"القوة الناعمة تضمن إجبارًا وإلزامًا غير مباشرين على التغيير، قد تعجز القوة الصلبة عن القيام به. والقوة الناعمة ليست دعاية سياسية، ولكنها سجال عقلي يهدف إلى التأثير على الرأي العام وتحديثه. فخطورة الإعلام تكمن في القدرة على التأثير وبلورة الفكر، الذي يتحكم في تصرفاتنا ويعدل أفكارنا، ويجعلنا نقتبس أحيانًا ما لا يلائمنا ولا يتوافق مع عاداتنا وتقاليدنا، استجابة لطبيعة المرحلة." ميشيل فوكو يخوض تأويل الظاهرة العصبية الاضطرابية، أو ما يسمى لدى علماء العلاج السلوكي والمعرفي ب"الميسوفونيا" لدى الشعوب المسحوقة بتصادمات الحروب وانفعالاتها الداخلية، في حيز زمني يقصر أو يطول حسب الآفات والتوابع والإفرازات المستتبعة لها، (يخوض) نقاشًا محمومًا حول تقاطعيته بالمآلات الحربية وجنون البشرية، أو ما يسميها كلاوزفيتز تحديدًا ب"غوغائية الحرب"، وما ينتج عنها من ارتدادات تتعلق أساسًا بالأخلاقيات والعدالة التناسبية، وتحرير السلطة من وازع الانتقام والحقد وتشويه الحقيقة. وتثير "الميسوفونيا" كمعيار نفسي-اجتماعي وثقافي، في ارتباطه بالواجهة المقيدة للحروب، انشغالات ثاوية في صلب تعاطي الإعلام مع الأزمات المكرسة للفوارق الاجتماعية، واستهدافاته لنظم المعرفة والأخلاق وقيم الإخلاص للهوية والانتماء. إن الحروب الجديدة الآن، وكل النزاعات المسلحة التي تشكل بؤرًا حامية على طول وعرض الكرة الأرضية، هي بالأساس حروب اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، خارج الأنظمة البشرية والقانون الدولي والقضاء. تقوم على فلسفة الهجوم وإعلام "القطيعة الثقافية" والاجتماعية والنفسية المشبعة بامتدادات السياسة، حيث يغيب منطق الأخيرة ويستوعب اقتيادًا مغايرًا لنشر الأخبار الزائفة ("The Fake News")، باعتبارها سلاحًا فتاكًا منصوبًا لتحطيم الوعي الإنساني واستقرار وأمن المجتمعات. يكرس هذا المنحى بروز دراسات تخصصية في "ميسوفونيا الحرب الإعلامية" الجديدة، تقودها أجهزة اختراقية دقيقة، وجيوش إلكترونية جرارة، يكون منتهى أعمالها هو تأبيد الاستراتيجيات المحاصرة للأمن والسلم الاجتماعيين، مع استمرار توتر الخلفيات الأساسية لوقوع الأزمات وانتشارها على نحو يقطع مع التفكير الجماعي واليقظة المجتمعية، والتركيز المستقبلي. وتتملك "الميسوفونيا" تلك أنماطًا إبدالية مخالفة للسياقات المرصودة، تستأثر بمواقع ودراسات ترصد أسئلة الإعلام، ليس فقط في الذهنيات التي تخوض رهاناتها من داخل الثكنات الحربية – فهذه تعمل على إنشاء وحدات استراتيجية لدراسة شروط إنتاج المعلومات قبل وأثناء وبعد النصر، لا سيما وأن استخدام الرقابة الشاملة في مجتمعاتنا الديمقراطية أصبح غير مقبول وأكثر تكلفة على المستوى السياسي من نفعه العسكري – ولكن أيضًا من خارج السياق الحربي، في إدارة وسائل الإعلام للنزاعات، بتحديد عناصر الاستمرارية وعوامل التغيير، ومراعاة بُعدي العلاقة التي تجمع حاليًا بين الحروب ووسائل الإعلام، أي الجيش والصحفيين. ويرى علماء الاجتماع أن استخدام القوة يعني شنَّ حرب على وسائل الإعلام، لا يمنع من شنّ الحرب من خلالها، أو من خلال الدعاية المباشرة، أو من خلال التحكم في التمثلات التي تنقلها. في أوقات الحرب، حيث يصبح مفهوم الصحافة الحرة – الذي يُكلّف الصحفيين المستقلين بمهمة البحث عن المعلومات أو الصور التي قد تكون مخفية – أمرًا لا يُطاق بالنسبة للسلطات المدنية والعسكرية. ومجال حظر معلومات عن الحرب هو بالأساس انسياق خلف أيديولوجية معينة، وإخلال بمنظومة نشر "المعلومات" دون فرض رقابة صارمة على المحتوى. وفي ذلك تصريح مباشر بإبعاد الصحفيين على الأرض عن العمليات، وبالتالي استخدام مبرم للصحافة في نقل خطابات الدعاية، بعد إخضاع رموزها وعلاماتها للرقابة وتعريض الصحفيين للترهيب. ولا يزال هذا هو الحال اليوم في العديد من الوضعيات، وليس آخرها الحرب الإبادية على غزة، حيث تمارس وسائل الإعلام التابعة أو المدجنة – وبخلفيات سياسية وتجارية ولا أخلاقية – أعمالًا مخلة بالأخلاقيات ومشوهة للمعلومات والمعطيات على الأرض. ومن خلالها يتم التغطية على الجرائم الحربية المرفوضة أمميًا والمعاكسة لأدنى حقوق الضحايا والأبرياء المدنيين والجوعى والمعطوبين والمقبورين تحت الأنقاض؟! إن الحرب الإعلامية، أو "ميسوفونيا" الدعاية – كما يحلو للباحث الفرنسي أرنو مرسييه (أستاذ الاتصالات بجامعة باريس بانتيون) أن يسميها – هي جزء من العمل الاتصالي المرتبط بنظم الإعلام واقعًا من وقائع الحرب، مندمجة بالعقائد العسكرية كأهداف قائمة بذاتها. ينتج عنها تفكيك لقيم الإعلام النبيلة، كما تحددها الأكاديميا أو الثقافة التي توظفها في الأدوات الفكرية المشروعة والإنسانية. وهي على هذا المنوال، تشكل بحضورها الإكراهي الجديد حالة ناشزة في أفق التعتيم والتحول الذي أضحى حقل المعلومات يشهده، تحت وطأة تسارع تسلط التكنولوجيات العالية، وتغول جغرافية الذكاء الاصطناعي، وتنامي مخاطره على الأسرة والمدرسة والثقافة المجتمعية. من أجمل ما قرأت في هذا المجال كتاب متفرد للفيلسوف والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي "السيطرة على الإعلام"، يستحضر فيه الوجه الآخر للإعلام المتواري خلف واقع يعري الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي، في انتفاء لوصل الصور التي يزينها للناظرين، ولكنها تعكس الفارق والجوهر الحقيقان بالمعرفة والكشف، وكيف أن الدعاية أو البروباجندا هي السلطة المستحوذة على الشارع أو الرأي العام. يستعرض تشومسكي في كتابه أيضًا – في واحدة من أبلغ الاستعارات السوسيولوجية – قصة الإعلامي القادم من المريخ، والذي أراد به أن يوجد فاعلًا محايدًا يتخذه حكمًا على تناقضات الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها على ما تزعمه "إرهابًا"، بيد أنها تغض الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفًا رئيسيًا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر "السخيف" لشن حربها المُخطَّطِ لها مسبقًا، مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية. ومعها الآليات الدعائية التي تجمل لها أفعالها، وتوطن بإزاء ذلك لا محدودية المؤامرة، وانفضاح السياسات الإمبريالية تجاه أنظمة تم تبييئها وشحنها لتكون وعاءً للسيطرة والقوة فقط؟!