ليس من الضروري أن يكون المرء مُنظرا في الإعلام ليفهم بعد تتبُّع دقيق وحذر للصحافة الجزائرية، أنها نوعان : واحد يؤسس للمستقبل، وآخر يستهلك الحاضر. فالنوع الأول هو من الأقلام المتمردة التي لا يجيد أصحابها الملاطفة أو المديح، وقد أودعوا في السجون وصودرت جميع كتاباتهم في سياق إجهاض الحقوق والحريات من قبل الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتها حق الرأي والتعبير وحق انتقاد السلطة ورموزها. أما النوع المستهلك للحاضر، أي الجرائد المأجورة المتواطئة، فوجوده من عدمه سيان طالما أنه يكرس الخنوع والنفاق وتزييف إرادة الشعوب. فالمسألة هي مسألة صراع بين الحق الذي يمثله أحرار الجزائر وبين الباطل الذي يمثله لصوص الجهد والعرق والثروات الطبيعية للشعب الجزائري، وأيضا المتطاولون على البلد الجار المغرب بكلام دنيء يبعث على التقزز والاشمئزاز والحسرة. دعوة مني للصحافة المتواطئة إلى التروي فيما قاله رجل الدولة، عبد اللطيف الفيلالي، بعفوية يطبعها الوضوح والصدق، في مذكراته "المغرب والعالم العربي" (2008) عن دار النشر الفرنسية "سكالي":"أستحضر وأنا سفير في الجزائر سنة 1967 معاناة الجزائريين من أجل الحصول على الخبز والحليب والمواد الأساسية الأخرى. فحتى السفارات الأجنبية كانت مجبرة تحت ضغط الخصاص في الكثير من المواد الضرورية، إلى اقتناء شاحنات تمر كل أسبوع بمدينة وجدة لتأمين التموين اللازم لها". كلام السيد الفيلالي، رجل الدولة الذي تقلد على مدى خمسة عقود عدة مناصب دبلوماسية وحكومية قبل أن يعين وزيرا أول في عهد الحسن الثاني، هو تكذيب لبق لتحامل قادة الجزائر الوقح والقبيح على كل ما هو مضيء في مسيرة المغرب الذي كان في ستينات القرن الماضي يُؤمّن القوت للجاليات الأجنبية في الجزائر حينما كان قادتها آنذاك (مدنيون وعسكريون) منشغلون بإطلاق العنان لنزوتهم الحاقدة على الدولة المغربية، يعملون على صياغة وعي الجزائريين على مزاجهم، ضمن مجموعة من المبررات الحبلى بالكذب والخداع والتضليل. أن يتفوه رجل في أعلى هرم السلطة بكلام وقح من قبيل "الخزي والعار" على الخيارات السيادية لبلد جار قام بالتطبيع مع إسرائيل، فهذا تنكر يائس وبئيس لحسن الجوار وللقواسم المشتركة في اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك. وهو إلى جانب ذلك، تدخل سافر في قرارات سيادية لا تهم إلا المغرب الذي يعتبر سادس دولة عربية تقوم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان. فلماذا لم يلحق الرئيس تبون "الخزي والعار"بالدول الخمس وفي مقدمتها مصر التي تقيم علاقات متينة مع إسرائيل منذ 42 سنة (1979) والأردن منذ أزيد من ربع قرن (1994). المغرب لا يحتاج دروسا من ذوي الهلوسة الكلامية المسخرة لتنويم شعوبها. ولتتصفّح الصحافة المأجورة ومعها جنرالات الجزائر وساستها بعض أوراق التاريخ السياسي العربي الحديث، لتفهمأن وراء التطبيع مع إسرائيل عقودا من المساعي المغربية لإقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وقد عقد المغفور له الحسن الثاني، ضمن هذا المسعى، لقاءات في سرية تامة مع قادة إسرائيليين من أمثال موشي ديان، الرجل الأول الذي فتح معه الملك نافذة المفاوضات، ومن بعده شيمون بيريز وإسحاق رابين... استحسنتها العديد من الدول الغربية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أن أخبرتهم بها إسرائيل، وباركتها معظم الدول العربية بما فيها مصر والسعودية وأيضا منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة في زعيمها الراحل ياسر عرفات. ولم تبق سوى سوريا والعراق وليبيا التي أدانت المبادرة دون أن يؤثر ذلك في شيء على إصرار الحسن الثاني على مواصلة الطريق لإقناع العرب والإسرائيليين بأهمية التفاوض من أجل تسوية مشاكلهم. أما الجزائر فقد أصابتها عقدة اللسان، بل كانت طوال ثلاثة عقود في غيبوبة تامة عن المخاض السياسي العربي. ولعلم صاحب "الخزي والعار" أن الحسن الثاني حذر في أحد لقاءاته مع شيمون بيريز، إسرائيل من مغبة استخدام السلاح النووي ضد العرب لأنه، كما ورد في مذكرات الراحل عبد اللطيف الفيلالي الذي حضر اللقاء :" إذا فجرتم فنبلة ذرية في حرب جديدة محتملة ضد العرب، فإن اشعاعاتها النووية ستكون مدمرة لشعب إسرائيل. ولن يكون بمقدوركم التحكم لا في السماء ولا في الهواء، وستذهبون أنفسكم ضحية الإشعاعات الذرية". هكذا كان الحسن الثاني يفاوض من أجل نصرة القضية الفلسطينية، وبمثل هذا الحماس سعى، يا صاحب "الخزي والعار"، إلى تأسيس لجنة القدس التي تشكلت بقرار إسلامي برئاسة الملك الحسن الثاني عام 1975، ومقرها بالرباط، وأنشأ لها بقرار إسلامي أيضا وكالة بيت مال المقدس التي انطلق نشاطها رسميا سنة 1998. وأيضا بمثل هذا المسعى المخلص للقضايا العربية والإسلامية، استدعى الحسن الثاني، غداة إحراق المسجد الأقصى، قمة إسلامية عاجلة بالرباط سنة 1969، فيما اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها كممثل وحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط سنة 1974، وقبل ذلك صادق القادة العرب على أول مخطط عربي للسلام مع إسرائيل في قمة فاس عام 1982. والمغاربة الذين يفهمون جيدا معنى الجوار، ويسود بلدهم فكر التجاور والتسامح، لا يمكنهم مسؤولين أو عوام، أن يتلفظوا بكلمة "الخزي والعار" في حق شقيقتهم الجزائر التي تُصدّر الغاز لإسرائيل منذ 2014 باتفاق سري، وفق ما نقلته مجلة ميديا بارت الفرنسية الشهيرة، والتي أكدت أن الجزائر "أقدمت منذ 2014 على إبرام اتفاق تجاري مع إسرائيل بشرط أن يبقى سرا بوساطة مصرية". وبناء على البعض القليل من هذه الحقائق التاريخية، أسأل الشعب الجزائري عن سبب صداع رأس حكام الجزائر من تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، وما دخلهم في حصول المغرب على تكنولوجيا إسرائيلية في مجال الدفاع، أو في إبرامه اتفاقات في مجالات أخرى تُقرب أكثر بين البلدين، علما أن هناك أزيد من مليون مواطن إسرائيلي من أصول مغربية صرفة، لديهم تعلق استثنائي بوطنهم الأم. الجواب أجده في المظاهرات والاحتجاجات الذي يشعلها كل يوم وفي كل مدينة وبلدة جزائرية، بغاية رفع مظاهر الظلم والفساد والارتشاء المتعششة في عمق الجزائر. ومن سوء حظ الشعب الجزائري الشقيق أن ابتلي مرة أخرى بحاكم متقلب المزاج ومخادع يتجنبه المقربون بسبب تقلباته الحادة وردوده الانفعالية، أما معارضوه فيعتبرونه طاغية كثير الغرور وعديم الكفاءة. الخزي والعار له ولأطماعه الميئوسة.