فرق كبيرة تطارد نجم المنتخب المغربي    ملتقى الأعمال للهيئة المغربية للمقاولات يبرز فرص التنمية التي يتيحها تنظيم كأس العالم 2030    افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية بإقليم العرائش    المنتخب المغربي النسوي يهزم نظيره الجزائري ويتأهل للدور الأخير من تصفيات كأس العالم        افتتاح مهرجان ماطا الذي يحتفي بالفروسية الشعبية على أرض التسامح والانفتاح    لاعبات وطاقم المنتخب النسوي لأقل من 17 سنة يعبرون عن سعداتهم بالتأهل على حساب الجزائر (فيديو)    طقس السبت..جو حار وأمطار بهذه المناطق!    الوزيرة حيار في عين العاصفة بسبب دعم تدريس الأطفال في وضعية إعاقة    المديرية العامة للأمن الوطني تحدث المنصة الرقمية الجديدة "إبلاغ" لمحاربة الجرائم الرقمية    باحثون شباب يستعدون لتطوير مشغل ذكاء اصطناعي باللهجة الدارجة المغربية    المديرية العامة للأمن الوطني تحدث منصة لمحاربة الجرائم الرقمية        الفيفا تقر تعديلا يمنع انتقال أي لاعب من أي بلد ليس عضوا في الأمم المتحدة    مقاولات جهة طنجة-تطوان-الحسيمة توفر أكثر من 450 ألف منصب شغل سنة 2022    المغرب يفرض رسوم مكافحة إغراق السوق على سلعة تركية    افتتاح بيت الحمية المتوسطية بشفشاون..تكريم ثقافة عريقة وتعزيز التنمية المستدامة    هدى صدقي تكشف عن جديد حالتها الصحية    "البيجيدي" يطالب بالتحقيق في تسويق منتجات غذائية مصنوعة من المخدرات    السجن مدى الحياة لمغربي لإدانته بقتل بريطاني "ثأرا" لأطفال غزة    توقيع اتفاقية إطار بين الأمن ومجموعة العمران وولاية جهة سوس ماسة    لأول مرة .. المغاربة أكثر العمال الأجانب مساهمة في نظام الضمان الاجتماعي بإسبانيا    المنتخب الوطني يدك شباك نظيره الجزائري في عقر داره    جامعة محمد الخامس "الأفضل في المغرب"    المغرب يسجل 35 إصابة جديدة ب"كوفيد"    ملف إسكوبار الصحراء.. محاكمة بعيوي تبدأ في هذا التاريخ    كيف يتم تحميص القهوة؟    إسرائيل: حرب غزة "ليست إبادة جماعية"    الخزينة تكتتب ما يعادل 3,4 مليار درهم في سوق السندات ما بين 8 و 15 ماي    مباحثات تجمع أخرباش بوفد من أذربيجان    الطالبي العلمي يجري مباحثات برلمانية بالصين    سانشيز يعلن الأربعاء موعد الاعتراف بفلسطين    منظمات الإغاثة تحذر من تحديات متزايدة في عملياتها في قطاع غزة    القمة العربية في مواجهة التحديات    القائد محمد الحيحي كما عرفته    العصبة الاحترافية تحدد تاريخ إجراء مواجهة "الديربي البيضاوي"    السيد العمراني يلتقي أجاي بانغا.. إرادة قوية لتعزيز التعاون بين البنك الدولي والمغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    انخفاض ملموس في المساحات الغابوية المتضررة من الحرائق سنة 2023    دول غربية تحث إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي في غزة    الجزائر.. نظام العسكر يلجأ لتوظيف مؤسساتها التعليمية لتحريض الأجيال الصاعدة ضد المغرب    تراجع جديد يخفض أسعار بيع "الغازوال" والبنزين بمحطات الوقود بالمغرب    البرازيل تستضيف كأس العالم للسيدات 2027    شراكة تثمّن الإمكانات الغنية للسياحة القروية    المحكمة الدستورية تقبل استقالة مبديع وتدعو وصيفه لشغل مقعده بمجلس النواب    دراسة: توقعات بزيادة متوسط الأعمار بنحو خمس سنوات بحلول 2050    رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً في إطار تحدٍّ مثير للجدل    هل يقبل المغرب دعوة أمريكا للمشاركة في قوات حفظ سلام بغزة؟    بسبب محمد رمضان وسعد لمجرد.. بطمة تعرب عن غضبها    "ولد الشينوية" أمام القضاء من جديد    احتفاء بسعيد يقطين .. "عراب البنيوية" ينال العناية في المعرض للدولي للكتاب    "ألوان القدس" تشع في معرض الكتاب    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (12)    الأمثال العامية بتطوان... (600)    ما دخل الأزهر في نقاشات المثقفين؟    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضحك باعتباره مكونا ثقافيا
نشر في بيان اليوم يوم 26 - 04 - 2010

الضحك بلاغة راقية وهو الوسيلة الأقل حِدّة للتعبير عن موقف من الحياة، فهو "اللحن الأكثر تحضرا في العالم" بتعبير بيتر يوستينوف. إنه ظاهرة تُلازم الإنسان وتُعبر عن انتمائه إلى الجنس البشري وإصراره على التعبير بنفسه عن تفاعله مع محيطه. فإذا كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون قد أجاد في التعبير عن الطابع البَشَري للضحك حَيْث أكد على أنه لا وجود لشيء هزلي في غياب الإنسان، فإن شارل بودلير قد لخَّص جانبا عميقا من فلسفة الضحك في قولته المعروفة: "الضحك شيطاني لهذا فهو شديد البشرية"·
والضحك تعبير جسدي تتلازم فيه الحركة بالإشارة بالصوت وهو وإن كان ظاهرة طبيعية (بمعنى يتعدى المعنى الفسيولوجي) من مميزات الكائن البشري، إلا أنه في نفس الوقت سلوك ثقافي، وهو ما يتجلى في الاختلاف الواضح بين الأفراد في طريقة الضحك و مثيرات الابتسام وطريقة القهقهة والأصوات الصادرة عن الحناجر ودرجة المشاركة وقوة الاندماج في فعل الضحك، وما يواكب كل ذلك من أفعال وأقوال تتباين بتباين الثقافات والجماعات الإنسانية.
التمييز بين الشق الطبيعي في سلوك الضحك والشق الثقافي مهم في نظرنا إذ أنه من العتبات الأساسية للخوض في التمييز بين أنواع من الضحك والتفريق بينها عند كل أمة وداخل كل ثقافة.
بتعبير آخر نحتاج أولا إلى التمييز بين ما هو طبيعي وثقافي في سلوك الضحك قبل الخوض في الفروق الممكنة داخل ما هو ثقافي في هذا السلوك، ومن ثمة الوصول إلى طرح السؤال الأساسي والذي نعتقد أنه يعنينا من الناحيتين المعرفية والفعلية: ما هي خصوصية ثقافة الضحك عند المغربي؟
إن غاية هذا السؤال الأخير هو الذهاب تدريجيا إلى عمق الثقافة المغربية باعتبارها نموذجا أو عينة حضارية منسجمة متفاعلة وفاعلة، وأن المُشْتَرك المغربي له تجلياته الجادة، بعضها ظاهر وبعضها الآخر مُستتر في عمق الهزل.
الضحك المغربي:
ُيعتبر السعي إلى فهم السياق الثقافي المغربي ببعديه التراثي المتوارث والحديث المتجدد المدخل الضروري الذي قلما وقع الالتفات إليه أو استحضاره استحضارا معرفيا جادا أثناء طرح أسئلة تتمحور حول أزمة الكتابة الإبداعية سواء للمسرح أو السينما أو التلفزيون. خصوصا المعالجة الدرامية للمادة الفكاهية التي تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن امتلاك مقومات قادرة على جعلنا أمة تضحك وتتطلع إلى تصدير مادة فكاهية ذات أبعاد عالمية.
فمن نافلة القول التأكيد على أن المادة الإبداعية التي لا تَصْدُرُ عن وعْي بخصوصية التربة الثقافية المحلية وبمكوناتها وما تختزنه من أرصدة لغوية وجمالية، سواء أكانت المادة الإبداعية تعبيرية شفوية أو تشخيصية فعلية، هذا المنتوج الفني الذي لا يتأسس على جذور ثقافية لن يجد له متلقيا أو جمهورا قادرا على التفاعل معه تفاعلا وجدانيا. ذلك لأنه استغنى عن قيمة الانتماء التي بدونها يفقد الإبداع أحد أهم العناصر الضرورية للتأثير حتى وإن تحققت فيه كل الشروط الفنية والتقنية.
إن التعبير الذكي عن الانتماء إلى مشترك ثقافي ووطني عنصر قوة لا نكاد نجد له حضورا واعيا (معرفيا) في مجمل الإنتاجات الفنية المشتغلة على تيمة الضحك أو تلك الساعية في طلبه.
المادة الدرامية التي تريد أن تكون ضاحكة أو مضحكة يجب أن تكون حاملة لبذور الانتماء إلى محيطها الثقافي، عليها أن تحمل عناصره و"جيناته" وأن تنبع من واقع معيش مشترك وأن تعلن عن مواقفها الجمالية بأدوات فنية أصيلة وراقية.
ففي عالم تسعى فيه مختلف الثقافات إلى رسم حدود لوجودها و تعمل بإصرار على الذهاب إلى أقصى الآفاق الممكنة في استثمار نموذجها وربطه بالسياسة وبالاقتصاد (اقتصاد معرفي وغير معرفي)، وفي سياق دولي منخرط في إحماءات أولية ربما تُمَهد لصراع علني قادم قد يأخذ أشكالا هادئة أو صاخبة (قد تكون دموية أكثر)، يَبْرز التراث الثقافي كمصدر نفيس ومَعين ثري يتم الرجوع إليه في مناطق مختلفة من العالم قصد إبراز التميُّز العرقي أو الوطني بل وأيضا قصد دعم المشروع الوطني (فرنسا، الصين، تركيا...) أو القاري (أوروبا). ولحسن الحظ يتصاعد في نفس الوقت الوعي المؤسساتي الدولي بقيمة التراث الثقافي، فاليونسكو ماضية في إدراج أنواع من التراث في لائحة عالمية بهدف إشاعة فكرة أنثروبولوجية قديمة مفادها أن الثقافة ملك للإنسانية جمعاء، وأن الخصوصية الثقافية مكسب بشري عام يستحق المحافظة، ويستوجب الرعاية الدولية، وأن نفائس التراث الثقافي أهلٌ لأن يَعْتَز بها الإنسان أين ما كان.
والثقافة على كل حال وبتعبير آدم كوبر، الآن أكثر رواجا، مما كان عليه حالها في أي وقت مضى.
إن ثقافتنا الشعبية المغربية تُقَدم لنا أنواعا من التعبير الفني الهزلي بعضها قوْلى أساسه الحكي والرواية وبعضها الآخر تعبيري جسدي عماده التشخيص والفرجة وغيرها يجمع بين هذا وذاك ويمزج بين فنون متعددة في أجواء يسودها الإمتاع والعبث الضاحك. وهي في عمقها طقوس اجتماعية ومناسبات لإظهار المهارات ولتجديد أو عقد أواصر العلاقات والقرابات وآليات تقليدية لضمان توازن المجتمع وضمان استمراره عبر الاحتكام إلى منظومة التقاليد والأعراف.
في هذا الإطار نشير إلى أن العبث الضاحك في تراثنا والمساخر الجماعية والاحتفالات القائمة على التنكّر والتشخيص وتقمّص الأدوار كهَرْمة و بُو أَكَرْتيلْ... كل هذا كان يقع ويُمهَّد له بواسطة ممارسات استهلالية ذات طابع روحاني. كثيرة هي الأدعية والابتهالات التي تُستعمل كَفواتِح للقوْل أو الفعل العابث كالصّلاة على النبي واستحضار أسماء الصُلاّح والأولياء... وما ارتباط عدد من المساخر والاحتفالات الهزلية بمناسبات دينية كعيد الأضحى بالنسبة لبوإسْلاخن وعاشوراء بالنسبة لألعاب الماء والنار (زمزم، شُعَّالة...) إلا واحدة من العلامات التي تؤشر على عمق الترابط بين الظاهرة العابثة والضاحكة من جهة والعمق الديني والروحي للمجتمع من جهة أخرى، عمق ديني إسلامي و قبل إسلامي.
كثيرة هي الشعائر التي كانت تُشكل عتبات نحو الهزل والتي لا ندعو إلى تكرارها أو الالتزام بها فذلك ليس من مقاصد هذه الورقة، بل ندعو المبدعين المغاربة إلى التأمل في الجذور الاجتماعية والثقافية لممارسة الدرامية المغربية هزلية كانت أو غير هزلية.
فالبْساطْ وسلطان الطلبة وغيرها ليست مجرد أشكال ماقبل مسرحية بل هي المسرح المغربي. وذلك لأنها وثيقة الصلة بالمشترك الثقافي المغربي جغرافية وتاريخا. إنها شأن اجتماعي وثقافي بالغ الأهمية لارتباطها بأنماط العيش وبالتمثلات الثقافية
والاجتماعية وبصورة المجتمع وأحكامه وقِيَمِه. والضحك الذي مارسه المغاربة في هذه الأشكال المسرحية ضحك مغربي، إنه اختراع محلي للضحك حسب تعبير نستلهمه من قولة شهيرة لنيتشه.
الحلقة والبْساط وبوجلود... أوجه أخرى من أوجه تاريخ المجتمع وثقافته. إنها أصيلة لأنها تتوفر في تركيبتها على كل مقومات العادة (ج. عادات). وهي أيضا مضبوطة بلائحة من الرموز (كودي)، تُراعى فيها القيم المجتمعية وتُحفظ أثناءها -بدرجة ما- المقامات ولا تُخَلخل الثوابت الاجتماعية إلا في حدود ما يسمح به العُرف ومن ثمة قربها من اللعب واختلاطها به واستفادتها من مساحة واسعة من السماحة والأريحية التي طالما قوبلت بهما الإيحاءات الجنسية أو الوثنية التي تكتنفها. ومازال المغاربة إلى اليوم يقرنون بين الضحك واللعب في أكثر من قول: بتْنا كنْضحكو ونْلَعْبو.
والضحك عند المغاربة محفوف بالمخاطر ولعل القوْلة التي ما زالت كثيرة التداول: "الله يخرَّج هاد الضحك على خير" ليست سوى بقية باقية من سلوك يتبرأ به الضاحك من ضحكه أو على الأقل يطلب لنفسه ومن معه السلامة من تبعاته.
يبدو مسرح الحْلايْقية (أو المْحارْفية بِلُغة بعض أهل هذا الفن) خصوصا العروض الهزلية التي تكون على شاكلة عروض لمْسَيَّحْ خير مثال على ثراء معجم اللغة والإيحاءات الجسدية وتقلبات الشخصية وتوالي الأوضاع والجرأة في الذهاب إلى حدود البذاءة ثم الرجوع إلى درجة الاستغفار. غير أن هذا الثراء الذي نشهده في حلقة لمْسيح ليس كل العرض التقليدي في صورته الكاملة. بتعبير آخر إن قسما كبيرا من الهزل الذي محوره الفرد ووسيلته الفرد/الممثل (الحلايقي) ليس إلا عرضا جزئيا موضوعه شخصية واحدة مأخوذة أو مجتزأة من عروض تقليدية جماعية تفككت أو "تكسرت"·
العروض الجماعية والاحتفالات التقليدية "المتكسرة" تعيش على هيئة مبتورة هنالك في الدشور والبوادي والأرياف، أما ما نتداوله نحن هنا في الحواضر في مناسباتنا داخل ساحاتنا وعلى تلفزيوننا... وفي الإنتاج الفني الكوميدي في أعمه وأغلبه فهو ضحك لا يُشبهُنا.
لقد حان الوقت كي نمتلك إبداعا هزليا ضاحكا ومُضحكا يَفْهمُ روح الاحتفالات الهزلية التقليدية، إبداع يليق بمغرب اليوم وفي نفس الوقت يستلهم بوَعْي عناصر فنون التعبير التقليدية عندنا.
إبداع ضاحك يجيد اقتناص لحظات كوميديا الفِعل ويتفنن في تشخيص وتصوير كوميديا الحالة. ففي هذا المجال بالذات يصبح الاستماع إلى نبض الشارع ولسانه وهمسه مراجع حقيقية.
خلال بحث ميداني حول ظاهرة ثقافية بمدينة مراكش دارَ أمامي الحوار التالي:
- شوفْ عليَ هادْ خونا فالله
- خليه راهْ لقاك غابة وسْرح فيكْ.
في ميدان الضحك يبقى المجتمع المبدع الأول...فالنكتة باعتبارها التعبير الأكثر بلاغة، إبداع مجهول المؤلف. إنها تأتي على اللسان العام، تنبع من عمقه الشعبي وتُعَبِّر عن سيكولوجيا المجتمع، لهذا فهي صعبة الترجمة عندما تكون عميقة في رموزها وراقية في انتمائها إلى الأصل.
المبدعون الشعبيون والمضحكون بالفطرة يعيشون بيننا، لعلنا نحتاج إلى تطوير الكفاءة المهنية والتقنية وامتلاك الوسائل الضرورية لإنتاج أعمال فنية مسرحية وسينمائية وتلفزيونية من المستوى العالمي، ساعتها سنكون قادرين على إبراز الشخصية المغربية.
إنها مجرد دعوة إلى الانتباه إلى أن رأس مالنا الثقافي (بتعبير بيير بورديو) غني بضحكه أيضا.
Normal 0 21 false false false MicrosoftInternetExplorer4 الضحك بلاغة راقية وهو الوسيلة الأقل حِدّة للتعبير عن موقف من الحياة، فهو "اللحن الأكثر تحضرا في العالم" بتعبير بيتر يوستينوف. إنه ظاهرة تُلازم الإنسان وتُعبر عن انتمائه إلى الجنس البشري وإصراره على التعبير بنفسه عن تفاعله مع محيطه. فإذا كان الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون قد أجاد في التعبير عن الطابع البَشَري للضحك حَيْث أكد على أنه لا وجود لشيء هزلي في غياب الإنسان، فإن شارل بودلير قد لخَّص جانبا عميقا من فلسفة الضحك في قولته المعروفة: "الضحك شيطاني لهذا فهو شديد البشرية"·
والضحك تعبير جسدي تتلازم فيه الحركة بالإشارة بالصوت وهو وإن كان ظاهرة طبيعية (بمعنى يتعدى المعنى الفسيولوجي) من مميزات الكائن البشري، إلا أنه في نفس الوقت سلوك ثقافي، وهو ما يتجلى في الاختلاف الواضح بين الأفراد في طريقة الضحك و مثيرات الابتسام وطريقة القهقهة والأصوات الصادرة عن الحناجر ودرجة المشاركة وقوة الاندماج في فعل الضحك، وما يواكب كل ذلك من أفعال وأقوال تتباين بتباين الثقافات والجماعات الإنسانية.
التمييز بين الشق الطبيعي في سلوك الضحك والشق الثقافي مهم في نظرنا إذ أنه من العتبات الأساسية للخوض في التمييز بين أنواع من الضحك والتفريق بينها عند كل أمة وداخل كل ثقافة.
بتعبير آخر نحتاج أولا إلى التمييز بين ما هو طبيعي وثقافي في سلوك الضحك قبل الخوض في الفروق الممكنة داخل ما هو ثقافي في هذا السلوك، ومن ثمة الوصول إلى طرح السؤال الأساسي والذي نعتقد أنه يعنينا من الناحيتين المعرفية والفعلية: ما هي خصوصية ثقافة الضحك عند المغربي؟
إن غاية هذا السؤال الأخير هو الذهاب تدريجيا إلى عمق الثقافة المغربية باعتبارها نموذجا أو عينة حضارية منسجمة متفاعلة وفاعلة، وأن المُشْتَرك المغربي له تجلياته الجادة، بعضها ظاهر وبعضها الآخر مُستتر في عمق الهزل.
الضحك المغربي:
ُيعتبر السعي إلى فهم السياق الثقافي المغربي ببعديه التراثي المتوارث والحديث المتجدد المدخل الضروري الذي قلما وقع الالتفات إليه أو استحضاره استحضارا معرفيا جادا أثناء طرح أسئلة تتمحور حول أزمة الكتابة الإبداعية سواء للمسرح أو السينما أو التلفزيون. خصوصا المعالجة الدرامية للمادة الفكاهية التي تبدو اليوم بعيدة كل البعد عن امتلاك مقومات قادرة على جعلنا أمة تضحك وتتطلع إلى تصدير مادة فكاهية ذات أبعاد عالمية.
فمن نافلة القول التأكيد على أن المادة الإبداعية التي لا تَصْدُرُ عن وعْي بخصوصية التربة الثقافية المحلية وبمكوناتها وما تختزنه من أرصدة لغوية وجمالية، سواء أكانت المادة الإبداعية تعبيرية شفوية أو تشخيصية فعلية، هذا المنتوج الفني الذي لا يتأسس على جذور ثقافية لن يجد له متلقيا أو جمهورا قادرا على التفاعل معه تفاعلا وجدانيا. ذلك لأنه استغنى عن قيمة الانتماء التي بدونها يفقد الإبداع أحد أهم العناصر الضرورية للتأثير حتى وإن تحققت فيه كل الشروط الفنية والتقنية.
إن التعبير الذكي عن الانتماء إلى مشترك ثقافي ووطني عنصر قوة لا نكاد نجد له حضورا واعيا (معرفيا) في مجمل الإنتاجات الفنية المشتغلة على تيمة الضحك أو تلك الساعية في طلبه.
المادة الدرامية التي تريد أن تكون ضاحكة أو مضحكة يجب أن تكون حاملة لبذور الانتماء إلى محيطها الثقافي، عليها أن تحمل عناصره و"جيناته" وأن تنبع من واقع معيش مشترك وأن تعلن عن مواقفها الجمالية بأدوات فنية أصيلة وراقية.
ففي عالم تسعى فيه مختلف الثقافات إلى رسم حدود لوجودها و تعمل بإصرار على الذهاب إلى أقصى الآفاق الممكنة في استثمار نموذجها وربطه بالسياسة وبالاقتصاد (اقتصاد معرفي وغير معرفي)، وفي سياق دولي منخرط في إحماءات أولية ربما تُمَهد لصراع علني قادم قد يأخذ أشكالا هادئة أو صاخبة (قد تكون دموية أكثر)، يَبْرز التراث الثقافي كمصدر نفيس ومَعين ثري يتم الرجوع إليه في مناطق مختلفة من العالم قصد إبراز التميُّز العرقي أو الوطني بل وأيضا قصد دعم المشروع الوطني (فرنسا، الصين، تركيا...) أو القاري (أوروبا). ولحسن الحظ يتصاعد في نفس الوقت الوعي المؤسساتي الدولي بقيمة التراث الثقافي، فاليونسكو ماضية في إدراج أنواع من التراث في لائحة عالمية بهدف إشاعة فكرة أنثروبولوجية قديمة مفادها أن الثقافة ملك للإنسانية جمعاء، وأن الخصوصية الثقافية مكسب بشري عام يستحق المحافظة، ويستوجب الرعاية الدولية، وأن نفائس التراث الثقافي أهلٌ لأن يَعْتَز بها الإنسان أين ما كان.
والثقافة على كل حال وبتعبير آدم كوبر، الآن أكثر رواجا، مما كان عليه حالها في أي وقت مضى.
إن ثقافتنا الشعبية المغربية تُقَدم لنا أنواعا من التعبير الفني الهزلي بعضها قوْلى أساسه الحكي والرواية وبعضها الآخر تعبيري جسدي عماده التشخيص والفرجة وغيرها يجمع بين هذا وذاك ويمزج بين فنون متعددة في أجواء يسودها الإمتاع والعبث الضاحك. وهي في عمقها طقوس اجتماعية ومناسبات لإظهار المهارات ولتجديد أو عقد أواصر العلاقات والقرابات وآليات تقليدية لضمان توازن المجتمع وضمان استمراره عبر الاحتكام إلى منظومة التقاليد والأعراف.
في هذا الإطار نشير إلى أن العبث الضاحك في تراثنا والمساخر الجماعية والاحتفالات القائمة على التنكّر والتشخيص وتقمّص الأدوار كهَرْمة و بُو أَكَرْتيلْ... كل هذا كان يقع ويُمهَّد له بواسطة ممارسات استهلالية ذات طابع روحاني. كثيرة هي الأدعية والابتهالات التي تُستعمل كَفواتِح للقوْل أو الفعل العابث كالصّلاة على النبي واستحضار أسماء الصُلاّح والأولياء... وما ارتباط عدد من المساخر والاحتفالات الهزلية بمناسبات دينية كعيد الأضحى بالنسبة لبوإسْلاخن وعاشوراء بالنسبة لألعاب الماء والنار (زمزم، شُعَّالة...) إلا واحدة من العلامات التي تؤشر على عمق الترابط بين الظاهرة العابثة والضاحكة من جهة والعمق الديني والروحي للمجتمع من جهة أخرى، عمق ديني إسلامي و قبل إسلامي.
كثيرة هي الشعائر التي كانت تُشكل عتبات نحو الهزل والتي لا ندعو إلى تكرارها أو الالتزام بها فذلك ليس من مقاصد هذه الورقة، بل ندعو المبدعين المغاربة إلى التأمل في الجذور الاجتماعية والثقافية لممارسة الدرامية المغربية هزلية كانت أو غير هزلية.
فالبْساطْ وسلطان الطلبة وغيرها ليست مجرد أشكال ماقبل مسرحية بل هي المسرح المغربي. وذلك لأنها وثيقة الصلة بالمشترك الثقافي المغربي جغرافية وتاريخا. إنها شأن اجتماعي وثقافي بالغ الأهمية لارتباطها بأنماط العيش وبالتمثلات الثقافية
والاجتماعية وبصورة المجتمع وأحكامه وقِيَمِه. والضحك الذي مارسه المغاربة في هذه الأشكال المسرحية ضحك مغربي، إنه اختراع محلي للضحك حسب تعبير نستلهمه من قولة شهيرة لنيتشه.
الحلقة والبْساط وبوجلود... أوجه أخرى من أوجه تاريخ المجتمع وثقافته. إنها أصيلة لأنها تتوفر في تركيبتها على كل مقومات العادة (ج. عادات). وهي أيضا مضبوطة بلائحة من الرموز (كودي)، تُراعى فيها القيم المجتمعية وتُحفظ أثناءها -بدرجة ما- المقامات ولا تُخَلخل الثوابت الاجتماعية إلا في حدود ما يسمح به العُرف ومن ثمة قربها من اللعب واختلاطها به واستفادتها من مساحة واسعة من السماحة والأريحية التي طالما قوبلت بهما الإيحاءات الجنسية أو الوثنية التي تكتنفها. ومازال المغاربة إلى اليوم يقرنون بين الضحك واللعب في أكثر من قول: بتْنا كنْضحكو ونْلَعْبو.
والضحك عند المغاربة محفوف بالمخاطر ولعل القوْلة التي ما زالت كثيرة التداول: "الله يخرَّج هاد الضحك على خير" ليست سوى بقية باقية من سلوك يتبرأ به الضاحك من ضحكه أو على الأقل يطلب لنفسه ومن معه السلامة من تبعاته.
يبدو مسرح الحْلايْقية (أو المْحارْفية بِلُغة بعض أهل هذا الفن) خصوصا العروض الهزلية التي تكون على شاكلة عروض لمْسَيَّحْ خير مثال على ثراء معجم اللغة والإيحاءات الجسدية وتقلبات الشخصية وتوالي الأوضاع والجرأة في الذهاب إلى حدود البذاءة ثم الرجوع إلى درجة الاستغفار. غير أن هذا الثراء الذي نشهده في حلقة لمْسيح ليس كل العرض التقليدي في صورته الكاملة. بتعبير آخر إن قسما كبيرا من الهزل الذي محوره الفرد ووسيلته الفرد/الممثل (الحلايقي) ليس إلا عرضا جزئيا موضوعه شخصية واحدة مأخوذة أو مجتزأة من عروض تقليدية جماعية تفككت أو "تكسرت"·
العروض الجماعية والاحتفالات التقليدية "المتكسرة" تعيش على هيئة مبتورة هنالك في الدشور والبوادي والأرياف، أما ما نتداوله نحن هنا في الحواضر في مناسباتنا داخل ساحاتنا وعلى تلفزيوننا... وفي الإنتاج الفني الكوميدي في أعمه وأغلبه فهو ضحك لا يُشبهُنا.
لقد حان الوقت كي نمتلك إبداعا هزليا ضاحكا ومُضحكا يَفْهمُ روح الاحتفالات الهزلية التقليدية، إبداع يليق بمغرب اليوم وفي نفس الوقت يستلهم بوَعْي عناصر فنون التعبير التقليدية عندنا.
إبداع ضاحك يجيد اقتناص لحظات كوميديا الفِعل ويتفنن في تشخيص وتصوير كوميديا الحالة. ففي هذا المجال بالذات يصبح الاستماع إلى نبض الشارع ولسانه وهمسه مراجع حقيقية.
خلال بحث ميداني حول ظاهرة ثقافية بمدينة مراكش دارَ أمامي الحوار التالي:
- شوفْ عليَ هادْ خونا فالله
- خليه راهْ لقاك غابة وسْرح فيكْ.
في ميدان الضحك يبقى المجتمع المبدع الأول...فالنكتة باعتبارها التعبير الأكثر بلاغة، إبداع مجهول المؤلف. إنها تأتي على اللسان العام، تنبع من عمقه الشعبي وتُعَبِّر عن سيكولوجيا المجتمع، لهذا فهي صعبة الترجمة عندما تكون عميقة في رموزها وراقية في انتمائها إلى الأصل.
المبدعون الشعبيون والمضحكون بالفطرة يعيشون بيننا، لعلنا نحتاج إلى تطوير الكفاءة المهنية والتقنية وامتلاك الوسائل الضرورية لإنتاج أعمال فنية مسرحية وسينمائية وتلفزيونية من المستوى العالمي، ساعتها سنكون قادرين على إبراز الشخصية المغربية.
إنها مجرد دعوة إلى الانتباه إلى أن رأس مالنا الثقافي (بتعبير بيير بورديو) غني بضحكه أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.