تفاصيل خطة إنهاء الحرب في غزة.. ترامب يتحمس وبلير يعود إلى الواجهة    تجمهرات تخلف إصابة 29 عنصرا أمنيا                                        الأمير مولاي الحسن يترأس افتتاح الدورة ال 16 لمعرض الفرس للجديدة    الحسيمة.. عائلة الشاب الذي توفي بحانة كانتينا تكشف معطيات جديدة    لليوم الثالث .. "منع استباقي" ومطاردات تبصم احتجاجات شبابية وسط الرباط    إنزال أمني يمنع شبابا من الاحتجاج    مؤتمر "العدالة والتنمية" بتيزنيت ينتخب عبد الله القصطلني كاتبا إقليميا    الدار البيضاء: إيقاف شخص ينشر صور وفيديوهات للاحتجاجات ببعض الدول الأجنبية ويدمجها مع مظاهر للإحتجاج داخل التراب الوطني    مباراة المغرب والبحرين.. بيع أزيد من 42 ألف تذكرة إلى غاية السادسة مساء    الحوز .. ارتفاع ب6 في المائة في عدد ليالي المبيت السياحية عند متم يوليوز الماضي (مرصد)    قطر تأمل نهاية الحرب في غزة    تأجيل مباراة فالنسيا وريال أوفييدو بسبب سوء الأحوال الجوية    ناشط مغربي ب"أسطول الصمود": ننتظر الوصول إلى غزة بفارغ الصبر    جبهة القوى الديمقراطية تدعو إلى مناظرة وطنية شاملة حول قطاع الصحة    الركراكي يلتقي بالصحافيين في سلا    صحافة الشيلي: فوز المغرب على إسبانيا يفجر أولى مفاجآت "مونديال U20"    بورصة البيضاء تُغلق على أداء سلبي    أمطار رعدية قوية مرتقبة في المغرب    دي كابريو يتصدر شباك السينما بأمريكا الشمالية    الصندوق المغربي للتقاعد يعلن صرف معاشات المتقاعدين الجدد التابعين لقطاع التربية والتعليم    القانون 272 يدفع المصابين بألأمراض المزمنة إلى الهشاشة الاجتماعية    علماء روس يبتكرون أدوية "ذكية" يتحول شكلها داخل الجسم    الخارجية الأمريكية تبرز مؤهلات المغرب ك'قطب استراتيجي' للأعمال والصناعة    برامج شيقة تمزج بين الإبداع والتجديد في الموسم التلفزي الجديد لقناة الأولى        نشرة إنذارية: زخات رعدية محليا قوية مصحوبة بتساقط للبرد مرتقبة اليوم الاثنين بعدد من مناطق المملكة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    وجدة تحتفي بالسينما المغاربية والدولية في الدورة 14 للمهرجان الدولي المغاربي للفيلم    المعهد المتخصص في الفندقة و السياحة بالحوزية ضمن المتوجين في الدورة 11 للمعرض الدولي ''كريماي'' للضيافة وفنون الطبخ    أكبر جمعية حقوقية بالمغرب ترصد الانتهاكات التي رافقت "قمع" احتجاجات الشباب وتطالب بوقف الترهيب    كأس العالم تحت 20 سنة.. المنتخب المغربي يتصدر المجموعة بعد تعادل البرازيل والمكسيك    بنسعيد: الراحل سعيد الجديدي أغنى المكتبة الوطنية بإنتاجات أدبية وصحفية قيمة    الذهب يتجاوز عتبة 3800 دولار للأوقية وسط تزايد توقعات خفض الفائدة        "طريقة الكنغر" تعزز نمو أدمغة الأطفال المبتسرين        تراجع طفيف لأثمان الإنتاج الصناعي    البرلمان البرتغالي يناقش مقترح الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء    الصين تهدف تحقيق نمو يزيد عن 5 في المائة في صناعة البتروكيماويات خلال 2025-2026    محمدي يجمع الرواية والسيرة والمخطوط في "رحلة الحج على خطى الجد"    عرض "نشرب إذن" ينافس في بغداد    التضليل الإلكتروني بمؤامرة جزائرية لخلط الأوراق: مشاهد قديمة تُقدَّم كأحداث راهنة بالمغرب    دراسة: الموسيقيون يتحملون الألم بشكل أفضل من غيرهم            بوريطة: تخليد ذكرى 15 قرنا على ميلاد الرسول الأكرم في العالم الإسلامي له وقع خاص بالنسبة للمملكة المغربية        الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    الرسالة الملكية في المولد النبوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية التصوف في الخطاب السلفي المعاصر
نشر في التصوف يوم 07 - 03 - 2012

التصوف حديث شيق ممتع، وجد مناخاً خصباً له في مصر تحديداً، وهو في حقيقته كما يؤكد رواده ومريدوه علم يعرف به كيفية السلوك إلي حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرزائل، وتحليتها بأنواع الفضائل.
والتصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة. والمهمومون بقضية التصوف يقصدون به تزكية النفس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول به إلي مرتبة الإحسان.
ويؤكد أتباع الصوفية المعاصرين أن الصحابة والتابعين كانوا صوفيين فعلاً لا اسماً، معللين رأيهم هذا بأن المرء يعيش لربه لا لنفسه، ويتحلي بالزهد وملازمة العبودية والإقبال علي الله بالروح والقلب معاً في جميع الأوقات.
فرض عين
بل ويذهب بعضهم بالقول بأن التصوف هو فرض عين مرتكزين في ذلك علي قول السلف، فالإمام جلال الدين السيوطي قال: "وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوهما، فقال الغزالي: إنها فرض عين".
وحينما يهجم عليهم معتد بالقول في حقيقة التصوف باعتباره مجرد أوراد تتلي وحلقات أذكار فحسب، ينكرون عليه هذا بقولهم إن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلي شخصية مسلمة مثالية متكاملة.
وأبو الحسن الشاذلي له رأي في ذلك بقوله: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
ورغم ما يتمتع به التصوف من مكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يري غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام.
وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم. عليى العكس تماما من الخطاب الديني لدي جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفية كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من خصائص دعوته أنها حقيقة صوفية.
وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلي منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفية، فكثير ما كان هذا الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة، وهو نفس الخطاب والطرح الصوفي القديم والمعاصر، فالتجربة الصوفية تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشرية التي عقدتها الحياة الاصطناعية وطبيعة المجتمع المركب.
لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه، فإذا كان التصوف يدعو إلي قطع العبد بعلائق الدنيا، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد، والبلد، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره.
فحالة الصراع المستدامة التي يفجرها الخطاب الديني تحتاج إلى مواطن شديد الصلة بواقع مجتمعه، يفرق بين المعروف والمنكر حسبما وجهه إلي ذلك هذا الخطاب، وغير منقطع الصلة بوطنه الذي سيحمل سلاح الجهاد فيه لمواجهة أعدائه المتربصين به دائماً، وهذا ما يؤكده الخطاب السلفي من وجود أعداء دائمين للإسلام، وبدلاً من تقوية العقيدة لدينا راح هذا الخطاب يرفع حالة التأهب القصوي لقدوم العدو.
وحسب علمي أن الاستشراق فقط هو الذي حمل عداءً معلناً للإسلام والنيل من خصائصه ومقوماته، وحينما بزغ فجر هذا العداء لم نجد خطاباً سلفياً واحداً يعالج قضية الاستشراق، بل وحد جهوده وجهود أنصاره في النيل من الإمام محمد عبده، والدكتور عبدالحليم محمود، والشيخ محمد الغزالي، وبالتأكيد معاودة القنص من التنويري رفاعة الطهطاوي، وليس هناك مانع من المرور السريع على أديب مصر نجيب محفوظ ومفكرها نصر حامد أبو زيد.
وفي زمرة الحديث عن الخطاب الديني السلفي المعاصر، لابد من التسليم بقوة أسلحته وهو ينفَّر أنصاره من الصوفية والتصوف، ولأن أنصار هذا الخطاب ممن يحسنون الاستماع دون القراءة فإن المدخل الرئيسي لضرب مفهوم التصوف والصوفية لديهم هو الشريعة الإسلامية نفسها.
فراح هذا الخطاب سواء على المنابر أو من خلال المنشورات أو في ندوات موجهة إلى التشكيك في التزام المتصوفة بالشريعة الإسلامية وأحكامها، بل ويغالي بعضهم بأنهم يتحللون من الشريعة كليةً، وبالطبع هم يستندون في ذلك علي بعض المنتسبين إلى الصوفية والمشهورين بالدجل والشعوذة.
ولو كلف أحدهم مشقة البحث في هذا الحكم الصارم لوجد أن كبار المتصوفة مثلهم كمثل أي مسلم موحد بالله يذعن للشريعة وأحكامها، فهذا أبو الحسن الشاذلي يقول: "من دعا إلى الله تعالي بغير ما دعا به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فهو بدعي"، أي أن الصوفية تتوافق مع الخطاب السلفي في أمر البدعة والبدعية التي طالما أكد هذا الخطاب عليها.
والمشكلة هي أن المواطن الذي لم يعد بسيطاً أو عادياً بعد انتصاره الحقيقي في إسقاط نظام مبارك، لا يكلف نفسه عناء البحث وطلب المعرفة في أمور تختص بعبادته وعقيدته، بل ووكل أمر هذا إلى شيخ أو داعية، كواسطة بينه وبين المعرفة والعلم.
لذلك فالشيخ سهل التستري يعبر عن حقيقة التزام الصوفي بأحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها بقوله: "أصول طريقنا سبعة: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة نبيه، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق".
وذكر الإمام الجنيد أحد أقطاب التصوف أن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفي أثر الرسول (صلي الله عليه وسلم)، واتبع سنته، ولزم طريقته. وقال في ذلك نصاً: "علمنا هذا مشيد بالقرآن وبحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم".
الاختلاف
إذن القضية لا تختلف في الأصول بين أهل التصوف وبين الخطاب الديني السلفي بقدر ما تختلف الوجهة والأهداف، فأهل التصوف وإن يزعمون التكيف والعيش في مجتمع مدني إلا أنهم لا يبغون تسيده على المشهد السياسي والاجتماعي، ولا يسعون إلى تكريس خطابهم ليكون معبراً نحو الحياة السياسية، بخلاف الخطاب السلفي الذي بدا منذ سنين لا يدعو إلا لإعلاء كلمة الحق على المستوي الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط النظام الحاكم والسياسي في مصر تبدلت الوجهة والهدف. ومن ثم كان علي هذا الخطاب أن يزيح كافة التيارات والقوي الدينية التي تنازعه الملك في السيطرة علي قلوب وعقول المواطنين.
وأصحاب الخطاب الديني يرفضون ما على أهل التصوف من ذل وضعف وزهد في الحياة، ويشيعون بين مريدهم أن المتصوفة يعانون أمراض الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل، بل يذهب بعض أصحاب الخطاب السلفي بعيداً برأيهم فيقولون بأن أهل التصوف يعيشون على التسول.
ولاشك أن مثل هذه الأحاديث تجعل المستمعين لهذا الخطاب ينفرون من التصوف وأهله، بل وينظرون إلي أصحاب هذه الفرقة على أنهم أهل شعوذة وسحر وتسكع في الطرقات طلباً للحاجة.
ولو كلف هؤلاء المريدون أنفسهم هم مشقة المعرفة والبحث في عصر غابت عنه الثقافة وتفشي الجهل والعدمية المعرفية لفطنوا وعرفوا أن معظم الصوفية الأماجد ارتبطت أسماؤهم بالمهن التي اشتغلوا بها كسباً للعيش.
ومن هذه الأسماء: الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ولعل أغلب المهن التي امتهنها هؤلاء المتصوفة كانت يدوية يغلب عليها العناء والكد لأنهم كانوا يربأون بأنفسهم عن مقربة السلاطين والخلفاء ورغبتهم في العيش بحرية دون سلطان من بشر، كما أنهم يخالفون ظن الخطاب الديني السلفي بأنهم يميلون للكسل والتسول، فهم يقتنعون بأن العمل عبادة، وأن العلم عبادة أيضاً.
وفي هذا يقول إبراهيم بن أدهم أحد أقطاب الصوفية يحض مريديه علي العمل وطلبه: "عليكم بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والنفقة على العيال". والإمام عبدالوهاب الشعراني ينصح أتباعه بقوله: "الاجتهاد في العمل وإتقانه يقوم مقام النوافل والتطوع للعبادة".
إذا المشكلة لا تتعلق بمارسات غير طبيعية صادرة من أهل التصوف بقدر ما أن الخطاب الديني المعاصر لا يقبل فكرة التعددية واختلاف الأيديولوجيات، وخطاب مثل هذا لا يقوم على مرونة تقبل الآخر المختلف فكرياً في فروع ليست بالأصول الجوهرية مثل وحدة الوجود والمغالاة في فكرة الحلول والاتحاد المنسوبة لبعض أهل الصوفية المغالين في أقوالهم وآرائهم، لا يستطيع أن يقبل مشورة أو اقتراحاً لتطويره أو لاستيعاب تحديات ومستجدات تفرض سطوتها علي واقعنا المعاصر.
لذلك فنحن بحاجة حقيقية لتقريب وجهات النظر المتباينة بين الطوائف والتيارات الدينية في مصر والعالم العربي بوجه عام من أجل إيجاد خطاب ديني مستنير لا يقف موقف المعادي من تعدد تيارات مختلفة في أيديولوجياتها وطروحاتها الفكرية لا هويتها الإسلامية الرصينة، وهذا لا يحدث إلا من خلال فهم عميق ودقيق للإرث الثقافي الديني والتفرقة بينه وبين الدين، لأن الأخير باق وثابت، والأول متغير بفعل الزمن وإحداثياته التي لا تقبل الثبات .
بقلم: بليغ حمدي إسماعيل
القاهرة
التصوف حديث شيق ممتع، وجد مناخاً خصباً له في مصر تحديداً، وهو في حقيقته كما يؤكد رواده ومريدوه علم يعرف به كيفية السلوك إلي
حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرزائل، وتحليتها بأنواع الفضائل.
والتصوف أوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة. والمهمومون بقضية التصوف يقصدون به تزكية النفس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق،
والوصول به إلي مرتبة الإحسان.
ويؤكد أتباع الصوفية المعاصرين أن الصحابة والتابعين كانوا صوفيين فعلاً لا اسماً، معللين رأيهم هذا بأن المرء يعيش لربه لا لنفسه، ويتحلي
بالزهد وملازمة العبودية والإقبال علي الله بالروح والقلب معاً في جميع الأوقات.
فرض عين
بل ويذهب بعضهم بالقول بأن التصوف هو فرض عين مرتكزين في ذلك علي قول السلف، فالإمام جلال الدين السيوطي قال: "وأما علم القلب
ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوهما، فقال الغزالي: إنها فرض عين".
وحينما يهجم عليهم معتد بالقول في حقيقة التصوف باعتباره مجرد أوراد تتلي وحلقات أذكار فحسب، ينكرون عليه هذا بقولهم إن التصوف منهج
عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلي شخصية مسلمة مثالية متكاملة.
وأبو الحسن الشاذلي له رأي في ذلك بقوله: "من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
ورغم ما يتمتع به التصوف من مكانة وأهمية، إلا أن الخطاب الديني لاسيما السلفي يري غير ذلك، بل ويشهر علانيةً سيف العداء تجاهه وتجاه
أنصاره ومريديه، وبدلاً من أن يتحد هذا الخطاب السلفي والآخر الصوفي في بناء متكامل لنصرة وإعلاء الإسلام، راح يكيل له التهم ويعدد مثالب
التصوف والخطاب الصوفي بوجه عام.
وإذا كان أصحاب الخطاب السلفي يدعون أن أعداد المنتمين لهم يفوق كل التنظيمات والتكتلات فإن أعداد محبي وعشاق التصوف والمتصوفة
والعارفين بالله يفوق الحصر، ولعل هذا هو مدخل معرفة أسباب هجوم الخطاب السلفي على الصوفية، فإن فكرة الالتفاف دون أغراض سياسية
أو أجندات موجهة هو ما دفع رجال التصوف إلى إعلان أن هجوم الخطاب السلفي لهم لهو حقد دفين عند بعضهم. عليى العكس تماما من الخطاب
الديني لدي جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يقتربوا من فكرة تناول التصوف أو ملف الصوفية في مصر؛ حيث إن الإمام الشهيد حسن البنا قد
أشار في كتابه (رسالة التعاليم) إلى أن الصوفية كانت مرحلة من مراحل حياته ونشأته، كما ذكر أكثر من مرة وهو يكرس لجماعته أنه من
خصائص دعوته أنها حقيقة صوفية.
وقبل أن يتجه الخطاب الديني السلفي إلي منحاه السياسي المجتمعي كان يتشابه عظيم الشبه مع التصوف والقيم الصوفية، فكثير ما كان هذا
الخطاب يدغدغ أسماع وأفئدة المستمعين بأحاديث الرقائق عن فضائل الصبر والطاعة والإحسان للغير وشكر النعمة، وهو نفس الخطاب والطرح
الصوفي القديم والمعاصر، فالتجربة الصوفية تسهم في علاج الكثير من أمراض النفس البشرية التي عقدتها الحياة الاصطناعية وطبيعة المجتمع
المركب.
لكن الهجوم المتوقع من أنصار الخطاب الديني السلفي تجاه الصوفية كان له مبرراته التي لا نستطيع أن نفصلها عن نص الخطاب نفسه، فإذا
كان التصوف يدعو إلي قطع العبد بعلائق الدنيا، وبقطع الهمة على المال والأهل والولد، والبلد، فإن هذا يتنافى مع خطاب يشحذ همته إلى
ترسيخ وتكريس مفهوم الجهاد لدى أنصاره.
فحالة الصراع المستدامة التي يفجرها الخطاب الديني تحتاج إلى مواطن شديد الصلة بواقع مجتمعه، يفرق بين المعروف والمنكر حسبما وجهه
إلي ذلك هذا الخطاب، وغير منقطع الصلة بوطنه الذي سيحمل سلاح الجهاد فيه لمواجهة أعدائه المتربصين به دائماً، وهذا ما يؤكده الخطاب
السلفي من وجود أعداء دائمين للإسلام، وبدلاً من تقوية العقيدة لدينا راح هذا الخطاب يرفع حالة التأهب القصوي لقدوم العدو.
وحسب علمي أن الاستشراق فقط هو الذي حمل عداءً معلناً للإسلام والنيل من خصائصه ومقوماته، وحينما بزغ فجر هذا العداء لم نجد خطاباً
سلفياً واحداً يعالج قضية الاستشراق، بل وحد جهوده وجهود أنصاره في النيل من الإمام محمد عبده، والدكتور عبدالحليم محمود، والشيخ محمد
الغزالي، وبالتأكيد معاودة القنص من التنويري رفاعة الطهطاوي، وليس هناك مانع من المرور السريع على أديب مصر نجيب محفوظ ومفكرها
نصر حامد أبو زيد.
وفي زمرة الحديث عن الخطاب الديني السلفي المعاصر، لابد من التسليم بقوة أسلحته وهو ينفَّر أنصاره من الصوفية والتصوف، ولأن أنصار هذا
الخطاب ممن يحسنون الاستماع دون القراءة فإن المدخل الرئيسي لضرب مفهوم التصوف والصوفية لديهم هو الشريعة الإسلامية نفسها.
فراح هذا الخطاب سواء على المنابر أو من خلال المنشورات أو في ندوات موجهة إلى التشكيك في التزام المتصوفة بالشريعة الإسلامية
وأحكامها، بل ويغالي بعضهم بأنهم يتحللون من الشريعة كليةً، وبالطبع هم يستندون في ذلك علي بعض المنتسبين إلى الصوفية والمشهورين
بالدجل والشعوذة.
ولو كلف أحدهم مشقة البحث في هذا الحكم الصارم لوجد أن كبار المتصوفة مثلهم كمثل أي مسلم موحد بالله يذعن للشريعة وأحكامها، فهذا أبو
الحسن الشاذلي يقول: "من دعا إلى الله تعالي بغير ما دعا به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) فهو بدعي"، أي أن الصوفية تتوافق مع
الخطاب السلفي في أمر البدعة والبدعية التي طالما أكد هذا الخطاب عليها.
والمشكلة هي أن المواطن الذي لم يعد بسيطاً أو عادياً بعد انتصاره الحقيقي في إسقاط نظام مبارك، لا يكلف نفسه عناء البحث وطلب المعرفة في
أمور تختص بعبادته وعقيدته، بل ووكل أمر هذا إلى شيخ أو داعية، كواسطة بينه وبين المعرفة والعلم.
لذلك فالشيخ سهل التستري يعبر عن حقيقة التزام الصوفي بأحكام الشريعة وأوامرها ونواهيها بقوله: "أصول طريقنا سبعة: التمسك بكتاب الله،
والاقتداء بسنة نبيه، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، ولزوم التوبة، وأداء الحقوق".
وذكر الإمام الجنيد أحد أقطاب التصوف أن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفي أثر الرسول (صلي الله عليه وسلم)، واتبع سنته، ولزم
طريقته. وقال في ذلك نصاً: "علمنا هذا مشيد بالقرآن وبحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم".
الاختلاف
إذن القضية لا تختلف في الأصول بين أهل التصوف وبين الخطاب الديني السلفي بقدر ما تختلف الوجهة والأهداف، فأهل التصوف وإن يزعمون
التكيف والعيش في مجتمع مدني إلا أنهم لا يبغون تسيده على المشهد السياسي والاجتماعي، ولا يسعون إلى تكريس خطابهم ليكون معبراً نحو
الحياة السياسية، بخلاف الخطاب السلفي الذي بدا منذ سنين لا يدعو إلا لإعلاء كلمة الحق على المستوي الأيديولوجي، ولكن بعد سقوط النظام
الحاكم والسياسي في مصر تبدلت الوجهة والهدف. ومن ثم كان علي هذا الخطاب أن يزيح كافة التيارات والقوي الدينية التي تنازعه الملك في
السيطرة علي قلوب وعقول المواطنين.
وأصحاب الخطاب الديني يرفضون ما على أهل التصوف من ذل وضعف وزهد في الحياة، ويشيعون بين مريدهم أن المتصوفة يعانون أمراض
الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل، بل يذهب بعض أصحاب الخطاب السلفي بعيداً برأيهم فيقولون بأن أهل
التصوف يعيشون على التسول.
ولاشك أن مثل هذه الأحاديث تجعل المستمعين لهذا الخطاب ينفرون من التصوف وأهله، بل وينظرون إلي أصحاب هذه الفرقة على أنهم أهل
شعوذة وسحر وتسكع في الطرقات طلباً للحاجة.
ولو كلف هؤلاء المريدون أنفسهم هم مشقة المعرفة والبحث في عصر غابت عنه الثقافة وتفشي الجهل والعدمية المعرفية لفطنوا وعرفوا أن
معظم الصوفية الأماجد ارتبطت أسماؤهم بالمهن التي اشتغلوا بها كسباً للعيش.
ومن هذه الأسماء: الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ولعل أغلب المهن التي امتهنها هؤلاء
المتصوفة كانت يدوية يغلب عليها العناء والكد لأنهم كانوا يربأون بأنفسهم عن مقربة السلاطين والخلفاء ورغبتهم في العيش بحرية دون
سلطان من بشر، كما أنهم يخالفون ظن الخطاب الديني السلفي بأنهم يميلون للكسل والتسول، فهم يقتنعون بأن العمل عبادة، وأن العلم عبادة
أيضاً.
وفي هذا يقول إبراهيم بن أدهم أحد أقطاب الصوفية يحض مريديه علي العمل وطلبه: "عليكم بعمل الأبطال، الكسب من الحلال والنفقة على
العيال". والإمام عبدالوهاب الشعراني ينصح أتباعه بقوله: "الاجتهاد في العمل وإتقانه يقوم مقام النوافل والتطوع للعبادة".
إذا المشكلة لا تتعلق بمارسات غير طبيعية صادرة من أهل التصوف بقدر ما أن الخطاب الديني المعاصر لا يقبل فكرة التعددية واختلاف
الأيديولوجيات، وخطاب مثل هذا لا يقوم على مرونة تقبل الآخر المختلف فكرياً في فروع ليست بالأصول الجوهرية مثل وحدة الوجود والمغالاة
في فكرة الحلول والاتحاد المنسوبة لبعض أهل الصوفية المغالين في أقوالهم وآرائهم، لا يستطيع أن يقبل مشورة أو اقتراحاً لتطويره أو
لاستيعاب تحديات ومستجدات تفرض سطوتها علي واقعنا المعاصر.
لذلك فنحن بحاجة حقيقية لتقريب وجهات النظر المتباينة بين الطوائف والتيارات الدينية في مصر والعالم العربي بوجه عام من أجل إيجاد خطاب
ديني مستنير لا يقف موقف المعادي من تعدد تيارات مختلفة في أيديولوجياتها وطروحاتها الفكرية لا هويتها الإسلامية الرصينة، وهذا لا يحدث إلا
من خلال فهم عميق ودقيق للإرث الثقافي الديني والتفرقة بينه وبين الدين، لأن الأخير باق وثابت، والأول متغير بفعل الزمن وإحداثياته التي لا
تقبل الثبات .
بقلم: بليغ حمدي إسماعيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.