نشرت جريدة الصباح ليوم الثلاثاء الماضي حوارا مع عبد الهادي خيرات عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يقول فيه: (أخشى أن يكون المصحف غدا هو دستور البلد في ظروف موازين القوى الحالية). وأقول: مثل هذا الكلام ليس مستغربا من مدرسة، خرجت أمثال: من تمنى مكان الصوامع والمآذن مداخن المصانع، وكأنه يستحيل في منطقه أن يجمع الناس بين المسجد والمصنع، وأمثال من سرد على المغاربة حكاية موته، حيث لم يوقر فيها ملائكة ولا دينا، وتعدى نبزه الأحياء إلى موتى المسلمين، وأمثال من اعتبر الأديان في عمومها دمارا للإنسانية وعموم البشر، وأن القرآن تجاوزه الواقع وأنه عدو للحركات الإسلامية، وأمثال من استيقظ بعد طول سبات ليردد على مسامعنا أسطوانة بليت من زمن الاستشراق، وزمن الشيخ علي حسن عبد الرزاق الذي بهره بريق الغرب، فانبرى يجرد الإسلام من السياسة ونظام الحكم.. إنها شجرة معلوم أصلها، ومعروفة فروعها وغير مستغربة ثمارها..وقد انخدع الناس بها زمنا، عندما كان بريق الشعارات يأخذ بالألباب مثل: التقدمية ومعركة الكادحين، وحقوق الطبقات المسحوقة، والتوزيع العادل للثروات..وغيرها مما كان من قبيل الأوراق التي تغطي طبيعة الشجرة عن أعين الكثيرين، ولما حل بها خريف الايديولوجيات وانكشف أمرها خارج البلاد وداخله: مما أصبح لهم من مواقع في القرار أو مساهمة فاعلة فيه وحصلوا على أم الوزارات في المال والعدل والتعليم والثقافة وغيرها..تبخر الكلام وبقي الفعل ضعيفا وهزيلا لم يكد يصل للكادحين منه شيء،إلا من كان منهم يحوم حول الوردة المخنوقة بقبضة بعض المتحزبين..وتفاوتت الغنائم والأنفال بحسب قوة الولاء والقرب من المركز ورضى الفاعلين وذوي القرار.. طارت أوراق التنمية ووعود العدالة ولم تبق سوى سموم الشجرة الموجهة نحو القيم الأصيلة والثوابت العريقة.. لم يخرج القائل إذن عن أصله ولا عن طبعه، إنما كانت له ميزة الشجاعة ليعبر عن المكنون والمظنون به عن غير أهله، ويظهر أنها ميزة تميزه عن كثير من أصحابه، إذ سبق له أن قال في الملك الراحل ما اعتبره قمة إنجازه: (حامي الحدود؟ يشهر الحرب؟ يحل البرلمان الذي أجلس فيه؟ يعلن حالة الاستثناء؟سبط الرسول؟ وهو الذي يعطي رخص الخمر...) وإن كان صدر الأمر بقتله آنذاك بحسب دعواه، وبقي مطاردا إلى أن صدر العفو عنه من الحسن الثاني رحمه الله، فهو اليوم يقول كلامه وكله اطمئنان إلى أن المس بالدين أضحى من أوهن المقدسات..! إن الشيء الذي ينبغي أن تخشاه أخي عبد الهادي هو أن تصبح أنت وزمرتك من المهجورين،لأن هذا المصحف الذي تتوجس من أن يصبح دستورا للبلاد، هو الدستور الفعلي لجميع المؤمنين به، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، يحبونه ويعلمونه أبناءهم ويسترشدون به في حياتهم، يعظمون حلاله ويمقتون حرامه وإن ضعفوا في لحظات سارعوا إلى التوبة والاستغفار..وهو الدستور التاريخي لأمة لم يكن لها من شأن بغير هذا القرآن، هو دستور المغاربة منذ أن اعتنقوا الإسلام ومنذ الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين والعلويين، هو دستور طارق بن زياد فاتح الأندلس ويوسف بن تاشفين ويعقوب المنصور الموحدي والمولى إسماعيل وغيرهم كثير حتى جاء الاحتلال الفرنسي فزحزح مجالات عديدة من الحياة العامة والمؤسسات عن الاسترشاد بهدي القرآن، ومع ذلك بقي المغاربة يعتبرون المصحف فوق الدساتير وفوق القوانين، حتى قال عبد الله كنون رحمه الله، بخصوص آفة الخمر: ودستور القرآن من الذي ألغاه..؟، ففترة الاغتصاب والاحتلال الغربي فترة استثناء، وسنوات معدودة لا تساوي شيئا في عموم تاريخ المغرب العريق..وأتحدى عبد الهادي خيرات أن يأتيني بدستور آخر للمغاربة عبر تاريخهم الطويل غير القرآن..ولا يمكن للمغاربة الأحرار من رجس المغتصبين المحتلين إلا أن يتوجسوا ممن يخاف من القرآن دستورا للسياسة والحياة.. والحاكمون به عبر فترات التاريخ لم يدعوا لحظة، أن اجتهادهم في تطبيق القرآن والحكم به هو عين القرآن وكلام الله، إنما كانوا يسددون ويقاربون لتنزيله في واقع الناس وهم في ذلك معرضون للخطأ والصواب، وإذا أخطأوا قوموا بخطاب ودعوة من القرآن ذاته،فعل ذلك العلماء والدعاة والمصلحون عبر تاريخ المغرب والمغاربة. ومن نافلة القول إن دستور المغرب اليوم يجعل من الإسلام الدين الرسمي للبلاد، إلا أن يقصد عبد الهادي وأمثاله العمل على عدم تفعيله والحيلولة دون إعماله في واقع الناس. ثم هذا المصحف الذي درسته في صغرك،وحفظه والدك في صدره،هل فيه ما يخجلك أو يحرجك؟وهو قول رب العالمين،رب الأغنياء ورب الفقراء، رب الصغار والكبار، ورب الرجال والنساء، وهو الحكيم العليم الخبير العدل الذي لا يظلم الناس شيئا.. أرجو أن يكون ما صدر عنك أخي عبد الهادي مجرد (هفوة أوزلة لسان) وأدعوك لتقرأ معي هذه الآيات من سورة النورعسى أن تذهب ما في ذهنك من شبهات: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مُذْعِنِينَ . أَفي قلوبهم مرض أَم ارتابوا أَم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون . إنما كان قول المومنين إِذا دعوا إِلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أَن يَقولوا سمعنا وأَطعنا وأُوْلئك هم المفلحون . ومن يطع الله ورسوله وَيَخْش اللَّهَ ويتَّقْه فَأولئك هم الفائزون}.