، ترى في العداء حاجةً بنيويةً تُغذّي بقاء النظام وتماسك هويته الهشّة؛
جيوسياسية، تعتبر الظاهرة أداةً للتنافس الإقليمي ومحاولةً لفرض توازنٍ قسريٍّ في محيطٍ متغيّر؛
رمزية، تُجسّد حربًا على المعاني والدلالات، حيث يتحوّل الصراع من الجغرافيا إلى المجال السيميائي، أي إلى معركةٍ حول مَن يمتلك حقَّ تعريف المعنى.
في الأصل، نشأت الجزائر الحديثة من قطيعة ثورية مع ماضيها الاستعماري دون أن تنجح في بناء سردية وطنية متماسكة، فارتكزت على خطاب التحرير كمصدر وحيد للشرعية. ومع مرور الزمن، تحوّل هذا الرأسمال الرمزي إلى سقف سياسي مغلق، يُعاد إنتاجه عبر آلية نفسية دفاعية تُسمى في التحليل النفسي ب "الإسقاط " (Projection)؛ أي نقل الإخفاق الداخلي إلى عدو خارجي.
وهكذا، صار المغرب المرآة المعكوسة التي تُعلّق عليها السلطة الجزائرية كل خيباتها التنموية والاجتماعية. هذه الآلية تتخذ شكل "هوس محاكاتي" (Mimétisme)، حيث يسعى النظام بشكل قهري وباثولوجي (Pathologique) إلى مقارنة نفسه بالمغرب وإلصاق كل إخفاقاته به، إلى حدٍّ يلامس جنون الارتياب "البارانويا". وتتجسد هذه الحقيقة المرة في مظاهر العجز التنموي وموجات الهجرة غير الشرعية للشباب واستخدام الكلام النابي.
فبعد الاستقلال، تبنّى النظام الجزائري — الذي انقلب على المجاهدين الحقيقيين — خطابًا بطوليًا مصطنعًا لتغطية خيانته وغياب شرعيته التاريخية. فصوّر المواطن الجزائري كبطلٍ خارق يعيش في ملحمةٍ دائمة، بغرض إخفاء واقعٍ هشٍّ ومُحْتَدّ. هذا الإفراط في تمجيد الذات الجماعية لا يعكس ثقة وطنية حقيقية، بل ما يمكن تسميته ب "متلازمة التأكيد ما بعد الاستعماري (Syndrome post-colonial)؛ وهي ليست حالة عابرة، بل آلية بنيوية ناتجة عن صدمة الهيمنة والنفي التاريخي الذي مارسه المستعمِر لمدة قرون، ومحاولة سياسية لإعادة بناء الكرامة المفقودة، فضلا عن محاولة يائسة لمنح الشرعية للنخب التي ورثت الثورة دون أن تجسّد روحها.
وفي سياق متصل، يعتمد النظام الجزائري على نسيانٍ انتقائي للذاكرة المشتركة، متجاهلًا دعم المغرب لثورته بالسلاح والرجال، لأن الاعتراف بذلك يهدد السردية الثورية ويُظهر التناقض الأخلاقي في تصوير المغرب كعدو. ويتحوّل هذا التناسي إلى خيانة رمزية حين يُوجَّه الود نحو المستعمِر السابق ويُعامل الشقيق كخصم، ما يعكس اضطرابًا سيكولوجيًا عميقًا في هوية النظام العاجز عن التمييز بين العدو الواقعي والآخر الذي يكشف انشطاره الداخلي.
في المقابل، يمثل المغرب دولة رمزية متواصلة الجذور؛ تاريخٌ ممتدّ وشرعية دينية وحضارية عريقة ومتراكمة. وهذا التماسك البنيوي بالضبط يجعل منه نقيضًا وجوديًا للنظام الجزائري الذي ما زال يبحث عن "أبٍ مؤسّس" شرعي يمنحه انسجامًا رمزيًا داخليًا. وتتجلى "المغربوفوبيا" هنا كشذوذ جيوسياسي (Anomalie géopolitique) ، أي انحراف يعبر عن اضطراب في الوعي والهوية أكثر مما يعكس توازنات القوة التي يدعيها النظام العسكري.
فالخطاب الرسمي الجزائري لا يواجه الواقع بقدر ما يهرب منه. وعليه، يُصوَّر المغرب كتهديد خارجي دائم، بينما الأزمة الحقيقية تكمن في الباطن: (اقتصاد ريعي، بطالة متفاقمة، وانسداد سياسي مزمن). إنها محاولة لتجميل وجهٍ متآكل بخطابٍ ثوريٍّ لا يشيخ، أشبه بما أتى به أوسكار وايلد (Oscar Wilde) في روايته "صورة دوريان غراي"Portrait de Dorian Gray))، أي وجه جميل في الظاهر، فيما تختبئ الحقيقة المشوّهة خلف اللوحة. في النسخة الجزائرية من هذه الرمزية، تلعب المغربوفوبيا دور تلك اللوحة؛ لتواري بها تحت بريق الشعارات واقعًا مثقلاً بالفشل والتناقض البنيوي ومشحون بكراهية الأخر.
تتخذ المغربوفوبيا أيضاً شكلاً هوياتياً لغوياً، من خلال محاولة متعمدة لتجريد المغرب من انتمائه العربي. ويتجسّد هذا الانزياح اللغوي في استخدام مصطلحات ذات دلالة قدحية مثل "مروكي" أو "مروك" بدلاً من التسمية الرسمية "مغربي والمغرب"، في محاولة لنزع الشرعية التاريخية والثقافية للمملكة، وإلصاق هوية مصطنعة بها. هذا التلاعب اللغوي ليس بريئاً، بل هو جزء من إستراتيجية رمزية تهدف إلى تقزيم المغرب ثقافياً وفصله عن محيطه العربي والأمازيغي، وتصويره بذلك ككيان منفصل وشاذ يُنْعَتُ بلغة أجنبية.
إنها محاولة لتزييف الهوية المغربية وإفراغها من مضمونها الحضاري، في إطار الحرب السيميائية الشاملة التي تشنها المؤسسة الرسمية الجزائرية على المملكة. وتمتد هذه المواجهة إلى ما يُعرف ب"التقاطع الدلالي"، حيث تُنتزع الدلالات ذات مغزى من سياقاتها الأصلية وتُشوّه بهدف خلق الشك وتقويض المصداقية المغربية عبر التلاعب بالرموز والوقائع التاريخية.
بالإضافة إلى ذلك، يتجلّى بناءُ هذه السردية التعويضية في ترسيخ ما يمكن تسميته ب"عقيدة الشهداء" بوصفها رقمًا مقدّسًا غير قابلٍ للنقاش أو المراجعة. ورغم أن هذا الرقم يظلّ موضعَ جدلٍ تاريخيٍّ وأكاديميٍّ مشروع، فإنّ التمسّك به أصبح ضرورةً سياسيةً لضمان شرعية النظام القائم، وتبريرِ السلطة الحصرية لمن نصّبوا أنفسهم ورثةً للثورة، فضلاً عن تغذية الموقف الأخلاقي المزدوج الذي يجمع بين صورة الضحية والبطل في آنٍ واحد.
ولأن العداء الخارجي يمنح الذات المأزومة تماسكًا وهميًا، فإنه يتحول إلى إدمانٍ رمزيٍّ لاشعوريٍّ ينتقل من الطغمة الحاكمة إلى عموم الشعب. فكلما اقترب النظام من لحظة مساءلة داخلية كالحراك أو الاحتجاج، أعاد تشغيل آلة الكراهية ضد المغرب. ومنذ ستينيات القرن الماضي تتكرّر النغمة نفسها: "المخزن يتآمر"، "المغرب يهدد الحدود"، "الرباط عدو الثورة". لكن هذا التكرار ليس صدفة لغوية، بل بنية ذهنية قهرية تُعيد إنتاج الأزمة وتؤبدها.
ذلك ما يطلق عليه علم النفس السياسي مصطلح "التكرار القهري للعداء"؛ تكرار يمنح السلطة وهم الاستمرارية والمشروعية، لكنه في الواقع يختزلها داخل حلقة مغلقة من الخوف والإنكار والتخبط. وفي كنف هذا الاضطراب الرمزي، تستخدم السلطة الجزائرية آلية الانشطار النفسي لتقسيم العالم إلى فئتين: نحن (In-group) -المثاليون، الثوريون، الفاضلون - والآخرون (Out-group) -الشياطين، المتآمرون، المتلاعبون-. وهذه الثنائية تبسّط الواقع للعموم وتوفر غطاءً أيديولوجيًا لسيطرة الحكام.
من ناحية ثانية، لا يقتصر فشل النموذج الجزائري على حدوده، بل يتم تصديره ويتجلى بوضوح خاص في أوروبا، وتحديداً في فرنسا. فالنظام، العاجز عن توفير مستقبل لشبابه، يولّد "موجاتٍ من الهجرة غير الشرعية اليائسة نحو أوروبا"، ليسقط بذلك أزمته الاجتماعية الخاصة على الأراضي الأوروبية. وتُترجم هذه الديناميكية، بحسب بعض التحليلات الأوروبية، في أعمال شغب وجرائم كما هو الحال في فرنسا، كامتداد للإحباطات والتوترات النفسية للمواطن الجزائري. ونتيجة لذلك، يدفع هذا المواطن، رغماً عنه في كثير من الأحيان، ثمن هذا الإفلاس السياسي لبلده، فيواجه صورة مشوهة وصوراً نمطية تحوله إلى شخص منبوذ (Paria)، ليصبح ضحية جانبية لنظام صدّر فوضاه الخاصة إلى باقي العالم.
و الرجوع إلى الظاهرة، فمن وجهة نظر السيميائية، تمثل المغربوفوبيا حربًا على العلامات قبل أن تكون حربًا على الحدود. فالجزائر تُعيد ترميز كل ما يرتبط بالمغرب — من التراث اللامادي إلى الرموز التاريخية — محاولةً نزع الدلالة الأصلية وإعادة توجيهها لصالح خطابها القومي.
وهنا يظهر ما يمكن تسميته بالسطو الرمزي (Appropriation Symbolique) ، ويتجسد ذلك مثلا في تقديم القفطان المغربي أو الزليج أو الكسكس على أنه تراث جزائري خالص، أو الادعاء أن شخصيات تاريخية مثل القديس أوغسطين أو طارق بن زياد يمثلون أمجاد وطنية. ففي الظاهر، يبدو أن هذا التصرف مجرّد تداخل ثقافي، لكنه في العمق عملية استحواذ على المعنى، وبالأحرى، محاولة لتعويض الفراغ الرمزي بإعادة كتابة الذاكرة المشتركة؛ حيث تُستخدم الصور والمصطلحات والمؤثرون لتوجيه الإدراك الجمعي وصناعة الحقيقة وفق منطق التأثير لا المعلومة، في إطار ما يُعرف بهندسة الوعي (Ingénierie de la Perception).
لقد بلغت حدة الظاهرة إلى بلورة مشروع منظم للاستيلاء على التراث الثقافي المغربي كجزء من الحرب الرمزية الشاملة. فمن خلال تقديم ملفات إلى منظمة اليونسكو، تحاول الجزائر بشكل منهجي تأميم رموز الهوية المغربية مثل القفطان الفاسي والكسكس والطاجين وبعض الطقوس التقليدية المرتبطة بقبائل المغرب، وإدراجها ضمن تراثها الوطني. وكل هذه المحاولات ليست سوى تعبير عن حاجة إلى تعويض نقص العمق الحضاري، عبر سطو دلالي لتشكيل جزء من الذاكرة الجماعية. إنها معركة على الأصالة تهدف إلى تجريد المغرب من أحد أهم مقومات قوته الناعمة و جذوره التاريخية.
من جهة أخرى، يلعب الإعلام الرسمي الجزائري دور المحرك الأساسي لهذه الآلة العدائية، حيث يتحول إلى أداة نفسية جماعية تعيد تدوير خطاب الكراهية وتغذيته بطريقة ممنهجة. فمن خلال خطاب مغلق ومتكرر، تعمد وسائل الإعلام إلى ترسيخ الصور النمطية وتقديم المغرب ك "عدو وجودي"، الشغل الشاغل له هو تحطيم الجزائر التي تمثل، حسب زعم العسكر، القوة الإقليمية الوحيدة لمنافستهم.
وقد تطورت هذه الآلية لتصبح حرباً رقمية منظمة، تستخدم فيها منصات التواصل الاجتماعي والمؤثرين لنشر التضليل والإشاعات، في محاولة لتشويه الصورة المغربية دولياً. إن هذا الخطاب الإعلامي لا يهدف فقط إلى تحويل الانتباه عن الأزمات الداخلية، بل إلى تعبئة الرأي العام على كراهية المغرب، كجزء من آلية بقاء النظام.ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عبر العالم في بداية القرن الحالي، انتقلت هذه المواجهة إلى الفضاء الرقمي، الذي أصبح ساحة رئيسية لهذا الصراع السيميائي. حيث باتت تُستخدم الصور والمصطلحات والمؤثرون لتوجيه الإدراك الجمعي وصناعة الحقيقة وفق منطق التأثير لا المعلومة، في إطار إعادة هندسة الوعي.
لقد تجاوزت "المغربوفوبيا" حدودَ الدعاية التقليدية لتتحوّل إلى نزيفٍ ماليٍّ مزمن يكشف اختلالًا بنيويًّا في أولويات الاستراتيجية الجزائرية تجاه المغرب. فالكلفة السنوية لهذا النهج تُقدَّر بحوالي 30 مليار دولار، تتوزّع بين الإنفاق العسكري، وتمويل جبهة البوليساريو، وحملات النفوذ الإعلامي والدبلوماسي.
يشكّل الإنفاق العسكري النصيبَ الأكبر من هذه الكلفة، بما يقارب 22 مليار دولار سنويًا، ليغدو الجيشُ الأداةَ الأولى في صناعة الدعاية، ووسيلةَ "التواصل عبر القوة" بعد فشل محاولات اللوبيينغ الخارجي. وفي السياق ذاته، تواصل الجزائر ضخَّ مليارات الدولارات سنويًا في تمويل جبهة البوليساريو دون تحقيق أيّ مكاسب سياسية أو ميدانية تُوازي الكلفة التاريخية التي تجاوزت 250 مليار دولار خلال أربعة عقود.
أما في مجال القوة الناعمة، فقد تراجعت الجزائر عن رهاناتها السابقة في اللوبيينغ الأمريكي عقب الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، لتعيد توجيه مواردها نحو حملات تأثير محدودة في إفريقيا وبعض المنظمات الدولية، من دون نتائج ملموسة. وفي المقابل، تحوّل الإعلام الرسمي إلى ذراعٍ تعبويٍّ يُغذّي "حرب الإدراك"، محاولًا تعويض العجز الدبلوماسي عبر إنتاج واقعٍ رمزيٍّ موازٍ، رغم غياب أي مردودية سياسية حقيقية.
من جانب آخر، ورغم غياب ميزانية معلنة للدعاية الإعلامية، فإن نظام الرقابة المالية الذي تمارسه الدولة، عبر الوكالة الحكومية (ANEP)، حوّل الإعلام إلى أداةٍ للبروبغندا الرسمية، تُكافأ فيها المنابر الموالية عبر تدفق أموال الاشهار وتُخنق الأصوات الناقدة عبر القضاء. وهكذا أصبح الإعلام فضاءً موحّدًا يردد الخطاب الرسمي وينشر الرواية المعادية للمغرب، ضمن حربٍ إعلاميةٍ تندمج كلفتها في النفقات العامة للدولة. وقد بلغ الهجوم اليومي اتجاه المغرب مرحلة العبث، إذ تردد كل المنابر نفس السيناريو " Script " على طريقة الضجة الاعلامية.
وتعتمد الجزائر كذلك على شبكةٍ من المؤثرين الرقميين لتوسيع دعايتها خارج القنوات الرسمية، عبر تمويلٍ غير مباشر يهدف إلى تلميع صورة النظام وترويج الخطاب المعادي للمغرب بلغةٍ شبابيةٍ مبسطة، ما يحوّل المؤثّر من فاعلٍ اجتماعي إلى أداةٍ دعائية رقمية. و ما المؤتمر الأخير للمؤثرين الجزائريين لخير مثال على الأهمية التي يوليها النظام للإعلام البديل.
ونتيجةً لكل هذه العمليات، تحوّلت السياسة العدائية إلى نزيفٍ استراتيجي يستنزف الموارد ويُعمّق العزلة، إذ أن الجزائر تُنفق على الصراع أكثر مما تستثمر في التنمية، بينما يواصل المغرب كسب معركة الرموز والمعاني بذكاءٍ وهدوءٍ استراتيجي.
من جهته، اختار المغرب، وسط هذا الضجيج، إستراتيجية معاكسة ترتكز على أربع عناصر( القوة الناعمة القائمة على الثقافة والدبلوماسية الرمزية، والسيادة الرقمية والإعلامية، والشفافية والإصلاح المؤسساتي، وأخيراً بناء مرجعية مغاربية جديدة تتجاوز منطق الخصومة). فلم يعد يكتفي المغرب بالدفاع عن صورته، بل بات يُنتجها ويُدير معناها عبر تدويل رموزه الثقافية والدينية والرياضية، مسجّلًا القفطان والمطبخ والموسيقى في اليونسكو، ومقدّمًا نموذجًا للإسلام المعتدل في إفريقيا عبر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وباعثًا رسائل سيادية هادئة من خلال نجاحاته التنظيمية والرياضية على الساحة الدولية (كاستضافة كأس العالم 2030).
وبهذه الطريقة الذكية، لقد انتقل المغرب من موقع الدفاع إلى إدارة الصراع بالإنتاج، معتمدًا على هندسة رمزية مضادة واستباقية تستعيد زمام المبادرة في حرب الدلالات. وبهذه الكيفية، نجح المغرب في تحويل هذا النزاع من المجال العسكري إلى المجال الرمزي والدبلوماسي، حيث يعيد تعريف موازين القوى في المنطقة عبر شراكات دولية إستراتيجية ودبلوماسية هادئة وفعالة دون الرد بالمثل.
في هذا السياق، يمكن قراءة الحالة الجزائرية عبر استعارة أخرى مستوحاة من الأدب الإنجليزي، ألا وهي متلازمة فرانكشتاين (Syndrome de Frankenstein)، إذ أنجبت الثورةُ الجزائرية كيانًا طموحًا باسم الحرية، غير أنّ هذا الكيان ما لبث أن انقلب على قيمها التأسيسية، تمامًا كما انقلب مخلوق ماري شيلي على خالقه. وهكذا أصبح النظام الجزائري أسيرًا لخياله الثوري، عاجزًا عن التعايش مع المبدأ الذي أنجبه بنفسه، ومطاردًا بشبح الثورة التي تحوّلت من مصدر شرعيةٍ إلى عبءٍ رمزيٍّ يثقل الحاضر.
وهذه المتلازمة تتجسد أيضًا في دعم النظام للبوليساريو، ذلك "الكيان المسخ" الذي خُلق ليكون أداة ضد المغرب، فتحول إلى عبء يهدد استقرار خالقه نفسه. في كل مرة ينظر النظام إلى المغرب، يرى فيه الصورة التي فقدها: دولة استطاعت أن تُصالح بين التاريخ والحداثة، بينما بقي هو أسيرًا لماضٍ غير مكتمل. وكما هو الحال في أسطورة فرانكشتاين، حيث يطارد المخلوقُ خالقه في محاولةٍ عبثيةٍ لإثبات ذاته، تواصل الجزائر ملاحقة فرنسا إلى عقر دارها، تقلّدها في اللغة واللباس والعادات، وتعيد إنتاج نموذجها الاستعماري نفسه في محيطها الإقليمي، عبر محاولة خلق كيانٍ مشوَّهٍ في شخص جمهورية البوليساريو — كأنها بذلك تُعيد إنتاج المأساة نفسها: ضحيةٌ تتقمّص دور الجلاد، ومخلوقٌ يتمرّد على خالقه باسم الوهم ذاته ويحاول محاكاته.
وعلى ذِكر المستعمر، لا بدّ من الإشارة إلى أن أحد أعمق جذور عدم الاستقرار في المنطقة يكمن في الخطأ التاريخيالجسيم الذي ارتكبه المستعمر الفرنسي، حين أقدم على بتر أراضٍ شاسعة من عمقها التاريخي والجغرافي المغربي والتونسي وضمّها إلى ما كان يُعرف ب"الجزائر الفرنسية". لم يكن هذا الترسيم الهندسي للحدود مجرّد إجراءٍ إداريٍّ أو تنظيمٍ استعماريٍّ للفضاء، بل عمليةً سياسيةً ممنهجة هدفت إلى معاقبة الدول المجاورة التي دعمت المقاومة الجزائرية، وإلى تسهيل السيطرة على الموارد الطبيعية من خلال تفكيك الامتدادات القبلية والتاريخية التي شكّلت نسيج المنطقة عبر قرون.
لقد أسّس هذا القرار الاستعماري لحدودٍ مصطنعةٍ ومُختلّة، زرعت بذور نزاعٍ إقليميٍّ دائم، وخلقت واقعًا جيوسياسيًّا مشوّهًا لا يزال إلى اليوم يُغذّي التوترات ويُعيق أيَّ مشروعٍ للتكامل المغاربي الحقيقي. إنها بحقّلعنةُ الجغرافيا الاستعمارية المتجدّدة، التي تحوّلت إلى ما يشبه "الأنترُوبيا البنيوية" التي تُغذّي النظام الجزائري وتُبقيه في حالةِ اضطرابٍ دائم، كجسمٍ سياسيٍّ يعيش على فوضى الحدود أكثر مما يعيش على استقرار الوطن.
وفي نفس الموضوع، يسعى المغرب إلى تفكيك الرمز الأبوي الفرنسي الذي ظلّ يمثل مركز الشرعية الثقافية والسياسية في المنطقة. فمن خلال إعادة صياغة شراكاته، تؤكد المملكة نضجها السيادي وتعلن انتهاء مرحلة التبعية الرمزية لباريس، وتفرض نموذجاً حديثاً قائماً على الندية والسيادة والاستقلالية الاستراتيجية.
كل هذا يجعل المغربوفوبيا أكثر من مجرد خطاب عدائي؛ إنها عقيدة وجودية بكل المقاييس توظف كآلية دفاع جماعية تنقل صدمة التاريخ إلى عداوة مؤسساتية. فبدل مواجهة الأزمات البنيوية، يفضّل النظام الجزائري إنتاج عدو دائم يبرر استمرار بنيته المغلقة. لكنها تظل مفارقة قاتلة: فكلما ازداد إنكار الذات، تضخّمت صورة العدو في الوعي الجماعي، إلى أن يتحول إلى جزء من كينونة الدولة نفسها.
ويمكن تشبيه السلوك الجيوسياسي للنظام الجزائري بالورم الخبيث الذي ينخر استقرار المنطقة. فهذا النظام، الذي نشأ من أزمة شرعية داخلية عميقة، لا يكتفي بتصدير إخفاقاته، بل يسعى بشكل متواصل إلى خلق بؤر توتر لتقويض أي مشروع وحدوي أو تنموي إقليمي. ويتجسد هذا السلوك في احتضانه لكيانات انفصالية مثل البوليساريو ونواة لجمهورية الريف والأزواد، التي تحولت إلى عامل دائم لعدم الاستقرار وعبء يستنزف موارد الدولة على حساب رفاهية شعبها. وكما يضر الورم بجسده المضيف، فإن هذه السياسة العدائية تضع الجزائر في قفص من العزلة، وتمنع المنطقة المغاربية بأكملها من تحقيق تكاملها الطبيعي، مما يجعلها بؤرة للصراع الدائم و تدخل القوى الأجنبية، بدلاً من أن تكون قطباً للازدهار المشترك.
أما المغرب، من جهته، فقد تجاوز منطق التبرير وردّ الفعل، واعتمد هندسة رمزية مضادّةً تقوم على استباق الحرب الدلالية لا مجاراتها. فبينما تنغلق الجزائر داخل خطابها الدفاعي، يوسّع المغرب مجاله الرمزي عالميًا عبر شبكات من القوة الناعمة والشرعية الثقافية، مستثمرًا رأسماله التاريخي و البشري في بناء سردية سيادية جديدة. و بهذا، تحوّل من متلقٍّ للاتهام إلى صانعٍ للمعنى؛ من موضوع في خطاب الآخر إلى ذاتٍ تعرّف نفسها بوعي وتوازن.
ورغم نجاح الدعاية الجزائرية، في ظاهرها، في تأجيل المواجهة مع أزماتها البنيوية الداخلية عبر صناعة عدوٍّ خارجي يوحِّد الخطاب الرسمي حول "الخطر المغربي"، فإنّ هذا النجاح ظلّ انفعاليًا ومؤقتًا، أقرب إلى مسكّن رمزيٍّ منه إلى مشروع وطني فعلي. فهي تخدّر الوعي العام دون أن تُصلح الواقع، وتعيد إنتاج الأزمة داخل بنية مغلقة من الإسقاط والتبرير.
أما على المستوى الخارجي، فقد فشلت هذه الدعاية في بناء سرديةٍ مقنعةٍ أو مشروعيةٍ دبلوماسيةٍ متماسكة؛ إذ انكشف خطاب الكراهية أمام الرأي العام الدولي، وتراجع النفوذ الرمزي الجزائري في إفريقيا والعالم العربي أمام تمدد القوة الناعمة المغربية، التي نجحت في توظيف ثقافتها ورمزيتها الدينية والتاريخية لبناء تأثيرٍ هادئٍ ومستدام.
ومع تزايد العزلة الدبلوماسية للجزائر، غدت المغربوفوبيا نفسها علامةً على فقر المخيلة السياسية وارتباك الوعي الاستراتيجي للجار. وبذلك ارتدّ الخطاب العدائي على صانعه؛ فمحاولات السطو الرمزي على التراث المغربي كشفت الفقر الدلالي للنظام، وتحولت الدعاية إلى مرآةٍ تعكس هشاشته الداخلية وأزمته الهوياتية. أمّا المغرب، فقد حوّل هذا العداء إلى رصيدٍ جديد، إذ نجح في تحويل الهجوم إلى فرصةٍ لتثبيت سرديته السيادية والدلالية بغية تعزيز مكانته الحضارية والدبلوماسية على الساحة الدولية وذلك رغم محاولات الجزائر في الاستثمار في الأزمات الداخلية للمملكة و تجنيد بعض العملاء الانفصاليين أو الناقمين.
وفي الختام، لقد أثبتت هذه القراءة السيميائية أن المغربوفوبيا تعدت حدود الخصومة السياسية مع الجزائر لتغدو معتقداً راسخاً لديها. إنها تُفرز جوهر الخطاب لتكشف التعويض السيميائي عن أزمة هوية وفقر رمزي داخلي لدى النظام العسكري. وبالرغم من النزيف المالي المزمن الذي يُنفَق على صناعة العدو، يبقى هذا المسعى رهاناً خاسراً. فالمغرب، في المقابل، يواصل كسب حرب المعنى بعمقه الرمزي وشرعيته التاريخية الثابتة
. إنها لمفارقة قاتلة؛ فكلما ازداد إنكار الذات لدى صُنّاعها، تضخّم العدو في الوعي، ليتحول إلى جزء من مكونات كينونتهم النفسية والعقلية. وهكذا، لم يعد أساس الصراع بين المغرب والجزائر جغرافيًا أو عسكريًا أو حتى اقتصاديًا، بل أضحى دلاليًا. ولكن، تبقى الورقة الرابحة في يد من يملك الأحقية والشرعية تعريف المعنى، فهو من يملك سلطة الواقع. والمغرب يخوض اليوم حربًا على التأويل حيث تصبح اللغة والصورة والرمز أدوات للسيادة.
وفي هذه الحرب الرمزية لا ينتصر من يرفع صوته أكثر، بل من يوضح معناه أعمق. "فهذا هو الثمن الأبدي: ضياع البوصلة التاريخية لا يورث إلا العزلة و الاندثار. "
الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.