بتعليمات ملكية.. اجتماع بالديوان الملكي بالرباط لتفعيل تعليمات الملك محمد السادس بشأن تحيين مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    الأقاليم الجنوبية تحقق إقلاعا اقتصاديا بفضل مشاريع كبرى (رئيس الحكومة)    أخنوش: "بفضل جلالة الملك قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية التدبير"    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    مونديال الناشئين.. المنتخب المغربي يضمن رسميا تأهله إلى دور 32 بعد هزيمة المكسيك وكوت ديفوار    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    تعديلاتٌ للأغلبية تستهدف رفع رسوم استيراد غسّالات الملابس وزجاج السيارات    قضاء فرنسا يأمر بالإفراج عن ساركوزي    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    متجر "شي إن" بباريس يستقبل عددا قياسيا من الزبائن رغم فضيحة الدمى الجنسية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضحك باعتباره مكونا ثقافيا
نشر في بيان اليوم يوم 26 - 04 - 2010

الضحك بلاغة راقية وهو الوسيلة الأقل حِدّة للتعبير عن موقف من الحياة، فهو "اللحن الأكثر تحضرا في العالم" بتعبير بيتر يوستينوف. إنه ظاهرة تُلازم الإنسان وتُعبر عن انتمائه إلى الجنس البشري وإصراره على التعبير بنفسه عن تفاعله مع محيطه. فإذا كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون قد أجاد في التعبير عن الطابع البَشَري للضحك حَيْث أكد على أنه لا وجود لشيء هزلي في غياب الإنسان، فإن شارل بودلير قد لخَّص جانبا عميقا من فلسفة الضحك في قولته المعروفة: "الضحك شيطاني لهذا فهو شديد البشرية"·
والضحك تعبير جسدي تتلازم فيه الحركة بالإشارة بالصوت وهو وإن كان ظاهرة طبيعية (بمعنى يتعدى المعنى الفسيولوجي) من مميزات الكائن البشري، إلا أنه في نفس الوقت سلوك ثقافي، وهو ما يتجلى في الاختلاف الواضح بين الأفراد في طريقة الضحك و مثيرات الابتسام وطريقة القهقهة والأصوات الصادرة عن الحناجر ودرجة المشاركة وقوة الاندماج في فعل الضحك، وما يواكب كل ذلك من أفعال وأقوال تتباين بتباين الثقافات والجماعات الإنسانية.
التمييز بين الشق الطبيعي في سلوك الضحك والشق الثقافي مهم في نظرنا إذ أنه من العتبات الأساسية للخوض في التمييز بين أنواع من الضحك والتفريق بينها عند كل أمة وداخل كل ثقافة.
بتعبير آخر نحتاج أولا إلى التمييز بين ما هو طبيعي وثقافي في سلوك الضحك قبل الخوض في الفروق الممكنة داخل ما هو ثقافي في هذا السلوك، ومن ثمة الوصول إلى طرح السؤال الأساسي والذي نعتقد أنه يعنينا من الناحيتين المعرفية والفعلية: ما هي خصوصية ثقافة الضحك عند المغربي؟
إن غاية هذا السؤال الأخير هو الذهاب تدريجيا إلى عمق الثقافة المغربية باعتبارها نموذجا أو عينة حضارية منسجمة متفاعلة وفاعلة، وأن المُشْتَرك المغربي له تجلياته الجادة، بعضها ظاهر وبعضها الآخر مُستتر في عمق الهزل.
الضحك المغربي:
ُيعتبر السعي إلى فهم السياق الثقافي المغربي ببعديه التراثي المتوارث والحديث المتجدد المدخل الضروري الذي قلما وقع الالتفات إليه أو استحضاره استحضارا معرفيا جادا أثناء طرح أسئلة تتمحور حول أزمة الكتابة الإبداعية سواء للمسرح أو السينما أو التلفزيون. خصوصا المعالجة الدرامية للمادة الفكاهية التي تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن امتلاك مقومات قادرة على جعلنا أمة تضحك وتتطلع إلى تصدير مادة فكاهية ذات أبعاد عالمية.
فمن نافلة القول التأكيد على أن المادة الإبداعية التي لا تَصْدُرُ عن وعْي بخصوصية التربة الثقافية المحلية وبمكوناتها وما تختزنه من أرصدة لغوية وجمالية، سواء أكانت المادة الإبداعية تعبيرية شفوية أو تشخيصية فعلية، هذا المنتوج الفني الذي لا يتأسس على جذور ثقافية لن يجد له متلقيا أو جمهورا قادرا على التفاعل معه تفاعلا وجدانيا. ذلك لأنه استغنى عن قيمة الانتماء التي بدونها يفقد الإبداع أحد أهم العناصر الضرورية للتأثير حتى وإن تحققت فيه كل الشروط الفنية والتقنية.
إن التعبير الذكي عن الانتماء إلى مشترك ثقافي ووطني عنصر قوة لا نكاد نجد له حضورا واعيا (معرفيا) في مجمل الإنتاجات الفنية المشتغلة على تيمة الضحك أو تلك الساعية في طلبه.
المادة الدرامية التي تريد أن تكون ضاحكة أو مضحكة يجب أن تكون حاملة لبذور الانتماء إلى محيطها الثقافي، عليها أن تحمل عناصره و"جيناته" وأن تنبع من واقع معيش مشترك وأن تعلن عن مواقفها الجمالية بأدوات فنية أصيلة وراقية.
ففي عالم تسعى فيه مختلف الثقافات إلى رسم حدود لوجودها و تعمل بإصرار على الذهاب إلى أقصى الآفاق الممكنة في استثمار نموذجها وربطه بالسياسة وبالاقتصاد (اقتصاد معرفي وغير معرفي)، وفي سياق دولي منخرط في إحماءات أولية ربما تُمَهد لصراع علني قادم قد يأخذ أشكالا هادئة أو صاخبة (قد تكون دموية أكثر)، يَبْرز التراث الثقافي كمصدر نفيس ومَعين ثري يتم الرجوع إليه في مناطق مختلفة من العالم قصد إبراز التميُّز العرقي أو الوطني بل وأيضا قصد دعم المشروع الوطني (فرنسا، الصين، تركيا...) أو القاري (أوروبا). ولحسن الحظ يتصاعد في نفس الوقت الوعي المؤسساتي الدولي بقيمة التراث الثقافي، فاليونسكو ماضية في إدراج أنواع من التراث في لائحة عالمية بهدف إشاعة فكرة أنثروبولوجية قديمة مفادها أن الثقافة ملك للإنسانية جمعاء، وأن الخصوصية الثقافية مكسب بشري عام يستحق المحافظة، ويستوجب الرعاية الدولية، وأن نفائس التراث الثقافي أهلٌ لأن يَعْتَز بها الإنسان أين ما كان.
والثقافة على كل حال وبتعبير آدم كوبر، الآن أكثر رواجا، مما كان عليه حالها في أي وقت مضى.
إن ثقافتنا الشعبية المغربية تُقَدم لنا أنواعا من التعبير الفني الهزلي بعضها قوْلى أساسه الحكي والرواية وبعضها الآخر تعبيري جسدي عماده التشخيص والفرجة وغيرها يجمع بين هذا وذاك ويمزج بين فنون متعددة في أجواء يسودها الإمتاع والعبث الضاحك. وهي في عمقها طقوس اجتماعية ومناسبات لإظهار المهارات ولتجديد أو عقد أواصر العلاقات والقرابات وآليات تقليدية لضمان توازن المجتمع وضمان استمراره عبر الاحتكام إلى منظومة التقاليد والأعراف.
في هذا الإطار نشير إلى أن العبث الضاحك في تراثنا والمساخر الجماعية والاحتفالات القائمة على التنكّر والتشخيص وتقمّص الأدوار كهَرْمة و بُو أَكَرْتيلْ... كل هذا كان يقع ويُمهَّد له بواسطة ممارسات استهلالية ذات طابع روحاني. كثيرة هي الأدعية والابتهالات التي تُستعمل كَفواتِح للقوْل أو الفعل العابث كالصّلاة على النبي واستحضار أسماء الصُلاّح والأولياء... وما ارتباط عدد من المساخر والاحتفالات الهزلية بمناسبات دينية كعيد الأضحى بالنسبة لبوإسْلاخن وعاشوراء بالنسبة لألعاب الماء والنار (زمزم، شُعَّالة...) إلا واحدة من العلامات التي تؤشر على عمق الترابط بين الظاهرة العابثة والضاحكة من جهة والعمق الديني والروحي للمجتمع من جهة أخرى، عمق ديني إسلامي و قبل إسلامي.
كثيرة هي الشعائر التي كانت تُشكل عتبات نحو الهزل والتي لا ندعو إلى تكرارها أو الالتزام بها فذلك ليس من مقاصد هذه الورقة، بل ندعو المبدعين المغاربة إلى التأمل في الجذور الاجتماعية والثقافية لممارسة الدرامية المغربية هزلية كانت أو غير هزلية.
فالبْساطْ وسلطان الطلبة وغيرها ليست مجرد أشكال ماقبل مسرحية بل هي المسرح المغربي. وذلك لأنها وثيقة الصلة بالمشترك الثقافي المغربي جغرافية وتاريخا. إنها شأن اجتماعي وثقافي بالغ الأهمية لارتباطها بأنماط العيش وبالتمثلات الثقافية
والاجتماعية وبصورة المجتمع وأحكامه وقِيَمِه. والضحك الذي مارسه المغاربة في هذه الأشكال المسرحية ضحك مغربي، إنه اختراع محلي للضحك حسب تعبير نستلهمه من قولة شهيرة لنيتشه.
الحلقة والبْساط وبوجلود... أوجه أخرى من أوجه تاريخ المجتمع وثقافته. إنها أصيلة لأنها تتوفر في تركيبتها على كل مقومات العادة (ج. عادات). وهي أيضا مضبوطة بلائحة من الرموز (كودي)، تُراعى فيها القيم المجتمعية وتُحفظ أثناءها -بدرجة ما- المقامات ولا تُخَلخل الثوابت الاجتماعية إلا في حدود ما يسمح به العُرف ومن ثمة قربها من اللعب واختلاطها به واستفادتها من مساحة واسعة من السماحة والأريحية التي طالما قوبلت بهما الإيحاءات الجنسية أو الوثنية التي تكتنفها. ومازال المغاربة إلى اليوم يقرنون بين الضحك واللعب في أكثر من قول: بتْنا كنْضحكو ونْلَعْبو.
والضحك عند المغاربة محفوف بالمخاطر ولعل القوْلة التي ما زالت كثيرة التداول: "الله يخرَّج هاد الضحك على خير" ليست سوى بقية باقية من سلوك يتبرأ به الضاحك من ضحكه أو على الأقل يطلب لنفسه ومن معه السلامة من تبعاته.
يبدو مسرح الحْلايْقية (أو المْحارْفية بِلُغة بعض أهل هذا الفن) خصوصا العروض الهزلية التي تكون على شاكلة عروض لمْسَيَّحْ خير مثال على ثراء معجم اللغة والإيحاءات الجسدية وتقلبات الشخصية وتوالي الأوضاع والجرأة في الذهاب إلى حدود البذاءة ثم الرجوع إلى درجة الاستغفار. غير أن هذا الثراء الذي نشهده في حلقة لمْسيح ليس كل العرض التقليدي في صورته الكاملة. بتعبير آخر إن قسما كبيرا من الهزل الذي محوره الفرد ووسيلته الفرد/الممثل (الحلايقي) ليس إلا عرضا جزئيا موضوعه شخصية واحدة مأخوذة أو مجتزأة من عروض تقليدية جماعية تفككت أو "تكسرت"·
العروض الجماعية والاحتفالات التقليدية "المتكسرة" تعيش على هيئة مبتورة هنالك في الدشور والبوادي والأرياف، أما ما نتداوله نحن هنا في الحواضر في مناسباتنا داخل ساحاتنا وعلى تلفزيوننا... وفي الإنتاج الفني الكوميدي في أعمه وأغلبه فهو ضحك لا يُشبهُنا.
لقد حان الوقت كي نمتلك إبداعا هزليا ضاحكا ومُضحكا يَفْهمُ روح الاحتفالات الهزلية التقليدية، إبداع يليق بمغرب اليوم وفي نفس الوقت يستلهم بوَعْي عناصر فنون التعبير التقليدية عندنا.
إبداع ضاحك يجيد اقتناص لحظات كوميديا الفِعل ويتفنن في تشخيص وتصوير كوميديا الحالة. ففي هذا المجال بالذات يصبح الاستماع إلى نبض الشارع ولسانه وهمسه مراجع حقيقية.
خلال بحث ميداني حول ظاهرة ثقافية بمدينة مراكش دارَ أمامي الحوار التالي:
- شوفْ عليَ هادْ خونا فالله
- خليه راهْ لقاك غابة وسْرح فيكْ.
في ميدان الضحك يبقى المجتمع المبدع الأول...فالنكتة باعتبارها التعبير الأكثر بلاغة، إبداع مجهول المؤلف. إنها تأتي على اللسان العام، تنبع من عمقه الشعبي وتُعَبِّر عن سيكولوجيا المجتمع، لهذا فهي صعبة الترجمة عندما تكون عميقة في رموزها وراقية في انتمائها إلى الأصل.
المبدعون الشعبيون والمضحكون بالفطرة يعيشون بيننا، لعلنا نحتاج إلى تطوير الكفاءة المهنية والتقنية وامتلاك الوسائل الضرورية لإنتاج أعمال فنية مسرحية وسينمائية وتلفزيونية من المستوى العالمي، ساعتها سنكون قادرين على إبراز الشخصية المغربية.
إنها مجرد دعوة إلى الانتباه إلى أن رأس مالنا الثقافي (بتعبير بيير بورديو) غني بضحكه أيضا.
Normal 0 21 false false false MicrosoftInternetExplorer4 الضحك بلاغة راقية وهو الوسيلة الأقل حِدّة للتعبير عن موقف من الحياة، فهو "اللحن الأكثر تحضرا في العالم" بتعبير بيتر يوستينوف. إنه ظاهرة تُلازم الإنسان وتُعبر عن انتمائه إلى الجنس البشري وإصراره على التعبير بنفسه عن تفاعله مع محيطه. فإذا كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون قد أجاد في التعبير عن الطابع البَشَري للضحك حَيْث أكد على أنه لا وجود لشيء هزلي في غياب الإنسان، فإن شارل بودلير قد لخَّص جانبا عميقا من فلسفة الضحك في قولته المعروفة: "الضحك شيطاني لهذا فهو شديد البشرية"·
والضحك تعبير جسدي تتلازم فيه الحركة بالإشارة بالصوت وهو وإن كان ظاهرة طبيعية (بمعنى يتعدى المعنى الفسيولوجي) من مميزات الكائن البشري، إلا أنه في نفس الوقت سلوك ثقافي، وهو ما يتجلى في الاختلاف الواضح بين الأفراد في طريقة الضحك و مثيرات الابتسام وطريقة القهقهة والأصوات الصادرة عن الحناجر ودرجة المشاركة وقوة الاندماج في فعل الضحك، وما يواكب كل ذلك من أفعال وأقوال تتباين بتباين الثقافات والجماعات الإنسانية.
التمييز بين الشق الطبيعي في سلوك الضحك والشق الثقافي مهم في نظرنا إذ أنه من العتبات الأساسية للخوض في التمييز بين أنواع من الضحك والتفريق بينها عند كل أمة وداخل كل ثقافة.
بتعبير آخر نحتاج أولا إلى التمييز بين ما هو طبيعي وثقافي في سلوك الضحك قبل الخوض في الفروق الممكنة داخل ما هو ثقافي في هذا السلوك، ومن ثمة الوصول إلى طرح السؤال الأساسي والذي نعتقد أنه يعنينا من الناحيتين المعرفية والفعلية: ما هي خصوصية ثقافة الضحك عند المغربي؟
إن غاية هذا السؤال الأخير هو الذهاب تدريجيا إلى عمق الثقافة المغربية باعتبارها نموذجا أو عينة حضارية منسجمة متفاعلة وفاعلة، وأن المُشْتَرك المغربي له تجلياته الجادة، بعضها ظاهر وبعضها الآخر مُستتر في عمق الهزل.
الضحك المغربي:
ُيعتبر السعي إلى فهم السياق الثقافي المغربي ببعديه التراثي المتوارث والحديث المتجدد المدخل الضروري الذي قلما وقع الالتفات إليه أو استحضاره استحضارا معرفيا جادا أثناء طرح أسئلة تتمحور حول أزمة الكتابة الإبداعية سواء للمسرح أو السينما أو التلفزيون. خصوصا المعالجة الدرامية للمادة الفكاهية التي تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن امتلاك مقومات قادرة على جعلنا أمة تضحك وتتطلع إلى تصدير مادة فكاهية ذات أبعاد عالمية.
فمن نافلة القول التأكيد على أن المادة الإبداعية التي لا تَصْدُرُ عن وعْي بخصوصية التربة الثقافية المحلية وبمكوناتها وما تختزنه من أرصدة لغوية وجمالية، سواء أكانت المادة الإبداعية تعبيرية شفوية أو تشخيصية فعلية، هذا المنتوج الفني الذي لا يتأسس على جذور ثقافية لن يجد له متلقيا أو جمهورا قادرا على التفاعل معه تفاعلا وجدانيا. ذلك لأنه استغنى عن قيمة الانتماء التي بدونها يفقد الإبداع أحد أهم العناصر الضرورية للتأثير حتى وإن تحققت فيه كل الشروط الفنية والتقنية.
إن التعبير الذكي عن الانتماء إلى مشترك ثقافي ووطني عنصر قوة لا نكاد نجد له حضورا واعيا (معرفيا) في مجمل الإنتاجات الفنية المشتغلة على تيمة الضحك أو تلك الساعية في طلبه.
المادة الدرامية التي تريد أن تكون ضاحكة أو مضحكة يجب أن تكون حاملة لبذور الانتماء إلى محيطها الثقافي، عليها أن تحمل عناصره و"جيناته" وأن تنبع من واقع معيش مشترك وأن تعلن عن مواقفها الجمالية بأدوات فنية أصيلة وراقية.
ففي عالم تسعى فيه مختلف الثقافات إلى رسم حدود لوجودها و تعمل بإصرار على الذهاب إلى أقصى الآفاق الممكنة في استثمار نموذجها وربطه بالسياسة وبالاقتصاد (اقتصاد معرفي وغير معرفي)، وفي سياق دولي منخرط في إحماءات أولية ربما تُمَهد لصراع علني قادم قد يأخذ أشكالا هادئة أو صاخبة (قد تكون دموية أكثر)، يَبْرز التراث الثقافي كمصدر نفيس ومَعين ثري يتم الرجوع إليه في مناطق مختلفة من العالم قصد إبراز التميُّز العرقي أو الوطني بل وأيضا قصد دعم المشروع الوطني (فرنسا، الصين، تركيا...) أو القاري (أوروبا). ولحسن الحظ يتصاعد في نفس الوقت الوعي المؤسساتي الدولي بقيمة التراث الثقافي، فاليونسكو ماضية في إدراج أنواع من التراث في لائحة عالمية بهدف إشاعة فكرة أنثروبولوجية قديمة مفادها أن الثقافة ملك للإنسانية جمعاء، وأن الخصوصية الثقافية مكسب بشري عام يستحق المحافظة، ويستوجب الرعاية الدولية، وأن نفائس التراث الثقافي أهلٌ لأن يَعْتَز بها الإنسان أين ما كان.
والثقافة على كل حال وبتعبير آدم كوبر، الآن أكثر رواجا، مما كان عليه حالها في أي وقت مضى.
إن ثقافتنا الشعبية المغربية تُقَدم لنا أنواعا من التعبير الفني الهزلي بعضها قوْلى أساسه الحكي والرواية وبعضها الآخر تعبيري جسدي عماده التشخيص والفرجة وغيرها يجمع بين هذا وذاك ويمزج بين فنون متعددة في أجواء يسودها الإمتاع والعبث الضاحك. وهي في عمقها طقوس اجتماعية ومناسبات لإظهار المهارات ولتجديد أو عقد أواصر العلاقات والقرابات وآليات تقليدية لضمان توازن المجتمع وضمان استمراره عبر الاحتكام إلى منظومة التقاليد والأعراف.
في هذا الإطار نشير إلى أن العبث الضاحك في تراثنا والمساخر الجماعية والاحتفالات القائمة على التنكّر والتشخيص وتقمّص الأدوار كهَرْمة و بُو أَكَرْتيلْ... كل هذا كان يقع ويُمهَّد له بواسطة ممارسات استهلالية ذات طابع روحاني. كثيرة هي الأدعية والابتهالات التي تُستعمل كَفواتِح للقوْل أو الفعل العابث كالصّلاة على النبي واستحضار أسماء الصُلاّح والأولياء... وما ارتباط عدد من المساخر والاحتفالات الهزلية بمناسبات دينية كعيد الأضحى بالنسبة لبوإسْلاخن وعاشوراء بالنسبة لألعاب الماء والنار (زمزم، شُعَّالة...) إلا واحدة من العلامات التي تؤشر على عمق الترابط بين الظاهرة العابثة والضاحكة من جهة والعمق الديني والروحي للمجتمع من جهة أخرى، عمق ديني إسلامي و قبل إسلامي.
كثيرة هي الشعائر التي كانت تُشكل عتبات نحو الهزل والتي لا ندعو إلى تكرارها أو الالتزام بها فذلك ليس من مقاصد هذه الورقة، بل ندعو المبدعين المغاربة إلى التأمل في الجذور الاجتماعية والثقافية لممارسة الدرامية المغربية هزلية كانت أو غير هزلية.
فالبْساطْ وسلطان الطلبة وغيرها ليست مجرد أشكال ماقبل مسرحية بل هي المسرح المغربي. وذلك لأنها وثيقة الصلة بالمشترك الثقافي المغربي جغرافية وتاريخا. إنها شأن اجتماعي وثقافي بالغ الأهمية لارتباطها بأنماط العيش وبالتمثلات الثقافية
والاجتماعية وبصورة المجتمع وأحكامه وقِيَمِه. والضحك الذي مارسه المغاربة في هذه الأشكال المسرحية ضحك مغربي، إنه اختراع محلي للضحك حسب تعبير نستلهمه من قولة شهيرة لنيتشه.
الحلقة والبْساط وبوجلود... أوجه أخرى من أوجه تاريخ المجتمع وثقافته. إنها أصيلة لأنها تتوفر في تركيبتها على كل مقومات العادة (ج. عادات). وهي أيضا مضبوطة بلائحة من الرموز (كودي)، تُراعى فيها القيم المجتمعية وتُحفظ أثناءها -بدرجة ما- المقامات ولا تُخَلخل الثوابت الاجتماعية إلا في حدود ما يسمح به العُرف ومن ثمة قربها من اللعب واختلاطها به واستفادتها من مساحة واسعة من السماحة والأريحية التي طالما قوبلت بهما الإيحاءات الجنسية أو الوثنية التي تكتنفها. ومازال المغاربة إلى اليوم يقرنون بين الضحك واللعب في أكثر من قول: بتْنا كنْضحكو ونْلَعْبو.
والضحك عند المغاربة محفوف بالمخاطر ولعل القوْلة التي ما زالت كثيرة التداول: "الله يخرَّج هاد الضحك على خير" ليست سوى بقية باقية من سلوك يتبرأ به الضاحك من ضحكه أو على الأقل يطلب لنفسه ومن معه السلامة من تبعاته.
يبدو مسرح الحْلايْقية (أو المْحارْفية بِلُغة بعض أهل هذا الفن) خصوصا العروض الهزلية التي تكون على شاكلة عروض لمْسَيَّحْ خير مثال على ثراء معجم اللغة والإيحاءات الجسدية وتقلبات الشخصية وتوالي الأوضاع والجرأة في الذهاب إلى حدود البذاءة ثم الرجوع إلى درجة الاستغفار. غير أن هذا الثراء الذي نشهده في حلقة لمْسيح ليس كل العرض التقليدي في صورته الكاملة. بتعبير آخر إن قسما كبيرا من الهزل الذي محوره الفرد ووسيلته الفرد/الممثل (الحلايقي) ليس إلا عرضا جزئيا موضوعه شخصية واحدة مأخوذة أو مجتزأة من عروض تقليدية جماعية تفككت أو "تكسرت"·
العروض الجماعية والاحتفالات التقليدية "المتكسرة" تعيش على هيئة مبتورة هنالك في الدشور والبوادي والأرياف، أما ما نتداوله نحن هنا في الحواضر في مناسباتنا داخل ساحاتنا وعلى تلفزيوننا... وفي الإنتاج الفني الكوميدي في أعمه وأغلبه فهو ضحك لا يُشبهُنا.
لقد حان الوقت كي نمتلك إبداعا هزليا ضاحكا ومُضحكا يَفْهمُ روح الاحتفالات الهزلية التقليدية، إبداع يليق بمغرب اليوم وفي نفس الوقت يستلهم بوَعْي عناصر فنون التعبير التقليدية عندنا.
إبداع ضاحك يجيد اقتناص لحظات كوميديا الفِعل ويتفنن في تشخيص وتصوير كوميديا الحالة. ففي هذا المجال بالذات يصبح الاستماع إلى نبض الشارع ولسانه وهمسه مراجع حقيقية.
خلال بحث ميداني حول ظاهرة ثقافية بمدينة مراكش دارَ أمامي الحوار التالي:
- شوفْ عليَ هادْ خونا فالله
- خليه راهْ لقاك غابة وسْرح فيكْ.
في ميدان الضحك يبقى المجتمع المبدع الأول...فالنكتة باعتبارها التعبير الأكثر بلاغة، إبداع مجهول المؤلف. إنها تأتي على اللسان العام، تنبع من عمقه الشعبي وتُعَبِّر عن سيكولوجيا المجتمع، لهذا فهي صعبة الترجمة عندما تكون عميقة في رموزها وراقية في انتمائها إلى الأصل.
المبدعون الشعبيون والمضحكون بالفطرة يعيشون بيننا، لعلنا نحتاج إلى تطوير الكفاءة المهنية والتقنية وامتلاك الوسائل الضرورية لإنتاج أعمال فنية مسرحية وسينمائية وتلفزيونية من المستوى العالمي، ساعتها سنكون قادرين على إبراز الشخصية المغربية.
إنها مجرد دعوة إلى الانتباه إلى أن رأس مالنا الثقافي (بتعبير بيير بورديو) غني بضحكه أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.