اسمه هوبير فيدرين، مهنته السياسة التي انتصب فيها كواحد من أبرز الأسماء الاشتراكية الأوربية في وقتنا الراهن، وربما من الساسة القلائل الذين أسسوا منذ الثمانينات لمرجعيات سياسية جديدة تقوم على قاعدة أن الغرب يتسرع كثيرا في الاعتقاد بأنه كسب معركة التاريخ وانتصرت قيمه على الشرق مرة واحدة. فمثل هذا الاعتقاد الذي حملت لواءه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ينم في رأيه عن نظرة قاصرة لا تأخذ بالاعتبار الرهانات العالمية الجديدة والمخاضات التي تفرزها الصراعات السياسية المختلفة وأهمها الصراع في الشرق الأوسط بحمولته السياسية والدينية. درس العلوم السياسية قبل أن يتخرج سنة 1974 من المدرسة الوطنية للإدارة، ليجرفه بعد ذلك التيار الاشتراكي الذي أصبح منذ 1976، وعمره 30 سنة، سنده الفكري والعقائدي ومكّنه من نسج شبكة ضخمة من العلاقات مع شخصيات فرنسية ودولية وازنة في عالم السياسة والفكر. عُيّن سنة 1991 كاتبا عاما للإليزيه في عهد الرئيس ميتران، وهو أهم منصب في السلالم السياسية بفرنسا، قبل أن تسند له وزارة الخارجية في حكومة ليونيل جوسبان من 1997 إلى 2002. رفض عام 2007 عرض الرئيس ساركوزي بتولي نفس المنصب بقوله :" أنا اشتراكي حتى النخاع، ولا يمكن للمرء أن يكون جمعا في مفرد، وإلا تضيع القناعة السياسية والفكرية في متاهات الانتهازية. ثم إن الانتقال من اليسار إلى اليمين أو العكس، هو في رأيي ضرب من المروق السياسي الذي يتغذى في معظم الأحيان من الوصولية والانتهازية. كتب عدة مؤلفات في السياسة والأدب والتاريخ، أهمها "عوالم ميتران" و"أوراق فرنسا في زمن العولمة" وأيضا "القوة الأمريكية الخارقة". في قلب مكتبه المطل على برج إيفل، سألته مع مناولتي فنجان قهوة، عن أية علاقة تربطه بالمغرب الذي يزوره مرتين أو ثلاثة في السنة، وهل من جاذبية خاصة يمارسها عليه هذا البلد، فشرع يُعدد بتحمّس وتلقائية الرصيد الروحي والثقافي للمغرب الذي تقوّت علاقته به بفعل علاقات قوبة مع رجالات صنعوا تاريخ المغرب الحديث وضحوا بالكثير من أجل إرساء قواعد الديمقراطية ودولة المؤسسات من أمثال عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله العروي، وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم.. "عشقت في بلدكم التنوع العرقي والثقافي ر والزخم الجمالي والإنساني، النكهة، تقاليد الضيافة وأيضا رمزية الطبخ المغربيي الفريد في نكهته وفي سحر تتوابله. فكيف يُعقل أن الأسر المغربية في الحواضر كما في البوادي استطاعت في غياب الأنترنيت ووسائل الاتصال بأنواعها، أن تحقق هذا الثراء في المطبخ المغربي بأشكاله الحلوة والمالحة، وكيف استطاعت أن تبدع في ذلك الوقت مع الشح في المواد والإمكانات لتترك هذا التراث الرائع. ويستطرد فيدرين في الحكي بتلقائية صادقة عن روابطه بالمغرب. "عرفت المغرب أيضا من خلال والدي الذي كان يحظى ولا يزال بتقدير كبير من قبل الوطنيين المغاربة لدفاعه المستميت عن القضية المغربية. كل شيء بدأ في نهاية الأربعينات حينما امتلكه الإحساس بواجب النضال من أجل استقلال المغرب وإيمانه القوي بأن الحماية بالمغرب لا يجب أن تكون أكثر من مرحلة مؤقتة يتم بعدها تسليم السلطة لصاحبها الملك محمد الخامس. "إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، اهتدى والدي مع قلة من الفرنسيين إلى تكوين جبهة تعمل من أجل استقلال المغرب على غرار ما حدث في بلدان آسيوية كثيرة. وتم لهذا الغرض إحداث مجموعات صغيرة تضم نخبة من السياسيين والمثقفين من أمثال فرنسوا مورياك، وأندري جوليان، وفانسان مونتاني، ولوي ماسينيون وغيرهم.. وقد أبلغت هذه المجموعات الحكومة الفرنسية بأنها ارتكبت خطأ فظيعا بنفي الملك محمد الخامس وعليها اليوم أن تُسلّم بأنها لن تستطيع، مهما كان، تغيير مجرى التاريخ. والمجرى الحقيقي للتاريخ هو عودة محمد الخامس واستقلال المغرب..ويمكن أن أقول بكثير من الاعتزاز أن والدي كان المحرك الأساسي للقضية المغربية. وأحتفظ بشهادات الكثير من الوطنيين والساسة المغاربة، وفي مقدمتهم مبارك البكاي، أول رئيس حكومة بالمغرب بعد الاستقلال، الذي وضع المفكر فرانسوا مورياك، ووالدي، جان فيدرين، في مقدمة الشخصيات الأكثر بذلا وتضحية من أجل استقلال المغرب. وأود بالمناسبة أن أتقدم بخالص الشكر إلى الملك محمد السادس على برقية التعزية التي بعث لي بها بمناسبة وفاة والدي. والعبارات الواردة في البرقية تعكس معاني التقدير والامتنان لوالدي على الدور الذي قام به من أجل تحرير المغرب". طلبت منه أن يخوض بكل تجرد في الواقع المغربي الراهن، فكان جوابه :"أن المغرب يحكم نفسه بالطريقة التي تبدو له منسجمة مع الإمكانات ومع الموارد المتوفرة بشريا وطبيعيا. صحيح أن هناك انتقادات بشأن البعد الديمقراطي للمغرب وحقوق الإنسان وحرية الصحافة... وصحيح أن المغاربة ينتظرون اختراقات حقيقية وملموسة في هذا المجال. غير أنه وبالمقارنة مع دول مغاربية وعربية أخرى، فإن المغرب يحتل برأيي وبرأي معظم المتتبعين للشأن السياسي العربي، مكانة أفضل في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان. وهناك أمثلة كثيرة تدل على اختراقات حقيقية فيما يخص العدالة الاجتماعية وتحرير المرأة بالإضافة إلى تحديث أجهزة الدولة وتطوير الديمقراطية الاجتماعية من خلال تحسين الخدمات العامة، الإدارية والصحية وغيرها. ثم إن المغرب، يستطرد وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، "وإن حقق تقدما ملموسا في بعض القطاعات التي ذكرتها، فهو يعاني من بعض العجز في مجالات أخرى وأهمها التربية والتعليم.وبالرغم من تأخره في هذا القطاع، لم تضعه الحكومات المتتالية وفي مقدمتها حكومة عبد الإله بنكيران، ضمن أولويات انشغالاتها، ولم تتعامل مع الوضع بما يتطلبه من جدية ومسئولية. ويمكنني القول إنه كلما تقوّت شحنة التعليم والتثقيف، تراجع التطرف والتصادم، وكلما قلّت هذه الشحنة، عمّ الجهل والتخلف واليأس. ومن هنا فالتربية هي المقياس الأول والأساسي لنضج الشعوب، وهي الوحيدة القادرة على إنتاج عوامل التقدم والأمان.. ولا أقصد بالتربية أن يصبح الجميع دكاترة في القانون والفلسفة والتاريخ. بل تربية تضمن تكوينا ناجعا أيضا في الصناعة والتجارة والاقتصاد وغير ذلك من المجالات التي تفتح فرص الشغل في وجه شباب الضواحي ومدن الصفيح، وتحميهم من مآسي الانحراف والتطرف.