لو عادت بنا الذاكرة إلى البيضاء إذا كان لزاما علي الحديث عن مدينتي، أي عن الدارالبيضاء، وعن كل ما ميز طفولتي، وعن كل ما طبع فترة مراهقتي، وما أصبحت عليه اليوم، فذلك يتطلب مني، بالتأكيد، أياما طوالا. بيد أنني سأحاول الحديث، على الأقل، عن شطرين هامين من طفولتي، وعن مكانين ساحرين يحملان دلالات رمزية بالنسبة لي، ويؤرخان لمرحلة هامة من عمري. ولدت بمدينة الدارالبيضاء. قضيت طفولتي بين عرصة الزرقطوني، حيث كانت تتواجد جدتي وأعمامي من جهة، وبين درب السلطان، قرب سوق الحبوب القديم "الرحبة"، غير بعيد عن فندق البشير، وبمحاذاة كراج علال الذي لم يكن في ذلك الوقت سوى ساحة واسعة تتوقف بها حافلات نقل المسافرين بين المدن. كانت تنظم، موسميا، في هذه الساحة عروض "الراس المقطوع" وعروض للسحر والألعاب البهلوانية، تحت إشراف "الرُّحل كالاباسا". ما كان يجذبني لعروض "الراس المقطوع" هو راقصة كانت تحمل إسمي!. كانوا ينادونها بنعيمة الشرقي!. لم يمض على عروض هذه السيدة وقت طويل، إذ سترحل، لمواصلة مشوارها الفني بإسبانيا، عقب زواجها من لاعب كرة قدم مشهور. في ذلك الوقت، كنت محفوفة بحب والدي ووالدتي رحمهما الله، وبعناية المحيطين بي، وبرعاية جيراني. دفء إنساني رائع كان يسود حي درب السلطان، يمنحني القوة والثقة في النفس!. قوة كانت مستمدة أيضا من حماية أبناء الجيران لي!. أشعر بعاطفتهم الجياشة نحوي، وأرى فيهم إخوتي وأخواتي وأقاربي. تضامن رائع يسود بين الجميع!. فحين تشكو أسرة ما داخل الحي، تتداعى لها باقي الأسر بالسهر وبالتعبير عن الألم، والاستعداد لبذل النفس!. وحين تشكو أسرة ما ندرة الزاد، تتكفل بها معها باقي الأسر!. وحين يأتي طفل إلى الحياة، يجد كل نساء الحي قد صرن أما له، وكل العنصر النسوي أخواته وخالاته!. إلى غاية بلوغي سن المراهقة، ظل الشعور ملازما لي بأنني أحظى على الدوام بالحماية على طول الدروب المفضية إلى المدرسة!. كان كل درب من هذه الدروب يحمل معانيه الخاصة!. يبدأ مشواري نحو المدرسة بدرب الجيارة، حيث يتراءى لي، عند مدخله، "خالي العجيب" قابعا أمام متجره. "خالي العجيب" كان رجلا أُمّيا لكنه يبيع الكتب ويحفظ عناوينها عن ظهر قلب! مقررات مدرسية وكتب متنوعة وقصص مصورة يرتبها على شكل أكوام ويضعها في قعر متجره!.. يكفي أن تعبر عن طلبك لتجد مبتغاك في رمشة عين!. كل ما ترغب فيه تقدمه لك يدي "خالي العجيب". يتواصل مشواري نحو المدرسة بالمرور، أولا، عبر حي الأحباس المتميز بمعماره الموحي بالسكينة والهدوء الأبدي، ثم عبر درب اليهودي حيث لا سيد هناك إلا "سينيُورا" المثير للرعب. كان اسمه الحقيقي هو عبد العزيز!. رجل مختل عقليا، يهوى العيش تحت القناطر، ويرفض إلحاق الأذى بالناس رغم هيئته، وسوطه الذي لا يفارقه، ورغم كلبه المنحدر من سلالة الذئاب الذي يرافقه أينما حل وارتحل، ناشرا نوعا من الشعور بالرعب والرهبة!. أما المكان الساحر الثاني والرمزي بدرجة كبيرة، فهو "عرصة الفرنسيس" التي يطلق عليها اليوم "عرصة الزرقطوني". هذه العرصة تتواجد بين "عوينة السوينية"، حيث ولد وترعرع الممثل الكبير والموهوب محمد سعيد عفيفي، و"ساحة سيدي فاتح" التي كسبت شهرتها من شهرة دكان "الحاج الحسن مول السفنج" الشهير.. داخل هذا العالم الخاص، كانت تجري اللقاءات بين البشير لعلج وبوشعيب البيضاوي ولحبيب القدميري.. وكان "التركي" هو صلة وصل بين هؤلاء الفنانين !.. التركي كان شخصية محبوبة، لا توصد أمامها الأبواب!. لم يكن التركي فنانا ولا مسرحيا ولا يعرف هواية تدفعه للشهرة، بقدر ما كان لازمة لشباب موهوبين سيصبحون عمالقة في مجال تخصصهم من أمثال المعطي البيضاوي، محمد سعيد عفيفي، والبورزكي، وعبد اللطيف البليدي، أول مغربي عزف "الكنترباص"، والصحفي عزيز كسوس!. في هذا المكان الساحر، ساد ما هو أجمل وأروع، بالنسبة لي في ذلك الوقت!. التعاون والتضامن القوي بين اليهود والمسلمين المغاربة!. للذهاب إلى "عرصة الزرقطوني"، كنت أفضل المرور عبر المسرح البلدي الذي تم هدمه اليوم لأهداف مضارباتية غامضة، بل قاتمة. كنت أتوقف عند بوابة هذا المسرح وقد تملكني الإعجاب والانبهار!.. أرنو إلى الصور والأفيشات التي تعلن العروض!. لا أستفيق من الحلم الذي يغذيه هذا العالم العجيب إلا على صوت بواب المسرح يطلب مني الانصراف إلى حال سبيلي!. غالبا ما أستعيد هذه اللحظات، وأقول في نفسي إن هذه الأماكن تحمل سر مُيُولاتي وتفسر إلى حد بعيد ما أنا عليه اليوم!. تحدثت قبل قليل عن الشخصية الرائعة للمسمى "سينيورا". كان يلبس برنوسا شبيها بذلك الذي تحمله شخصية "زورو". وعلى غرار هذا الأخير، كان السوط يلازم "سينيورا" الذي يحدث به ضجة ملفتة حين يلوح به عاليا قبل أن يرتطم بالأرض!. كان "سينيورا" المثال الحي للمكانة التي حملتها السينما في حياة وقلوب سكان الدارالبيضاء في ذلك الوقت. كانت الشاشة الكبيرة مصدر الترفيه الرئيسي داخل الأحياء الشعبية لمدينة الدارالبيضاء. وأعتقد أنها كانت كذلك في كل دول العالم الثالث. السينما كانت آلة لإنتاج عالم خيالي نتيه في دروبه، ونافذة رائعة للإطلالة على عالم "النصارى". ففي درب السلطان وحده، وخاصة في محيط كراج علال، انتشرت سبع قاعات تحيط بالحي من كل جنباته: سينما المامونية، وسينما أطلس، وسينما شهرزاد، وسينما الشاوية، وسينما الباهية، وسينما موريتانيا، وسينما الملكي. هاته الأخيرة صُمّمت لاحتضان عروض حية، واستقبلت أروقتها عروضا منوعة ومسرحيات لا تنسى، وحظيت بشرف استقبال هرمي المسرح المصري "يوسف وهبي بك" و"أمينة رزق". وكان للصغار نصيبهم أيضا من الفرجة بهذه السينما التي كانت تخصص صبيحات لتقديم عروض وُولْت ديزني الناجحة مثل "بامبي" وبلانش نيج" و"سندريلا" وغيرها. تغير كل شيء اليوم. قاعات العروض السينمائية أصبحت أطلالا. أغلقت أبواب أغلب القاعات، ليظل الخاسر الأكبر هم أطفالنا الذين ضاعت عليهم فرصة اللقاء سويا، والتعارف، والتعلم بشكل جماعي، ونبذ الخوف والحذر من الآخر. ذاكرتي لازالت تختزن أيضا صورا لشخصيات نسائية غير عادية. أذكر، بصفة خاصة، الشيخة راضية، وللا مليكة "الدلاّلة" و"أمي عيشة العرّاكة" اللواتي كن يمارسن حرفا نسائية استثنائية. كانت الشيخة راضية تتقن العزف على الكمان وتحيي حفلات وأعراس محصورة على النساء. هاته المرأة، ذات الشخصية القوية، رافقت أغلب نجوم الأغنية الشعبية في تلك المرحلة!. ومنهن النساء النجوم اللواتي تحيل أسماؤهن على عالم أخّاذ بات اليوم يتلاشى!. منهم الشّيخة "زهرة الغاز" و"خدوج بَضنّي" و"للا غيثة المراكشية"، و"الحاجة الرويضة"، والشّيخة "العرجونية" و"الشّيخة الغرباوية" و"تشيكيتو". وكانت " امي عيشة العراكة" تتطاول على مهنة الطب وتدعي مداواة مرض اللوزتين "الحلاقم" بطريقة الضغط بأصابعها المعقوفة، ومداواة أمراض العيون باستعمال الثوم والأعشاب. أما للا مليكة "الدلاّلة" فكانت بائعة للملابس المستعملة وتقوم بكراء القفطان المغربي والألبسة المستعملة في الحفلات. كان بإمكان النساء مبادلة الثياب التي لبسنها مرارا، بأخرى جديدة، وتقوم للا مليكة بعرض ما تحصلت عليه من ملابس لنساء أخريات تطرق بابهن وتلج بيوتهن. لم يكن ذلك أبدا مضيعة للوقت بما أن لالة مليكة كانت أيضا تدير ما يشبه "مقاولة" للسلف بالرهن.. وكانت أيضا تلعب دور الخاطبة بين الحين والآخر. أعتقد أن جيلي هو جيل نموذجي، ولد بين ثقافتين، وبين عالمين، في ما يشبه منطقة هامشية وغير واضحة المعالم.. هناك في تلك المنطقة، كانت "الثقافة المغربية" بسماتها التقليدية تتقاطع وتتواجه مع ثقافة "الفرنسيس" التي كانت تدعي أنها وحدها منفتحة على العالم.. هناك في تلك المنطقة كان مغرب اليوم يرسم مساره.. مسار جعل بلادنا تصبح أكثر قوة ونجاحا.. بفضل ما استطاعت أن تكتسبه من ثقافة الآخر.. أعتقد أن هذا النجاح وهذا الانتصار، نحن مدينون فيه خصوصا لأمهاتنا، ولجداتنا، اللواتي استطعن الحفاظ على أصالتنا وتقاليدنا وعلى امتدادها في حياتنا.. ربما كن غير واعيات بذلك التحدي.. ربما لم تكن تعلمن أنهن يخضن حربا.. أظن أن هناك دوما مقاومة لأي "ثقافة أجنبية".. مقاومة تتعبأ تلقائيا وتعبئ معها كل حواسنا ومشاعرنا.. مقاومة نابعة من القيم والطباع التي تشبعنا بها، بكيفية عادية ومباشرة، من محيطنا الإنساني والاجتماعي.. هذا ما برعت فيه فعلا وبقوة الأمهات المغربيات، في الدارالبيضاء، كما في فاس أو في طنجة.. ظاهريا، كان أبناء وبنات جيلي يبدون أكثر هشاشة ورهافة من حيث وعيهن بالهوية والذات.. لكن الحقيقة كانت غير ذلك.. فأمهاتنا نجحن في إعطائنا الأهم.. أمهاتنا أعطيننا الإحساس والوعي بقيمة التضامن.. في درب السلطان.. عندما كانت أسرة ما تواجه الأزمات.. كانت جميع أسر الحي تتضامن معها في محنتها.. وعندما يولد طفل.. كل نساء الحي يصبحن أمهاته وأخواته وخالاته.. أمهاتنا أعطيننا كذلك الإحساس والوعي بقيمة التسامح. فعندما كانت إحدى نساء الحي المسلمات تذهب إلى الحمام العمومي، كانت تترك طفلها لجارتها اليهودية لترعاه في غيابها.. والعكس كان صحيحا أيضا. الحي بأكمله كان منزلا لي. وكل من يمر بدروبه كان بمثابة أبي أو أمي. هذا ما كنا نسميه وقتها "الترابي" المتمثلة في حسن التصرف كيفما كانت الظروف، واحترام الآخر، واحترام القيم ومعتقدات الجميع. هذه الحرب التي لم يكن لها عنوان، كانت تدور في ذلك الوقت، وتستعر يوميا داخل المدرسة بين المدرسين الفرنسيين ومعلمي وأساتذة اللغة العربية. من هؤلاء المدرسين أذكر معلمين يرجع لهما الفضل في تلقيني اللغة العربية: السي أحمد العبدي الدريبي، المقاوم الكبير الذي ترقى إلى رتبة مفتش للتعليم والذي كان أيضا من الأعضاء البارزين في أول فرقة مسرحية بمدينة فاس والذي لبى داعي ربه وهو يمارس مهامه. والسي محمد الكتاني عضو أكاديمية المملكة المغربية. إنهما مناضلان وطنيان لم يتركا زاوية مفتوحة من زوايا الدرس ليحثا التلاميذ على حب الوطن والتشبث بالعرش العلوي. وهو ما كان يعرضهما لغضبة السيدة فور، المديرة الفرنسية لمدرسة درب سيدنا الابتدائية. بفضل كل جنود الخفاء من المدرسين وبفضل الأمهات المخلصات المتفانيات اللواتي نقلن المشعل للجيل الموالي، وبفضل المقاومة الشرسة لمربيي الأجيال على مقاعد الدرس، خرج المغرب سالما من معركة الهوية وتمكن من التمسك بالأصالة مع الحفاظ على غنى وتنوع ثقافته. وهذا لعمري هو الربح الأساسي. تدخل الفنانة نعيمة المشرقي في ندوة "لو عادت بنا الذاكرة إلى البيضاء" نظمتها جمعية قدماء التلاميذ البيضاويين بشراكة مع مؤسسة مسجد الحسن الثاني يوم الخميس 19 فبراير 2015. بيان اليوم تعيد نشر هذه المادة الهامة التي وافتنا بها مشكورة الفنانة المقتدرة نعيمة المشرقي، بعد تصحيحها مما تسرب لها من أخطاء غير مقصودة أثناء الرقن والتصفيف، لذا وجب التنويه والاعتذار للفنانة نعيمة المشرقي والقراء الأعزاء..