في قلب الأطلس المتوسط، يتكرر المشهد نفسه كل صيف: نساء يحملن الدلاء ويقطعن الكيلومترات بحثا عن الماء، شيوخ يتركون بيوتهم عند الفجر، وأطفال يصطفون عند الينابيع والآبار في طوابير صامتة. هذه التفاصيل اليومية تعكس حجم التحديات المرتبطة بتأمين مياه الشرب في قرى إقليمي بني ملال وأزيلال، وتبرز الحاجة إلى تعزيز جهود المؤسسات والسلطات الإقليمية لضمان حقوق السكان الأساسية. صرخة القرى الجبلية.. مطالب تراكمت عقودا صيف 2025 لم يكن مختلفا عن سابقه؛ لكنه حمل معه صرخة أشد وقعا. فقد خرجت ساكنة آيت بوكماز وبوتفردة وإغرضان وأوربيع في مسيرات احتجاجية رفعت شعارات تطالب بالماء والصحة والتعليم والطرق. هذه الاحتجاجات جسدت مطالب متراكمة منذ سنوات، في مواجهة تنمية غير متوازنة تركت الجبال خارج حسابات العدالة المجالية. في هذه المسيرات، بدا المشهد أقرب إلى ملحمة ضد النسيان: نساء يحملن أطفالهن، شيوخ يتكئون على عصيّهم، وشباب يعبّرون عن استيائهم بصوت مرتفع. أحد السكان من دوار إغورضان رفع صرخته قائلا: "وَنَموت آالمخزن، وَنَموتا!"، لتتردد كصدى لغضب الأهالي عبر القنوات المحلية والوطنية ومواقع التواصل الاجتماعي. مشاريع معلقة.. والماء غائب عن الواقع الأدهى هو أن أزمة الماء ليست نتيجة طبيعية للجفاف فقط؛ بل تعكس قصورا في تنفيذ المشاريع المحلية. رشيد المنصوري، برلماني عن دائرة دمنات، أكد أن هذه الاحتجاجات "لم تأت من فراغ"؛ بل هي نتيجة لمشاريع لم تُترجم على أرض الواقع، وهو ما أثر على مسار التنمية في المنطقة. فعاليات مدنية وحقوقية تشير إلى أن التحديات لا تقف عند حدود القصور الإداري؛ بل تشمل التساؤل حول استخدام الميزانيات المخصصة لمشاريع الماء، التي لم تحقق النتائج المرجوة. لذلك، تطالب بفتح تحقيق شفاف وربط المسؤولية بالمحاسبة لضمان ترجمة التنمية إلى واقع ملموس. "حق الماء" في مواجهة التفاوتات الجهوية محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، قال إن أزمة الماء تختزل صورة واضحة لغياب العدالة المجالية، مؤكدا أن استمرار الوضع يحوّل حياة الأسر إلى صراع يومي لتأمين احتياجاتها الأساسية. وأضاف الغلوسي: "غياب شبكة مائية مستدامة وتوزيع عادل للموارد يجعل من الماء أداة لتكريس التفاوتات بدل أن يكون أساسا للكرامة الإنسانية". بالنسبة للساكنة، لم يعد الحصول على الماء مجرد مطلب تنموي، بل قضية وجودية؛ وهو ما جعل عددا من الحقوقيين يعتبرون أن عجز المؤسسات المنتخبة عن ضمان هذا الحق الأساسي يفقدها جزءا كبيرا من مشروعيتها الاجتماعية. شهادات من القمم: العطش والعزلة اليومية في دواوير تنكارف وتفرت ونايت حمزة وقرى دمنات النائية، يقضي السكان ساعات طويلة في البحث عن مياه الشرب وسط طرق غير صالحة. إحدى النساء صرحت: "نستيقظ قبل طلوع الشمس لنملأ الدلاء. الماء صار شغلا يوميا يستهلك حياتنا"؛ فيما قال شيخ مسن: "نحن نطلب فقط ماء صالح للشرب وطريق يربطنا بالمستشفى". الكهرباء لا تزال غائبة عن عدد من الأسر في زمن صار فيه التيار الكهربائي حقا بديهيا؛ فيما يبقى الإنترنيت حلما بعيد المنال بالنسبة للشباب والتلاميذ الذين يجدون أنفسهم معزولين عن العالم، لتظل شعارات "المغرب الرقمي" ووعود تحسين البنية التحتية مجرد عناوين معلقة بلا أثر في هذه المرتفعات. برلمانية تنتقد السياسات الحكومية ثورية عفيف، برلمانية عن حزب العدالة والتنمية، ربطت الوضع الحالي بنتائج السياسات الحكومية التي لم تنصف العالم القروي. وأشارت عفيف إلى أن أطفال بوتفردة يتركون مقاعد الدراسة بسبب غياب النقل؛ بينما يقطع سكان آيت بوكماز ساعات للوصول إلى الطبيب، وأسر أخرى تعاني من انقطاع الكهرباء. وحذرت البرلمانية سالفة الذكر من أن استمرار الوضع الحالي يهدد السلم الاجتماعي في هذه المناطق، داعية إلى الإسراع في إصدار "قانون الجبال" باعتباره إطارا وطنيا ملزما يضمن العدالة المجالية ويضع حدا لزمن الوعود المؤجلة والشعارات التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ. أرقام رسمية تكشف هشاشة البنية التحتية وتؤكد الأرقام الرسمية حجم التحديات: المندوبية السامية للتخطيط تصنف جهة بني ملال – خنيفرة ضمن أكثر الجهات هشاشة بالمغرب، مع فقر مرتفع وانقطاع عن الدراسة في السلك الإعدادي، فيما القطاع الصحي شبه غائب، حيث لا زال المستشفى الجامعي ببني ملال قيد التشييد؛ فيما المستوصفات القروية خاوية من الأطر والتجهيزات. خبراء التنمية يقدمون الحلول والاقتراحات أبرز خبراء في التنمية أن تجاوز الأزمة يتطلب رؤية شاملة تشمل تزويد القرى بالماء عبر استغلال الينابيع وحفر الآبار، إصلاح الطرق لفك العزلة، توفير وحدات صحية متنقلة، بناء مدارس جماعاتية، وتوسيع النقل المدرسي. وأكد هؤلاء الخبراء أن إصدار 'قانون الجبال' أصبح ضرورة لضمان عدالة مجالية حقيقية. جهود السلطات والأمل في المجالس وفي الوقت الذي يظل فيه صوت الجبال شاهدا على الحاجة الملحة إلى تسريع الإصلاحات قبل فوات الأوان، تتواصل جهود السلطات المحلية والإقليمية لتعزيز مشاريع تزويد السكان بالماء وتطوير البنية التحتية، مع بقاء الأمل في أن تواكب هذه الجهود المجالس المنتخبة لضمان تنزيل المشاريع المائية والخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والطرق بشكل فعّال ومستدام، قبل أن تتحول الأزمة إلى مأساة أكبر.