يمكن القول، بدرجة كبيرة من الاطمئنان، أن العلاقات المغربية-الإسبانية، تمر في المرحلة الراهنة، بإحدى أهم فترات ازدهارها وإيجابيتها . وهذه العلاقات، نعتقد أنها تفتح آفاقا واعدة للبلدين على صعيد، ليس فقط تقوية مختلف أشكال المبادلات التجارية والاقتصادية والمالية، وتمتين أواصر التعاون الأمني والسياسي والدبلوماسي؛ ولكن أيضا وأساسا، في اتجاه إعطاء هذه العلاقات نفس وطابع التعاون الاستراتيجي، غير الخاضع لتقلبات الظرفية السياسية ولمتغيرات الوضعية الحزبية والسياسية للبلدين. إن قناعتنا الراسخة- أيها الأصدقاء الإسبان- أن العلاقات المغربية الإسبانية تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، اعتماد مقاربة إرادية شجاعة، غير مرتهنة ، حصرا، لأسئلة التاريخ وإشكاليات الذاكرة المشتركة الصعبة، ولكن مستوعبة لها ومستشرفة لتحديات الراهن ورهانات المستقبل. نعم إن هذه العلاقات تحتاج إلى مقاربة جيوإستراتيجية تستحضر، بشكل ذكي أهمية تنمية وتثمين القواسم المشتركة التي تبلورت على امتداد التاريخ ومختلف التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية، وإلى اعتماد خارطة طريق نموذجية لما يجب أن تكون عليه الشراكة البينية ، والشراكة الأورومتوسطية، والتعاون شمال-جنوب.
إن حتمية واستعجالية وضع هذه المقاربة الجيوإستراتيجية الهادفة إلى التمتين والترسيخ والتجديد الدوري للعلاقات المغربية الإسبانية، والفضاء الأورومتوسطي، بشكل عام، تقوم، من وجهة نظرنا؛ على جملة من التحولات العميقة التي شهدها جنوب المتوسط، عقب ما أطلق عليه ب "الربيع العربي" الذي أزهر، مع الأسف وفي عدد من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، عددا من عناوين خريف بائس يهدد بالعودة الى الوراء وبإجهاض المكتسبات القليلة التي تحققت بفضل نضالات وتضحيات جمة. كما تقوم تلك الحتمية أيضا على تداعيات وآثار ما صارت تعرفه منطقة الساحل والصحراء الكبرى من تحديات وتهديدات خطيرة للسلم والأمن الإقليميين والعالميين، بفعل تزايد الأعمال الإرهابية وتجارة وتهريب البشر والسلاح والمخدرات؛ هذا طبعا، بالإضافة إلى تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية التي مازالت عدد من البلدان تعاني من وطئتها، والتي كان من نتائجها المباشرة تدهور الأوضاع الاجتماعية في العديد من البلدان المتوسطية، وانعكاسها السلبي على الشباب والنساء والمهاجرين والعمال.
من النتائج المباشرة لما عرفته منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط في سياق التحولات السياسية المتلاحقة ، ولما شهدته وتشهده الاقتصاديات الكبرى من أزمات... من النتائج المباشرة لكل ذلك بروز جيل جديد من التحديات والتهديدات الأمنية والإرهابية ، تغذيها ، وهذا ما يجعل منها تحديات على أعلى مستوى من الخطورة، تربة ثقافية وخطاب ديني موغل في التخلف.
إن هذه التهديدات والتحديات هي إحدى الأسباب التي تستوجب، ليس فقط عملا مشتركا وتنسيقا محكما بين البلدين لاحتواء نتائجها المدمرة، ولكن تستوجب أولا وأخيرا اعتماد مقاربة جيواستراتيجية متكاملة الأبعاد الأساسي فيها هو الانحياز والانتصار بشكل لا مهادنة ولا هوادة فيه للاختيار الديمقراطي المشدود لأفق الحداثة وللقيم الإنسانية الرائعة التي كنا نحن المغاربة وأنتم الأسبان أحد المساهمين في صياغتها على امتداد التاريخ بالرغم مما شاب هذا الامتداد من نقاط سوداء.
وبالطبع، فإن من أبرز البؤر التي تمظهرت فيها هذه التحديات والتهديدات: منطقة الساحل والصحراء، وهنا بالذات فإنني أتقاسم نفس الرؤية والقناعات التي عبر عنها السيد الأمين العام لسياسات الدفاع في مداخلته، ولكنني أريد أن أضيف إليها أمرا أسوقه من منطلق ما قاله السيد وزير الداخلية الإسباني بالأمس حين شدد على ضرورة اعتماد الوضوح والصراحة في الحوار بيننا.
إن هذه المنطقة تقدم نموذجا لنوع من الزواج أو التحالف الموضوعي بين المجموعات او العمليات الإرهابية وبين النزعات الانفصالية وهو ما أنتج وينتج جوا من الرعب والفوضى المساعد على ممارسة وتغذية كل الأنشطة الممنوعة... (اختطافات، تهريب الأسلحة والبشر، المخدرات، التورط في نزاعات مسلحة، الإرهاب السيبرنيطيقي . ..).
وهنا تجذر الإشارة إلى أن حالة الجمود وعدم المضي بالحزم والجدية المطلوبين قدما في حل النزاع المفتعل في أقاليمنا الجنوبية له تبعاتخطيرة على المنطقة بفعل استغلال الجهات الإرهابية حالات الانفلات الأمني بالدول التي شهدت ثورات أطاحت بالأنظمة الحاكمة بها واستفادتها من تدفق مختلف أنواع الأسلحة والتهريب، وظهر ذلك جليا في أزمة مالي وعمليات اختطاف الأجانب ومن بينهم مواطنين إسبان (23 أكتوبر 2011) ثم اختطاف إسبانيين وإيطالية بمخيمات تندوف؛ وتشير العديد من التقارير إلى ضلوع جبهة البوليساريو في تغذية الإرهاب بالمنطقة، إذ أصبحت مخيمات تندوف أرضا خصبة لاحتضان وتجنيد شبكات إرهابية... طبعا نحن مطمئنون للعمل المشترك بين المغرب وإسبانيا .
وفي الجانب الذي يهم تحديدا التعاون في مجال مكافحة الهجرة السرية والجريمة المنظمة والإرهاب ، فلن أضيف شيئا لما ورد في مداخلتي السيد الأمين العام لسياسات الدفاع، والسيد وزير الداخلية. فقط أؤكد ، من جهتنا، أن المغرب يجدد حرصه على الاضطلاع بمسؤوليته كاملة. ولا أظنني بحاجة إلى تقديم الأدلة على ذلك، يكفي التذكير بالدور المحترم الذي قام به المغرب لعودة الشرعية والخيار الديمقراطي إلى دولة مالي الشقيقة.. وحرص جلالة الملك محمد السادس على حضور مراسيم تنصيب الرئيس المنتخب، إبراهيم أبو بكر كيتا، تأكيد آخر على انحياز المغرب الحاسم لقيم السلم والديمقراطية والأمن والوحدة الترابية والوطنية للدول.
لقد قطع الحوار الأورومتوسطي منذ إطلاقه سنة 1994، ومنذ إعلان برشلونة خصوصا: خطوات لا بأس بها؛ وإزاء هذا التراكم الهام وأيضا إزاء تزايد مخاطر التحديات والتهديدات؛ فإننا نؤكد على ضرورة التقييم الدوري الجماعي من طرف الحكومات والبرلمان وأوساط المال والأعمال وكذلك المتفقين والأكاديميين ومنظمات وتعبيرات المجتمع المدني لهذا المسار الهام من البناء الأورو متوسطي: ما الذي حققناه حتى الآن؟ ما هي نجاحاتنا وما هي إخفاقاتنا؟ أية قراءة للمستجدات والتحولات في الضفتين؟ أية أجوبة وحلول..؟؟
وبالطبع، فإن موقع بلدينا كبوابتين متقابلتين لضفتي المتوسط يجعل مسؤولية إسبانيا والمغرب كبيرة إزاء إعطاء التعاون شمال-جنوب طابعه الاستراتيجي، وتعبئة الأصدقاء والحلفاء من كلا الضفتين حوله والدفع به إلى الأمام: بما يقتضيه ذلك طبعا من تقوية المبادلات وتيسير تنقل الأشخاص والبضائع والمعاملات: ولكن أيضا إسناد ودعم المشاريع المجتمعية الديمقراطية، بغاية جعل الفضاء المتوسطي حوضا للسلام والاستقرار والازدهار والديمقراطية، هذا هو المدخل الذي سيسمح بتجفيف منابع ومشاتل الإرهاب وترسيخ قيم التسامح والتعايش واعتبارا لحقائق الجوار الجغرافي ولأحكام التاريخ ، وبالنظر أيضاً لقضايا الذاكرة المشتركة وللروابط الثقافية التي نسجها المغاربة والأسبان في سياق جدلية تاريخية أضحى فيها الراهن والمستقبل يفرضان أسئلة وتحديات من نوع جديد، فإن على إسبانيا والمغرب أن يدركا أنهما تماماً مثل آدم وحواء: إما أن يتزوجا وإما أن يتزوجا! والزواج هنا طبعا معناه التساكن والتعايش والاحترام المتبادل والتعاون والتكامل.