هناك جانبان في الاستقلال، هناك الاستقلال الاقتصادي، بمعنى اعتماد المجتمع على مقوماته الاقتصادية الذاتية، واستطاعة هذا المجتمع أن يحقق هذا الاستقلال الاقتصادي، وهناك جانب آخر هو استقلال القرار الاقتصادي، أو بمعنى آخر سيادة القرار الاقتصادي، فهناك مجتمعات قد يكون لها استقلال اقتصادي ولا تكون لها سيادة القرار الاقتصادي، والعكس أكثر، فهناك مجتمعات لها سيادة اقتصادية، بمعنى أن القرارات الاقتصادية تتخذ داخليا، حتى وإن لم تحقق في مرحلة من مراحل تطورها الاستقلال الاقتصادي، فما موقع المغرب من الاستقلال الاقتصادي واستقلال/سيادة القرار الاقتصادي؟، ونعرف أن استقلال القرار الاقتصادي هو أولوية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وفي مرحلة معينة من التطور يسهم الاستقلال الاقتصادي في استقلال القرار الاقتصادي لأنه يدعم بالإمكانيات، وبالتالي الولوج إلى الأجنبي يكون أقل. والمرحلة الأولى للاستقلال كان فيها الهاجس الأساسي للحكومات التي تتابعت هو تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وكان الوازع الوطني يدعم سيادة القرار الاقتصادي، وبالتالي اتخذت سياسات في المجال الاقتصادي، وهي التأميم والمغربة، ويرميان لتحقيق السيادة الاقتصادية، ولتكون هذه السيادة نتيجتها هي تحقيق الاستقلال الاقتصادي، ومن ثم كان ضروريا أن تسترجع الحكومات سيادة القرار، ومعناه تأميم القطاعات الحيوية التي هي في يد الاستعمار الأجنبي، وكذلك مغربة الأطر ومغربة الرأسمال وسن قوانين تنص على أن تكون 51 من رأسمال القطاعات الحيوية مغربيا، فهل نجحت هاتان السياستان؟ الواقع أنها حققت نصف نجاح، والآن نعي هذه الحقيقة بعد ضياع ثلاثة أجيال بعد الاستقلال، نعي أن المغرب استرجع بالمغربة والتأميم سيادة القرار الاقتصادي، لكنه لم يحقق الاستقلال الاقتصادي، لأنه لم يستثمر في الإنسان، في التعليم وفي لغته وفي الموارد البشرية والبحث العلمي، وتوسيع قاعدة التعليم العالي، حتى وإن حقق بعض الإنجازات، لا على المستوى القاعدي، لأنه بعد مرور نصف قرن لم يقض على الأمية، وهذا معناه أنه بعد الاستقلال أنتجت ثلاثة أجيال من الأميين، وحتى الآن يقول إنه سيبقى 20 في المائة سنة ,2020 وكأنه ينتظر وفاة الأميين، كما أن المغرب لم يعمم التعليم؛ خصوصا في المناطق القروية. بعد سياسة التأميم والمغربة؛ بدأ المغرب يلج إلى المؤسسات الدولية لتمويل المشاريع الاستثمارية، وبدأ يلج إلى البنك الدولي، وهنا بدأ البنك الدولي يدعم استثمارات المغرب مقابل توجيه الاقتصاد المغربي، خصوصا في الفلاحة، وإبعاده عن الصناعة والتكنولوجيا، مما أدى إلى بعد عن استيعاب التكنولوجيا، وبدأ المغرب يفقد السيادة الاقتصادية، ويوجه اقتصاده نحو القطاع الفلاحي أساسا، مما جعل القطاع الفلاحي ينقسم إلى قسمين، قطاع متقدم وممكنن، وقطاع تقليدي اجتماعي هدفه الحفاظ على السكان في البادية وعدم الهجرة إلى المدينة، وفي أواخر السبعينيات بدأت الأزمة المالية تظهر، وهنا ظهرت مؤسسة أخرى ستأخذ جزءا من السيادة الاقتصادية للمغرب، وهو صندوق النقد الدولي، والذي سيفرض على المغرب سياسة التقويم الهيكلي، وأن يقلل من الاستثمارات العمومية، ويقلص من التوظيف العمومي ويقلص من ارتفاع أجور الموظفين، ويقلص من دعم صندوق الموازنة ودعم المواد الأساسية، وعنصر آخر سيجهز على السيادة الاقتصادية وهو سياسة الخصخصة، واستطاع المغرب أن يؤجلها لكنه طبقها ليبيع أحسن الشركات المتواجدة في القطاع العمومي، دون أن يتضح مصير المال الذي تبيع به القطاعات الاقتصادية. ودخل المغرب بعدها مرحلة العولمة فتغيرت الأوضاع، فقد توجه المغرب نحو خصخصة قطاع الخدمات، وبالتالي تفويت تسيير قطاع الماء والكهرباء إلى شركات أجنبية، أمانديس في طنجة، وريضال في الرباط (وكانت قبلها شركة برتغالية قبل ذلك) وفي الدارالبيضاء شركة ليديك، ما هو تفسير ذلك؟ هل القطاع الخاص المغربي لا يستطيع؟ وهل القطاع العمومي أعلن عزوفه عن القيام بالخدمات العمومية؟ إذا كان القطاع العمومي فشل في تسييرها فإن هناك فسادا إداريا، وهذا الفساد الإداري يمكن أن تصلحه، وإذا كان هناك تفضيل للقطاع الخاص فلماذا تفضيل القطاع الأجنبي على المغربي؟ إن هذا يعد فقدانا للسيادة الاقتصادية، وسيادة التوجيه الاقتصادي في قطاع الخدمات، ثم تلاه قطاع جمع النفايات الذي تم تمريره لشركات أجنبية، وهذا دخول عشوائي في العولمة، ويعطي سلاحا للأجنبي للتحكم في قطاعات حيوية تمس بالمصلحة العامة وبمصلحة الفئات الأقل غنى والأقل حماية، والأجنبي يدخل في هذه القطاعات لأسباب ربحية. في إطار هذه العولمة وقع المغرب على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وقبل الشروط التي أملتها عليه أوروبا، وفقد بشكل جزئي السيادة على التجارة الخارجية نحو أوروبا، وقد عرف أن المغاربة لا يتفاوضون بقوة أو بحكمة، بل يتفاوضون انطلاقا من عقدة النقص إزاء الأجنبي، خصوصا إذا كان أوروبيا، لكن الطامة الكبرى كانت هي توقيع اتفاقية الشراكة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي كانت بإيحاء من هذه الأخيرة، وفرضت شروطها على المغرب، الذي لم يكن مضطرا لها، وقبلوا بالشروط الأمريكية، وفقد المغرب جزءا آخر من السيادة على التجارة الخارجية، ومن ضمن ما فرضته أن لا ينتج المغرب تكنولوجيا مثل التي تدخل سوقه إلا بعد 25 سنة، وهي شروط تعجيزية. وهيمنت مكاتب البحث الأجنبية على الاقتصاد المغربي، وهناك ثلاثة مكاتب بحث هي التي وجهت الاقتصاد المغربي بعد الاستقلال: مكتب البحث دار الهندسة الدولية، يوجد مقره في بيروت ويعمل مع وزارة التخطيط في المغرب لتوجيه الاقتصاد المغربي أواخر السبعينيات، وهو الذي وجه المخططات الخماسية، بعد مرور 50 سنة نجد مكتبين هما اللذان يوجهان الاقتصاد المغربي، مشروع إيميرجونس هو الذي يحدد القطاعات الست الأساسية للاقتصاد المغربي التي يجب تنميتها، والذي وضعه مكتب ماكنزي، و إيرنيس إينيونغ وهي التي تتقاسم مشاريع المغرب، منها مشروع الطاقة ومشروع المخطط الأخضر، ومشروع تنمية الساحة ومشروع تنمية العمران. ثلاثة مكاتب بحث أمريكية حددت أهم توجهات اقتصاد المغرب، وخطورتها تكمن في سيرتها وفي توجيهها إلى بلدانهم لكي تقرأ من قبل المخابرات، ومن خلال مكاتب البحث تلقى أسئلة لا علاقة لها بموضوع البحث، ولكن لها طابع اجتماعي وسياسي وسوسيولوجي، وحضاري، وتدرس في المختبرات الأمريكية، وتوجه على أساسها السياسات الأمريكية، وليس للعاملين في هذه المكاتب الحق في الاطلاع على نتائجها، أو على نسخ منها. وعندما كانت الأزمة في أوروبا كان طبيعيا أن تصيب المغرب بسبب كون سوقه مرتبطة بتطور السوق في أوروبا، حسب قراءة ماكنزي وإيرنيس إينينغ، والمشروع الأخضر هو المشروع الأخطر في المغرب، لأنه سيسمح للأجانب بكراء الأراضي الفلاحية في المغرب لمدة طويلة قد تصل إلى 99 عاما، وفقدانها عمليا، وتحويل الفلاح الذي يملك أرضا صغيرة، إلى أجير لدى المكتري، وجزء منهم سيحال على البطالة، والأمريكيون هم الذين تولوا المخطط الأخضر، وهو في ظاهره تطوير ومكننة، وفي باطنه تحويل الأراضي إلى الأجانب ونزعها من المغاربة. لقد ضعفت سيادة القرار في المغرب بسبب دخول الشركات المتعددة الجنسية في الخصخصة وفي تفويت الخدمات للأجانب، وكذا هيمنة مكاتب البحث الأجنبية، وعلى رأسها ماكنزي وإيرنيس إينينغ، ودار الهندسة أنترناسيونال، وفي آن واحد سياسة درء هذه المخاطر تأتي عن طريق دمقرطة المؤسسات واستقلال القضاء واستعادة القرار الاقتصادي والاحتفاظ بالاستقلالية المالية لميزانية الدولة وعدم الولوج إلى القروض الأجنبية، وعدم تحويلها بقروض محلية.