كان طبيعيا أن تخلص الدراسة التي أعدها مجلس المنافسة حول تنافسية قطاع الاتصال في المغرب إلى النتيجة التي خلص إليها بخصوص ضرورة فتح باب المنافسة أمام المقاولات الخاصة للاستثمار في المجال التلفزيوني، فلا شيء يبرر التأخر في فتح هذا الورش، بجميع الاعتبارات. بالأمس القريب، كان المبرر سياسيا، إذ كانت الظروف السياسية المحكومة بالصراع حول السلطة، تدفع الدولة إلى الهيمنة على المجال السمعي البصري واحتكاره حتى تضعف القوى التي كانت تنازع الدولة شرعيتها. اليوم، تغير السياق السياسي، وصار الخيار الديمقراطي، بمقتضى النص الدستوري ثابتا من الثوابت الدستورية التي لا رجعة فيها، وتبنى المغرب التزاما منه بوجوب ضمان الحق في الإعلام، التعددية في التعبير عن تيارات الرأي، ووضع حد ?حتكار الدولة في مجال البث ا?ذاعي والتلفزي وفتح المجال للمبادرة الحرة لهذا القطاع، وتنصيب الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري لضمان تقيد المتعهدين في القطاع السمعي البصري باحترام دفاتر التحملات التي تنظم الممارسة في هذا المجال. أين المشكلة اليوم؟ وما الذي يبرر التراجع عن مسار التحرير، والتوقف عند خطوة مسار تحرير البث الإذاعي، وعدم الاقتراب من المجال السمعي البصري، لاسيما بعد أن تم إعادة قناة ميدي 1 سات إلى احتكار الدولة من جديد؟ لقد أثبتت تجربة تحرير البث الإذاعي أن المبررات التي يتم الدفع بها عادة جد ضعيفة، فقد استوعبت السوق الفاعلين الجدد، وأثروا بنسب معينة التعددية الإعلامية، ولم يتم انتظار تقوية الإذاعات العمومية لتحرير هذا القطاع، وتبدد وهم تضخيم الهاجس السياسي في التعامل مع هذا القطاع، وضمنت التنافسية في القطاع تطوير الأداء الإذاعي و توسيع كتلة المستمعين، وتجسيد جزء هام من تعددية تعبيرات الرأي، وتحريك المنافسة في اتجاه ضمان الجودة، وفتح نافذة أخرى للاستثمار والتشغيل. اليوم، وعلى العكس تماما من التخوفات التي تعرقل مسار التحرير الكامل لهذا القطاع، فإن التحديات المطروحة تعزز ضرورة الإسراع برفع احتكار الدولة للقطاع التلفزي وفتح المجال للمبادرة الحرة، فالواقع يؤكد بالأرقام، أن غالبية المغاربة يهاجرون إلى القنوات الفضائية الأجنبية، بسبب ضعف تنافسية التلفزيون المغربي، وستتزيد هذه الهجرة مع التطور التكنولوجي ومع تناسل القنوات الفضائية الأجنبية التي تتنافس من أجل اكتساب أوسع شريحة من المشاهدين، والمفارقة أن قوة شبكات بعض القنوات سيجعلها تتجاوز القنوات العمومية حتى في تناول القضايا الوطنية. بمعنى، إن مبررات الاستمرار في احتكار الدولة للتلفزيون ستصير بلا مضمون، بل ستصير عقبة في طريق الدفاع عن المصالح الوطنية، وأداة عقاب للطاقات الإعلامية الوطنية التي تختار اضطرارا الهجرة إلى القنوات الفضائية ألأجنبية. القرار في جوهره سياسي، حتى ولو كان من الناحية المسطرية من اختصاص الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ومهمة مختلف الفاعلين اليوم، أن يفتحوا النقاش العمومي في هذا الورش الإصلاحي المهم، وأن يتم النظر بشكل علمي إلى جميع أبعاده، بدءا من بحث توجهات المغاربة في التعاطي مع وسائل الإعلام، وحجم متابعتهم للقنوات العمومية، وقياس نسبة تنافسيتها مع القنوات الأجنبية، ودراسة أثر الاجتياح الإعلامي على المصالح الوطنية، وذلك بالنظر إلى البعد الديني والمذهبي والقيمي والسياسي، وتقييم مسلسل الانفتاح في المجال الإذاعي، ثم دارسة تجارب الدول القريبة في مجال تحرير المجال التلفزي، بالإضافة إلى دراسة متطلبات السوق ومدى حاجتها إلى إنهاء احتكار الدولة للقطاع، ومدى توفر الإمكانات البشرية القادرة على خوض التجربة. إنه من المعيب جدا، أن تبادر دول المغرب العربي جميعها تقريبا إلى هذه الخطوة بما فيها الدول التي توجد خارج التصنيف الديمقراطي كالجزائر، بينما يتردد المغرب في قراره السياسي، فيقطع شوطا مهما في تحرير الاتصال الإذاعي، ويتراجع في المجال التلفزي مع أن كل المؤشرات تؤكد بأن المغرب خسر الكثير، وسيخسر أكثر من ثوابته ومصالحه الوطنية لو استمر في هذا التردد سنوات أخرى. للمغرب دائما، مقارنة مع دول الجوار، جرأة وسبق في التوجه إلى ترجمة الخيارات الديمقراطية، وله أيضا حكمة ورزانة في الإقدام على هذه الخطوات، لكن يبدو أن تأخره في هذا الورش تجاوز الزمن المفترض للحكمة والتبصر، بحيث صار الاستمرار في هذا الوضع ومحاولة تبريره مضرا بمستقبل قطاع الاتصال وبواقع التعددية وبأفق الاستثمار فيه، وممثلا لتهديد حقيقي للثوابت والمصالح الوطنية.