بايتاس: الحكومة تثمن التعاطي الإيجابي للنقابات.. والنقاش يشمل جميع الملفات    مجلس الحكومة يُقر نظام الضمان الاجتماعي    الحكومة: لا زيادة في أسعار قنينة الغاز في الوقت الراهن    وضع اتحاد كرة القدم الإسباني تحت الوصاية    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    الجماعات الترابية تحقق 7,9 مليار درهم من الضرائب    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    رسميا.. الجزائر تنسحب من منافسات بطولة اليد العربية    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    الرباط.. ندوة علمية تناقش النهوض بحقوق الأشخاص في وضعية إعاقة (صور)    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    من بينها رحلات للمغرب.. إلغاء آلاف الرحلات في فرنسا بسبب إضراب للمراقبين الجويين    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    مكناس .. تتويج 12 زيت زيتون من أربع جهات برسم النسخة 14 للمباراة الوطنية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    بحر طنجة يلفظ جثة شاب غرق خلال محاولته التسلل إلى عبارة مسافرين نحو أوروبا    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    تظاهرات تدعم غزة تغزو جامعات أمريكية    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة
نشر في بيان اليوم يوم 25 - 07 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
- 3 -
في مارس 1900 تم إرسالنا إلى مدينة الصويرة، لنزوِّد من هناك الحاميةَ الصغيرة في مدينة طرفاية والصويرة من أحدث مدن المغرب.
وقد تم تشييدها على النمط العربي بطبيعة الحال، لكن بشوارع أكثر اتساعاً بالمقارنة مع الشوارع في المدن المغربية.
وتتقاطع شوارع المدينة عند ساحات كبيرة، ولا يكاد عدد الأوروبيين الذين يعيشون في مدينة الصويرة يزيد على العشرين، قد اجتمعت فيهم جميع الجنسيات، وبينهم أربعة ألمان، وكان نائب القنصل، السيد ده مور، يخص بني جلدتنا بفائق العناية، وكنا نجد، على الدوام، ضيافة عظيمة في بيته، ذي الطراز الألماني الأًصيل، هو المشيد على الطراز المغربي، فبفضله وزوجته، الجميلة والجذابة، وجدنا مقامنا، مهما استطال، في مدينة الصويرة، دون ذلك الطول.
بعد أن نقلْنا على متن سفينتنا الحمولةَ الموجَّهة إلى كاپ جوبي، انطلقنا باتجاه مدينة أكادير، لننقل من هناك حمولة إضافية قوامها 500 كيس من الشعير، والمياه بين الصويرة وكاپ جوبي قليلة الارتياد من السفن أو معدومته، إلا من السفن التابعة إلى الحكومة المغربية، إذ لا وجود في هذه الناحية لميناء مفتوح على التجارة الخارجية، ولم يكن وجود للمبراق في المغرب، ولذلك لم يخبر أحد بوصولنا، مما حتَّم علينا أن نظل ننتظر تلك الحمولة أربعاً وعشرين ساعة.
وقد أمضينا ذلك النهار الحر في زيارة البر، والجميع يعرف أن جبال الأطلس تلتقي مع المحيط الأطلسي قرب مدينة أكادير.
فالجبال تنحدر باتجاه البحر، في انحرافات هينة، وهذه السفوح بالغة الخصوبة، وأما مدينة أكادير نفسها، فهي مدينة مهدَّمة ومهجورة، لم يعد يسكنها غير بعض الأسر الفقيرة، قد آوت إلى بعض الخرابات، ويحتمي من تقلبات الجو في ما تبقىَّ من منازل، معظمها بغير سقوف، متخذة في ذلك، الأخشاب ومختلف المواد، والمنزل الوحيد اللائق في وسط هذا الخراب، هو مسكن خليفة القايد.
وأما القايد جلُّولي نفسه، فيعيش في محلة كبيرة، فوق قمة جبل، على ارتفاع 1000 قدم فوق سطح البحر.
عندما نزلنا إلى البر حيانا الخليفة بود ودعانا إلى كأس شاي. وقدم لنا من الدواب، للذهاب إلى القصبة وزيارة القايد الغلولي، الذي علِم بوصولنا فأرسل إلينا برفقة من عدد كبير من الجنود المدججين بالسلاح، فصرنا مدة نصف ساعة نتسلق بمشقة وعناء طريقاً محجرة، صعبة المرور، إلى أن بلغنا القمة.
كانت الرؤية إلى الساحل الآبد والوعر لسوس رائعة، والسفوح والأودية مكسوة وروداً.
القايد في الخمسين من عمره، رجلٌ مهيب، أسود البشرة، قد خط لحيته شعر رمادي عند الصدغين، تلقانا بود غامر عند باب قصبته، وصار يقودنا بنفسه في الحصن الحصين إلى مسكنه، وهو بيت من طابق واحد، خال من أي زخارف خارجية.
ارتقينا سلماً مظلماً وعراً، كانت «الغرفة الاستعراضية» خالية من أي ديكور، ما عدا زربية فرشت على الأرض، لأن في المغرب يندر أن تجد على الجدران صوراً أو سواها من التزيينات.
وفي الغرفة ثلاث كراس قد أعِدََّت لأجلنا، فيما اقتعد القايد وأعوانه والبحارة الذين قدموا وإيانا الأرض متربعين، جرياً على العادة، ثم قدم لنا وجبة على الطريقة العربية الأصيلة.
فقد جاءنا العبيد بقصعة خشبية، عليها غطاء من السلال، قد وضعت فيها بتنسيق صحون بالزبدة، والعسل، والزيت والخبز. ثم جيء لنا بطابق هائل من فضة في نحو متر، به لوز، وجوز وتمر، ووضعت كل تلك الملاذ أمامنا، نحن الأوروبيين، على الأرض، ودعينا لتناولها على الطريقة العربية.
وقال لنا القايد، بلسان الترجمان، إن العسل الأبيض، الذي قدم لنا هو طعام لا يقدم، في العادة، لغير الأصدقاء الأعزاء.
ولقد كان بالفعل لذيذاً! ثم جيء إلينا بطبق كبير بلحم الخروف والكرنب، وكجري العادة، لم يكن ثمة سكاكين، ولا شوكات، ولا ملاعق، فكنا نأكل باستعمال أصابعنا، على الطريقة العربية، ثم أدير علينا الشاي والفواكه، وفي ختام تلك الوجبة، رش علينا من ماء الزهر والعنبر.
ربما كان الأكل بالأصابع أمراً قليل الشهوة للأوروبيين، وأما العربي المميز فإنه يغسل أطراف أصابعه قبل الأكل وبعده، ولا يكتفي بذلك، وإنما هو يغسلها بين الطبق والآخر بماء يصب عليه من إبريق فوق طست.
كنا نجلس في تلك الغرفة الطويلة، في ثلاث مجموعات : القايد وموظفيه بقرب نافذة عالية، ونحن الأوروبيين في الوسط، والبحارة في طرف الغرفة.
فكان الطعام يقدّم إلينا أولاً، ثم تُنقل الأطباق المبدوءة نفسها إلى الموظفين، وما تبقى يقدم إلى رجالي.
فلما شبعنا خرجنا إلى الفناء أمام البيت، وهناك قدم إلينا القايد الهدايا الترحيبية: ديكان روميان، وثماني دجاجات وبضع خنازير برية جميلة، فشكرناه كثيراً، وانصرفنا، وجعلنا ننزل الجبل من جديد، في غير ما رفقة عسكرية.
ولقد حظيت بالضيافة نفسها في سائر مناطق المغرب التي كان يندر أن يرتادها الأوروبيون، فكنا، في ذلك الوقت، حيثما حللنا نتلقى الهديا الترحيبية، المونة.
وصرنا نأسف، بعد ذلك، لتلك العادة قد صارت إلى اختفاء تدريجي.
وفي اليوم الموالي خرجنا متوجهين إلى كاپ جوبي.
وكاپ جوبي، الذي يسميه المغاربة بطرفاية، هي آخر نقطة إلى الجنوب من المغرب، إنها موقع صحراوي، تلتقي فيه الصحراء مع البحر، ويقع رصيف الميناء أمام الساحل، إلى الناحية الجنوبية الشرقية، ولقد نشأ عن ذلك، بين الرصيف والقارة، خليج من مياه هادئة، لكن شديدة الضحالة.
واتفق قبل بضعة أعوام أن وقع اختيار شركة إنجليزية على هذا المكان لتنشئ فيه مركزاً تجارياً، وأخذت تجذب إليها، شيئاً فشيئاً، التجارةَ المتجهة من سوس إلى مدينة الصويرة، وحيث إن جبال سوس الضاربة في الجنوب لا تكاد تبعد بغير 30 متراً عن مدينة طرفاية، لكنها تبعد، على العكس، بأزيد من 300 كيلومتر إلى الشمال، فقد كان للمخطَّط الإنجليزي مؤهلات للنجاح.
ولقد شرعت الشركة في إنشاء منزل منيع في أقصى الجنوب الشرقي من الريف، على هيأة حصن، كما أنشأت، قبالته، على الشاطئ، بناية جميلة.
ولقد تم البناء على نحو متين، ولا يزال البناءان قائمين إلى يومنا هذا، غير أن الموقف العدائي للقبائل الصحراوية من هذه المقاولة الجديدة، أحال كل تجارة تقوم بها أمراً مستحيلاً، وقد يكون الإنجليز اغتبطوا عندما لوَّح السلطان بسيادته على الأرض التي احتلُّوها، واشترى منهم ملكهم بمبلغ لا يُستهان به.
ولقد رحل الإنجليز عن المنطقة، وجعل السلطان عليها حامية صغيرة لا يتعدى عدد رجالها الأربعين، كان كل شأنهم أن يرابطوا عن الحدود المغربية من ناحية الجنوب، وكان يتم استبدالهم على رأس كل عامين، إذْ لم يكن في مقدور حتى الإنسان المغربي أن يتحمَّل البقاء طويلاً في هذه المنطقة. فلا يمكن تصور وجود منطقة أكثر من هذه بؤساً وإيحاشاً؛ فليس يكتنفها غير الرمل، والرمل ثم الرمل! وإنه ليعسر علينا أن نفهم أين تجد بعض الخراف البائسة التي يمتلكها الأهالي والعدد اللا يُحصى من الغزلان غذاءَها في هذا القفر.
ولم يكن يظهر في هذا المجال الرتيب غير المنزلين اللذين أنشأها الإنجليز، لكن على الرغم من هذا الفراغ، كان الناس يعيشون في هذا الطرف من الصحراء، ولا يخطر ببالهم أن يتركوه!
كان يتعيَّن جلب جميع المواد الغذائية للحامية، بما فيها الماء وخشب التدفئة، ولذلك يكون وصول سفينتنا دائماً، عيداً صغيراً للحامية، فبالإضافة إلى المواد الغذائية الطرية، كنا نحمل إليهم رسائل الأهل وأخبار البلاد، وكان الجنود المغاربة يسكنون على الطريقة العربية.
فلا وجود في مساكنهم لأي أثر للنظافة التي كانت تطبع هذه المساكن على عهد الإنجليز. ولم يعد البيتان يحتفظان بلونها الأصفر البراق في غير النواحي منهما التي يطالها رذاذ البحر، أو النواحي التي لا تطولها أيدي البشر.
ومن النوافذ الست لأحد هذين المنزلين تتراءى آثار سوداء مصدرها ما يُلقى من الفتحات من الأزبال والقاذورات.
وقد أُلْقيت كما اتفق، في ساحة مفتوحة تمتد إلى داخل الأراضي، خليط من القطع الخشبية، والأكياس الفارغة، وكل شيء. وكان تقوم هنا، رافعتان لتفريغ حمولات السفن، وقد كانتا من البلى بحيث كنت أخشى على الدوام، أن تنهارا تحت ثقل الحمولة فوقها. فكان لسان حالهم: «لن يحدث ذلك إلا بمشيئة الله!».
ويستمرون في العمل بهما كما اتفق، ولم يكن الداخل بأفضل من الخارج، فقد كانت حواجز من الخشب تقسِّم قاعات جميلة وكبيرة إلى حجرات صغيرة، كان يسكنها بعض الرجال رفقة بعض الإماء الزنجيات، أو أزواجهم الشرعيات.
وقد كانت القذارة نفسها، والفوضى نفسها تعم المكان، وقد بلغ بالناس استخفافهم بالنظافة، أنهم كانوا لا يتورعون عن غسل أقدامهم في الخزان الذي منه يؤخذ الماء بالبراميل!
وكان البيت نفسه في الحالة نفسها من التردي، وكانت الريح والرمل قد مسحا الأسوار القديمة المحيطة بالفناء، والبالغ علوها خمسة أمتار، حتى لم يعد يُرى منه في بعض الأنحاء غير الزاوية العلوية، وبات بإمكان المرء أن يتخطاه بخطوة واحدة.
وإلى جوار هاتين البنايتين كان الكثير من أبناء الصحراء يعيشون تحت الخيام.
وكانوا يكاد أن يكون كل عيشهم على العمل لفائدة الحامية. وقد كان لهم بعض المومسات الكريهات، في حوالي الستين من عمرهن، وكان لباس الرجال والنساء أزرقَ غامقاً، بحيث يبدو الجسد كله في لون أزرق، وحيث إنهم لم يكونوا يغتسلون أبداً، فإن ذلك قد يحمل على الاعتقاد أن لون جلدهم أزرق. وحتى وجوههم كانت زرقاء، لأنهم يحيطون جباههم وأفواههم، في العادة، بطرف من ثيابهم.
كان جنود السلطان على الأقل هم الذين يلمس أجسادَهم الماء والصابون من حين إلى حين، ولقد أدركت فضل الرسول على أتباعه عندما أمر بالوضوء قبل كل صلاة، إذ لو لم يكن هؤلاء الجنود مجبرين، من الناحية الأخلاقية، على الاغتسال عندما يقومون إلى الصلاة، لكانوا قد تلفوا من الأوساخ والأدران.
ولقد سمحت لي الحكومة المغربية، منذ أن بدأت في مزاولة نشاطي، بأن ترافقني زوجتي في أسفاري، ولقد نزلت وإياها مدينة طرفاية، فكانت مثار فضول السكان الصحراويين.
فقد كانت تلك أول مرة يرى فيها معظمهم امرأة مسيحية، وفضلاً عن ذلك امرأة طويلة القامة، ألمانية وشقراء. ولقد اندهشوا أيما اندهاش لشعرها الأشقر، والورود في قماش قبعتها.
ولقد اقتعدنا الرمل، فتحلقوا من حولنا في نصف دائرة، فكانوا يمدون أيديهم فيلمسون شعر زوجتي البراق، ليتأكدوا من أنه شعر حقيقي، كما كانوا يتشممون الورود على القبعة، التي يبدو أنها سلبتهم ألبابهم.
كما أثار استغرابهم ما كنا نحمل في أصابعنا من الخواتم الذهبية، غير أن فضولهم لم يكن يضايقنا، وإنما كان بالأحرى، فضولاً خجولاً، ينم عن خوف شديد، فكانوا ينسحبون بسرعة، عندما يلاحظون أنهم أصبحوا لحوحين مزعجين.
وبعد أن فرغنا من تحميل السفينة، وعدنا أدراجنا إلى مدينة الصويرة، كان بين المسافرين بعض العبيد الذين كان لا يزال يجري فيهم البيع والشراء في مدينة طرفاية! وقد كان معظمهم من الشباب السود، استُقدِموا من بلاد السودان.
تلقيت الأمر، في خريف عام 1901، أثناء رحلة عودتي من الصويرة باتجاه مدينة طنجة، بالتعريج على مدينة الجديدة لأنقل من هناك حمولة إلى مدينة العرائش، وقد كنت خلال إقامتي السابقة في مدينة الجديدة رأيت سفينة بخارية إنجليزية تُنزِل في قارب محلي صندوقاً كبيراً.
ولقد بقي ذلك الصندوق رابضاً هناك، وكنت كثيراً ما أراه. وعندما وصلت إلى مدينة الجديدة علِمت أن ذلك الصندوق، فضلاً عن نقَّالة بخارية، هي الحمولة التي عليَّ أن أنقلها إلى مدينة العرائش.
وقد كان ذلك الصندوق الكبير يحتوي على درَّاسة تزن 5000 كيوغرام، فيما تزن النقالة البخارية 4000 كيلوغرام، وحملنا على متن السفينة، كذلك، عدداً من الصناديق الصغيرة، وجميع هذه البضائع طلبها ماك لين؛ وهو ضابط إنجليزي في خدمة السلطان، وهي تتألف من معدات كهربائية، ومغناطيس من الرخام، وبيانات، وآلات تصوير، إلخ.
كانت هذه الحمولة أول دليل ملموس لدي على التأثير الذي كان يقع على السلطان الغر عديم التجربة من مستشاريه الدهاة الماكرين، فبدلاً من يعتنوا بإعداده ليجعلوا منه سلطاناً محنكاً وعصرياً، وهو أمر لم يكن بالمتعذر، لأن كل من عاشر مولاي عبد العزيز يشهد له بالذكاء والتعطش إلى المعرفة والتعلم، بدلاً من ذلك كانوا يجعلونه يصرف وقته في اللعب بمجسَّم آلة من الآلات العصرية. وكان المكلفون، من بين مستخدمي السلطان، باقتناء هذه الأشياء يفيدون من ذلك أكبرَ الفوائد، وإذا هم قد أصبحوا من ذوي الثراء الفاحش. وكان الوزراء غير مهتمين بغير مصالحهم ومصالح أقربائهم، غير آبهين لمصير البلاد.
وكانت المحسوبية أمراً متفشياً في المغرب، فكان أسوأ الأوغاد يبلغون إلى أعلى المناصب إذا كانوا ممن يجيدون التملق لكبار موظفي الدولة، أو كانوا من أقربائهم، ومن أمثلة ما نقول الوزير الجبار السابق المنبهي الذي كان مجرد سائس، وسرعان ما ارتقى إلى منصب وزير الحربية، وقد كان له صديق كان يعمل مجرد سائس، وسرعان ما سما به إلى منصب عامل لمدينة الصويرة.
وقد كان هذا العامل يرفع من مداخيله بما كان يفرض من الضرائب على الدعارة.
فقد كان يأخذ عن الفتيات الجميلات 5 دوروات في الأسبوع، وعن الأقل جمالاً منهن دورو ونصفاً، وبذلك كان يحصِّل مدخولاً يصل إلى حوالي 500 دورو في الشهر الواحد.
وقد كان السجن على عهده ممتلئاً في معظم الأحيان، كما كانت الدية عن المعتقلين الجدد مبلغاً لا يُستهان به.
لم يكن الشعب بالغافل عن هذا السير السيئ للأمور في المغرب، وسرعان ما أخذ يغمغم بذلك، فقد أخذ يلوم السلطان بإنفاقه للمبالغ الطائلة على لهوه بتلك الآلة العصرية، وبكرهه للمؤمنين، وبعدم انشغاله بصالح البلاد.
لكن كان أعظم الشرور في نظر الشعب، أن السلطان كان يقبِل على التصوُّر، وتمثيل الإنسان أمر يمنعه القرآن منعاً باتاً، وكون السلطان نفسه يقبل على التصوير، يحمل على نعته بالمسيحي.
والمرجَّح أن السلطان لم يُبلَّغ بما كان من نقمة الشعب عليه، وإلا لكان ذلك قد حمله ذلك، بما كان يتصف به من الذكاء، على التحول عن سيرته تلك.
ولقد حملْنا تلك اللعبة إلى مدينة العرائش، وأنزلناها على رصيف المرسى.
ولا يزال ذلك الصندوق والدرَّاسة جاثمين هناك إلى يومنا هذا! فقد كانت حمولة ثقيلة جداً، بما يتعذر نقلها إلى مدينة فاس. ولقد تم وضع القاطرة على عجلات تجرها البغال والثيران إلى داخل البلاد. بيد أن الموكب لم يمض بعيداً في طريقه، إذ كثير التوقف بسبب من مصالح الجمارك.
وعلاوة على ذلك كان يوم يشهد موت بعض ثيران الجر، ولم تكن ميتاتها بالطبيعية، وإنما كانت ميتات عنيفة.
فقد كان السائقون يقتلونها، ويَطعَمون لحمها، ويبيعون منه ما يفيض عن حاجتهم، وكانوا، بعدئذ، يطلبون تزويدهم بثيران جديدة. وشيئاً فشيئاً أخذ نقل تلك اللعبة يصبح مكلفاً جداً، بحيث تم التخلي عنه، وتم ترك تلك الآلة على بعد ساعات من المسير من مدينة العرائش.
ثم جاءت قبائل تلك الناحية، فاستولت على كل ما يمكن تفكيكه وحمله من أجزاء النقالة البخارية؛ كالصنابير الصفر، وأنابيب النحاس، وأبواب المواقد، إلخ. بينما تم نقل الصناديق المحتوية على الأشياء الصغيرة إلى مدينة فاس، ولا تزال ترقد هناك، قد أُهمِل جلها، وتُرِك عرضة للتلف.
وأما سفينتنا فلم تعد يجدي فيها شيئاً عمليات التنظيف التي كانت تخضع لها في مدينة العرائش. وأصبحت في حاجة ماسة إلى الترميم. غير أن كل طلباتنا إلى المخزن في هذا الشأن بقيت من غير مفعول. ولذلك طلبْت إلى الوزير الألماني، البارون مينتسينغن، أن يتدخل لدى البلاط الألماني، من أجل الالتفات إلى تلك السفينة، لإرسالها إلى أوروپا لإخضاعها للترميم اللاَّزم.
فكان جواب الوزير أن الترميم يقع على الحكومة المغربية وحدها، ولذلك فهو لا يعنيه من قريب ولا من بعيد.
ولقد أوضحْت له أن في بقاء السفينة على حالها تهديداً لأرواح جميع المواطنين الألمان العاملين على متنها، ولذلك قبِل، في نهاية الأمر، أن يتكفل بترميم سفينة «التركي».
ولأجل ذلك كان خروجنا إلى جبل طارق، ولقد استغرقت أعمال الترميم أربعة أشهر كاملة، بسبب بطء العمل في المشغل البحري لجبل طارق.
ولقد ازداد امتعاض المغاربة من السلطان لما كان مستمراً فيه من اقتناء شتى أنواع اللعب النادرة. بل لقد بلغ منه الأمر أن كان يجيز للنساء من حريمه أن يركبن الدراجات الهوائية. وكان آخر تجاوزات السلطان ما بدر منه حين مقتل الراهب الإنجليزي كووپر في شتاء 1903-1902. فلقد اقتص مولاي عبد العزيز للإنجليزيين من القاتل على وجه السرعة، وطفح، بذلك، الكيل.
فقد سرت الشائعات في أوساط الشعب أن السلطان أمر بالبحث عن القاتل، ولو داخل أكبر مكان مقدس في مدينة فاس؛ ذلك هو مسجد مولاي إدريس، وهو مكان يحظى فيه جميع المؤمنين بالحماية، حتى أكثرهم إجراماً.
ولقد اعتُبِر اقتحام ذلك المكان عملاً شنيعاً حتى من السلطان نفسه، ولقد علِمت، بعدئذ، أن هذه الصيغة من الحكاية لم تكن موافقة للحقيقة، غير أن الشعب صدَّقها، فقد كان يعتبر السلطان مسيحياً قادراً على كل شيء.
وفي تلك الأجواء اندلع تمرد بوحمارة، ولقد اجتمع لديَّ بعض التواريخ في شأن شخصية المدعو بوحمارة وأصله، من دون أن يكون في مقدوري أن أتثبَّت من صحة هذه وتلك، لأن الأهالي قليلاً ما يتفقون في تقدير الزمن، وكذلك يكون شأنهم في تقدير المسافات والأرقام، ويكاد لا يوجد بين المغاربة من يعرف السن الذي كان فيه بوحمارة.
الاسم الحقيقي لبوحمارة هو الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني (نسبة إلى زرهون، (كان مولده في قبيلة أولاد يوسف، في جبال زرهون، وهناك تلقى تعليمه ودخل، في شبابه، في خدمة مولاي علي الكومي؛ رئيس موسيقيِّي السلطان، ثم أصبح مخزنياً لدى مولاي محمد، في زمن كان فيه هذا الأخير خليفةً لوالده؛ السلطان مولاي الحسن، ثم كان تعرضه للحبس من أبي محمد؛ الخليفة السابق على مدينة طنجة، وأُطلِق سراحه، بعدئذ، فالتحق بالعمل لدى المنبهي. وعلى أَثَر وفاة باحماد تم تسريح الجيلالي الزرهوني من جديد، مما ملأ قلبه غلاً ومرارة.
وفي ذلك الوقت كان السلطان الشاب مولاي عبد العزيز يقيم في بلاطه بمدينة مراكش.
ويُحكى أن الجيلالي الزرهوني تقدم إلى الجمارك في مدينة الجديدة برسالة مزورة يزعم أنها من السلطان، بها أمرٌ بتسليم حاملها 400 دورو، حتى إذا تسلَّم ذلك المبلغ، فرَّ إلى تلمسان في الجزائر، لكن تلك السرقة لم تمنعه من العودة إلى فاس، والتوجه منها إلى وهران، مروراً بمدينة طنجة.
وفي شتاء عام1902، خرج الزرهوني (بوحمارة) متوجهاً إلى مدينة فاس؛ حيث كان السلطان قد نفَّذ، في تلك الأثناء، حكم الإعدام في قاتل الراهب الإسباني.
ولم يخطر ببال أحد أن الزرهوني كانت له، قبلئذ، مشاريع طموحة، والأمر الوحيد المؤكد أنه كان يغذي حقداً دفيناً على السلطان ومستشاريه الخُرْق.
ولقد بلغ به ذلك الحقد إلى الإتيان بمشروع مغامر للاستيلاء على العرش، ولقد مس الشعب في نقطة حساسة؛ مشاعره الدينية، ثم صار الزرهوني يتنقل ممتطياً حمارته «كانيسة»، ملقياً الخطابات عن صداقة السلطان للأجانب، وعن قدرة القوى المسيحية في البلاط المغربي، وعجز الموظفين.
ولكي يزيد من الأهمية لنفسه، فقد زعم للشعب أنه هو مولاي محمد، شقيق السلطان، وأنه إنما جاء لوضع حد للحالة المحزنة التي أصبحت عليها البلاد، ولكي يخفي اسمه الأصلي، تكنَّى باسم بوحمارة، لأنه كان يستعمل هذا الحيوان مطية له. ولا يزال يعيش بنفس الاسم في التقاليد الشعبية.
ولقد اجتمعت له حشود من الأتباع، مؤمنين به إيماناً أعمى. وهكذا بدأ ذلك التمرد الرهيب، الذي أدى، بالإضافة إلى دسائس الفرنسيين، إلى نسف البلاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.