تعقيدات واختلالات الممارسة الحزبية والسياسية في بلادنا، فضلا عن عوامل تاريخية ومجتمعية أخرى، جعلت السؤال الثقافي غائبا اليوم في أطروحات كثير من أحزابنا، كما تراجع الإنتاج الفكري والمفاهيمي لديها ولدى نخبنا الحزبية والجامعية بشكل عام. إن إثارة هذه المشكلة ليست ترفا، وإنما هي بمثابة دق جرس التنبيه إلى إحدى أكبر تجليات عطبنا السياسي، أي تراجع الانشغال بالسؤال الثقافي والفكري، وهذا واضح اليوم أساسا لدى القوى الديمقراطية والتقدمية وأحزاب اليسار بالذات، ولدى المفكرين والباحثين والأدباء المرتبطين بهذه المنظومة الفكرية والسياسية. لا يجب التعاطي مع هذا التنبيه اليوم كما لو أنه من باب اجترار كلام قيل آلاف المرات، وإنما من الضروري إدراجه ضمن دينامية التحول التي يشهدها مجتمعنا ومحيطه، ومن ثم حاجة صيرورتنا السياسية والمجتمعية إلى المثقفين والباحثين والنخب لمواكبة كل ذلك وإسناده والفعل فيه، أي إلى إنتاج المعنى، وهذا عمل المثقفين، وإلى بناء معطيات الواقع لتكون ملائمة ومستقبلة وداعمة لمسلسلات التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ما يجري اليوم على مستوى الخطاب الحزبي المتداول بين الناس وعبر الصحف يحتاج إلى الثقافة، اختلالات العمل الحزبي ككل، وعلى صعيد التحالفات والعلاقات بين الأحزاب يحتاج أيضا إلى الثقافة، ضعف إنتاج البدائل للسياسات العمومية وإبداع مخارج وحلول للمآزق الاجتماعية والاقتصادية يحتاج كذلك إلى الثقافة، تطوير الذهنيات وقابليات التفاعل وتشجيع احترام الاختلاف في الآراء يحتاج إلى الثقافة، إصلاح التعليم والإعلام وتطوير القراءة وتمتين التربية على المواطنة والديمقراطية يحتاج إلى الثقافة، وبصفة عامة فبناء الحداثة وتقوية اشتراطاتها وتجلياتها في الميدان، يقتضيان إنماء الثقافة وتطوير إنتاج المعرفة وإشعاعها وتوسيع دوائر حضورها وأثرها الفعليين في المجتمع. وبالنسبة للقوى التقدمية، ففضلا عن الأسئلة الموجهة إليها اليوم ذاتيا وتنظيميا ومن حيث العلاقات فيما بينها، فهي مساءلة كذلك عن الجانب الفكري والثقافي، ذلك أن الاصطفاف في معسكر المدافعين عن الحريات والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والتعدد اللغوي والثقافي، يفرض وجوبا بلورة هذه الشعارات والمطالب على شكل أطروحات فكرية ونظرية متكاملة، أي أن تكون هي ركائز المشروع الثقافي والفكري الذي تحمل هذه القوى لواء الدفاع عنه والالتزام بتطبيقه على الأرض. ومن المؤكد أن بلورة هكذا مشروع، في مقابل مشاريع القوى الأخرى، سيساهم في منح وضوح أكبر للاصطفافات السياسية والحزبية، وبالتالي في إضفاء المعنى حتى على التفاعل بين القوى المتناقضة أو في صياغة أرضيات الحد الأدنى أو العمل المشترك بينها في مراحل تاريخية وسياسية معينة. إن استعادة حضور السؤال الثقافي والفكري وتقوية حضور المثقفين والأدباء والباحثين والمفكرين في لحظتنا السياسية الوطنية والكونية الراهنة يتطلب منظومة إجراءات وخطوات متكاملة، بدءا من تعزيز أجواء الحرية في فضاءات النقاش العمومي وعبر وسائل الإعلام وداخل الجامعة، ثم تطبيق خطة وطنية استعجالية وناجعة للنهوض بالقراءة وتشجيع الإقبال عليها، وإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية وللإبداع الأدبي والفني في بلادنا، واستعادة حضور الفلسفة في نظامنا التربوي والجامعي، وأيضا انكباب الأحزاب الحقيقية ذات المصداقية والتاريخ على إنتاج معارف ومنظومات فكرية وسياسية تؤطر هويتها العامة وطرحها للنقاش العمومي . وبالإضافة إلى ما سبق، لا بد كذلك من توفير الشروط المناسبة لفائدة المنتجين المباشرين للمعاني والقيم والصور من فنانين وأدباء ومفكرين وفلاسفة وجامعيين بغاية تحفيزهم على الإقبال على صناعة المتن الفكري والإبداعي وإيصاله إلى الناس والاحتفاء به... المجتمع برمته اليوم مطالب إذن بصياغة مشروعه الثقافي الوطني بغاية إيجاد أجوبة للإشكالات الراهنة في اللغة والهوية والأفق، وأيضا من أجل تشكيل مقومات بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي المرتكز إلى المواطنة وكل القيم الكونية، والمتفاعل مع تطلعات الناس. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته