كنت دائما حرا يستحضر الفنان التشكيلي عبدالله الحريري في هذه المذكرات التي خص بها بيان اليوم، جوانب متعددة من مسار حياته الحافل بالأعمال الفنية والنضالية: الطفولة، حي درب السلطان، أخوه أحمد الذي يعتبره مرجعيته الأساسية، أول معرض تشكيلي أنجزه وكان ذلك في الهواء الطلق بأحد شواطئ الدارالبيضاء، سفره إلى الخارج، احتكاكه بالتجارب الجديدة، مغامراته، صداقته العميقة ببعض المبدعين والمثقفين الذين لهم بصمة خاصة في الساحة الفنية والثقافية، وماذا أيضا؟ أفراحه وأحزانه، العملية الجراحية التي خضع لها والتي لا تزال مضاعفاتها لصيقة به، وهو يعلق على هذه الواقعة بسخريته السوداء: أنا مدبوح.. الوسام الملكي الذي وشح به، تجربة تصميم أغلفة الكتب وإنجاز لوحاتها، تنظيم الملتقيات التشكيلية، إلى غير ذلك من الذكريات التي يسردها في هذه الحلقات بعفوية وتلقائية وبدموع عصية. - 4 - تجربتي الفنية عرفت محطات متعددة، المحطة الأولى، كانت بمدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء التي حصلت فيها على جوائز عديدة، ومن ضمن هذه الجوائز، كانت هناك جائزة سلمتها لي وزارة الشباب والرياضة، والتي تشتمل على رحلة إلى الديار الفرنسية، للمشاركة في مهرجان أفينيون، وعند سفرنا إلى هذه المدينة، صادفنا إضرابات، فتم نقلنا إلى مركز للتكوين بتولوز، حيث خضعت لتدريب في مجال السينغرافيا، فقمنا بتصوير ثلاثة أشرطة قصيرة، بالإضافة إلى إنجاز عرض مسرحي، وكان هذا سنة 1969. وأمضيت بعد ذلك عشرة أيام في باريس، حيث درست فن الكرافيك، فقمت بإنجاز ملصق فني، واشتغلت إلى جانب رسام كبير يدعى ماتيو، توفي قبل أيام قليلة، وهو الذي ساعدني على التمكن من الرسم، وفسر لي مفهوم الصباغة.. وأنجزت أشياء جميلة برفقته، من قبيل عرض خاص بالأطفال. وفي باريس، أنجزت داخل الورشة مجموعة من الملصقات، وعند عودتي إلى المغرب، اشتغلت مع الفنان التشكيلي محمد شبعة، في ميدان الهندسة الداخلية، والتعبير السطحي، أنجزنا عدة مشاريع كبيرة بالمغرب، وبعد ذلك، وفي غمرة الاعتقالات التي ميزت مرحلة السبعينيات، قمت بإنجاز خطوط لبعض المطابع، وأنجزت عدة لافتات، كان هناك نشاط مكثف رفقة الشباب، لم يكن تأمين العيش يشكل هما بالنسبة إلي في هذه الفترة، كنت أعيش في وسطي الأسري. كنت من بين الفاعلين في الحركة التشكيلية التي برزت في فترة السبعينيات، كان عدد قاعات الفنون التشكيلية ضئيلا جدا، فمدينة الدارالبيضاء مثلا، بالرغم من مساحتها الكبيرة، لم يكن بها سوى قاعتين، وهما خاصتان فقط بالأجانب، بعد ذلك افتتح مقهى المسرح، ثم توالى تدشين المعهد الأمريكي ومعهد غوته الألماني، وكان لذلك إسهام في بروز مجموعة من الطاقات والحركات الثقافية. رغم كل التجارب التي مررت بها في مساري الفني، فأنا لم أحصل قط على أي دبلوم أو ما شابه ذلك،لأنني متشبع منذ الصغر، بأن الفن لا شهادات له، فمن وهبه الله شيئا فهو موهوب، ومن لم يهبه فلا موهبة له. تبقى المدرسة فضاء يوفر مجموعة من الآليات والإمكانات لصقل الموهبة، ماذا تفيد الشهادات؟ أنا اشتغلت في عدة أماكن بإيطاليا، في المكتب الكبير لفن الغرافيك، كما اشتغلت مع المنظمة العالمية للتربية والزراعة، في مجموعة من المشاريع، هذه الحرفة لا تحتاج إلى دبلوم، بل الأساسي هو مدى التمكن منها أو عدمه، كما هو الحال بالنسبة لصانع أجهزة الراديو والتلفزيون، عندما يتقن عمله، فهو متمكن، وسيكون مطلوبا أكثر من طرف الزبناء، لم أكن أؤمن قط بضرورة أن أكون تابعا لأحد ما في اشتغالي على الفن، كنت دائما حرا، رغم أنني اشتغلت برفقة الفنان محمد شبعة، لكن شبعة كان أستاذي وصديقي، مثلا علاقتي بالفنان بلكاهية أو غيره لم تكن علاقة أستاذية، كنا أصدقاء وكنا نتعاون في ما بيننا. سفري إلى إيطاليا تم عن طريق المصادفة، كل ما كنت أعرفه عن إيطاليا أنها كانت ذلك البلد المتقدم على مستوى فن الديزاين، ذهبت إلى إيطاليا لأجل زيارة مجموعة من الشركات المختصة في إنتاج الملصقات والأعمال الغرافيكية، وأيضا مكاتب الدراسة التي تعنى بفن الغرافيك، الإيطاليون متفوقون جدا في ما يخص فن الديزاين، هذا ما يهمني كثيرا، لكن لم يكن هذا دافعي الرئيسي للذهاب نحو إيطاليا، كنت على العموم معجبا بهذا البلد، فهو بلد جميل جدا، خصوصا روما، أقمت في هذه المدينة، كما زرت عدة مدن مهمة..