في صباح يوم الجمعة الخامس عشر من غشت، أيقظتني باريس على غير عادتها، فنهضت من فراشي في فندق صغير يطل على شارع هادئ، كأن المدينة قد أطبقت جفونها عن العالم، وأخذت قسطا من السكون لا يعرف له سبب. ألقيت نظرة من نافذتي، فما رأيت إلا أبوابا مغلقة، ومقاهي خلت من روادها، ومحلات كأنها هجرت الحياة منذ زمن بعيد. خرجت أبحث عن بعض الحاجيات، أظن أني أجد في الطريق ما ألفته من صخب العاصمة ونبضها، فإذا أنا أجد صمتا يملأ المكان، حتى كدت أسمع وقع خطواتي على الأرصفة. سألت أول من لقيت: ما بال باريس اليوم كأنها مدينة نائمة؟ فأجابني: "اليوم عيد انتقال مريم العذراء، إنه عطلة رسمية، تحتفل بها فرنسا ومعظم أوروبا الكاثوليكية، ويعرف في بعض بلدان أمريكا اللاتينية". عندها، لم أستطع أن أمنع نفسي من سؤال ظل يتردد في أعماقي: كيف لبلد يفاخر بعلمانيته أن يخلد عيدا دينيا في قلب مؤسساته وقوانينه؟ ولم يكن هذا السؤال وليد لحظة العجب تلك، وإنما كان كامنا في نفسي منذ أعوام، كلما قرأت عن فرنسا، التي ترفع لواء الفصل بين الدين والدولة، ولا تسمح للرموز الدينية أن تتسلل إلى فضائها العام. فإذا بي اليوم أراها تسلم مدينة كاملة إلى السكون، وتغلق أبوابها الرسمية والتجارية، إكراما لذكرى هي في جوهرها عقيدة كنسية. أهو تناقض في المبادئ، أم هو إقرار صامت بأن الهوية الوطنية لا تنفصل عن جذورها الدينية مهما طال بها عهد الحداثة؟ أترى الأمر مجرد إرث تاريخي تحرص الدولة على حفظه، أم أن في أعماق الجمهورية العلمانية اعترافا ضمنيا بحاجة المجتمع إلى رموز روحية تشعره بالانتماء؟ وتتبعت الخيط، فإذا به يقودني إلى القرن السابع عشر، حين كان الملك لويس الثالث عشر يواجه أزمة في وريث العرش، فوقف أمام المذبح، ونذر أن يجعل مريم العذراء حامية لفرنسا إن رزق بولد. استجاب القدر لرجائه، وجعل الخامس عشر من غشت يوما تتوحد فيه المملكة تحت رعاية العذراء. مرت الثورة الفرنسية كريح عاصفة، حاولت أن تقلع هذا التقليد من جذوره، لكنها لم تلبث أن هدأت، فعاد العيد إلى مكانه، كالشجرة العتيقة التي مهما قطعت أغصانها نبتت من جديد. فهل نحن بإزاء رمز وطني تخطى معناه اللاهوتي ليصبح جزءا من ذاكرة الأمة، أم أننا أمام انتصار ناعم للدين على حساب صرامة العلمانية؟ وكلما ازددت تفكيرا، وجدت أن العيد في المدن الكبرى يمر في هدوء، لا تكاد تميزه إلا أصوات الأجراس ومواكب المصلين، أما في القرى والأرياف فيتحول إلى مهرجان شعبي، حيث تختلط الصلوات بالأغاني، والقداديس بالأسواق، والمواكب بالولائم. إنك ترى الناس هناك لا يسألون كثيرا عن عقيدة العيد بقدر ما يفرحون بيوم عطلة يجمعهم. وربما كان هذا المزج بين ما هو ديني وما هو اجتماعي هو ما يمد العيد بعمر أطول من عمر القرارات السياسية. لكنه في الوقت نفسه يترك الباب مفتوحا لسؤال لم أجد له جوابا بعد: أين تنتهي حدود الدولة العلمانية، وأين يبدأ سلطان الموروث الروحي على وجدانها؟ وما زلت، بعد ذلك، أرى المشهد أمام عيني: فرنسا، التي تعلن للعالم أنها جمهورية علمانية لا سلطان للدين على قوانينها، تغلق مؤسساتها ومصالحها إكراما لعيد ولد في حضن الكنيسة. فأعجب لهذا الجمع بين ما يبدو متناقضا: دستور يعلن الحياد، وتاريخ يفرض طقوسه، وشعب لا يرى في الأمر تناقضا بل توازنا. أترى هذه هي براعة الفرنسيين في استيعاب ماضيهم دون أن يتركوا له الكلمة العليا، أم أن الماضي في الحقيقة هو الذي يمسك بخيوط الحاضر؟ ولم يكن هذا العيد وحده الذي نجا من غربال العلمانية، بل هناك أعياد أخرى ذات جذور دينية ما زالت الدولة ترعاها، كعيد الميلاد والفصح. ومع ذلك، لم تنظر فرنسا إليها على أنها اختراق لحيادها، بل اعتبرتها جزءا من التراث الجمعي. وهذا يدفعني إلى سؤال آخر: إذا كانت هذه الأعياد قد حفظت باسم الثقافة، فلماذا لا يعامل غيرها من الأعياد، التي تخص جماعات دينية أخرى، بالمثل؟ أهو معيار الأكثرية التاريخية، أم أن للرموز القديمة حصانة لا يتمتع بها ما سواها؟ ثم إنني أتأمل البعد الاجتماعي لهذا اليوم، فأراه يتجاوز الإيمان الفردي إلى معنى أوسع. في باريس، الموكب الذي يخرج من نوتردام لا يقتصر على المؤمنين، بل يجذب فضوليين وسياحا، وفي الأرياف، الأسواق والمهرجانات تجتذب من لا يعرفون من عقيدة العيد شيئا. لقد صار هذا اليوم مناسبة للتلاقي، ولو على اختلاف النيات والمقاصد. وربما كان هذا هو سر بقاء العيد في ظل الجمهورية، أنه لم يعد ملكا للكنيسة وحدها، بل صار مشتركا بين المذبح والساحة العامة. غير أن هذا الاشتراك نفسه يثير حيرة الباحث في حدود الدولة العلمانية. فإذا كان من حق المجتمع أن يحتفل برموزه، فهل يحق للدولة أن تمنح تلك الرموز عطلة رسمية، وهي تعلم أن أصلها ديني خالص؟ أم أن الدولة، حين تفعل ذلك، تعلن من حيث لا تدري أن الحياد مبدأ نسبي، يخضع لسلطان التاريخ والوعي الجمعي؟ ولعل الجواب، إن كان ثمة جواب، هو أن العلمانية الفرنسية لم تبن لتقتلع الجذور، بل لتقصّ ما يهدد حياد الفضاء العام. أما الجذور التي صارت جزءا من تربة الهوية، فإنها تبقى، كما يبقى الخامس عشر من غشت، يوما معلقا بين السماء التي تعتقدها الكنيسة، والأرض التي تحكمها الجمهورية. وعدت إلى فندقي، والمدينة ما زالت في سكونها، كأنها لم تبرح صباحها. جلست إلى مكتبي، أستعيد ما رأيت وما سمعت، فإذا بي أجد أن سؤالي، الذي ولد على الرصيف الباريسي، لم يبرح مكانه في عقلي. أليس عجيبا أن يجتمع في يوم واحد رنين الأجراس وصمت الإدارات، وبهجة الأسواق وروحانية المذبح، ودولة تعلن حيادها وشعب يفتخر بجذوره؟ فقلت في نفسي: ربما كانت فرنسا تعلم أن الهوية ليست نصا جامدا في الدستور، ولا شعارا يرفع في المناسبات، وإنما هي نهر طويل، تمزج مياهه بين ما جرى من سماء الإيمان وما تفجر من أرض العقل. ومن حاول أن يفصل بين المجريين، ربما أفسد صفاء النهر كله.