تقديم قضيتُ سنواتٍ بجوار المُركب الرِّياضي الأمير مولاي عبد الله لا أفتح عيني صباحاً من غُرفتي إلا وهو قُبالتي بعيدٌ بعض الشيء لكنه اليوم صار قريباً جدّاً، وأقرب لساكنة العدوتين ولمدينة تمارة. كلما حل الضُّيوف من داخل المغرب وخارجه إلاّ وصعدوا لسطوح العمارات المجاورة له لمراقبة تطور الأشغال به – التي لم تتوقف بالمناسبة – لأن زمن الإنجاز سقفه مُحدد، والتظاهرات الرياضية المُبرمجة لها خاصية العالمية بحجمٍ كبيرٍ لم يسبق له مثيل. استأنسنا بهذه المعلمة وهي في طور التَّجديد بجنوب الرباط عند مدخل المدينة من باب الدَّار البيضاء؛ مدخلٌ تجمَّل وأخذ زينته بما يلزم، بتثبيت – كما هو معلوم – المحطة الطرقية على صورة دلفين، وباستقبال مدرسة تكوين فريق الفتح، وبإعداد الأنفاق من أجل ربط حي الفتح والشريط الساحلي "الكورنيش" بحي الرياض وبباقي الأحياء الشَّمالية للعاصمة. تمَّ هذا الربط عن طريق دوائر يمكن اعتبارها حلقات دولوزية يلعب فيها الحزام الأخضر والفضاءات الرياضة والترفيه الدور المِحوري، لأن الأمر يتعلق هنا بالأنوار، وبصعود الألوان وسط المد الحضري، والغاية تقديم صورة تليق بجماليات المدينة المغربية مهما كانت التضحيات ومهما بلغت المخاطر المُحدقة بمثل هذه الأوراش الكبرى. حل صديقينا عمر بيننا بالعاصمة الرباط قادماً من الدِّيار الكندية مثله مثل العديد من مغاربة العالم، وقبل أن نلتقي بالبيت قام فوراً بجولة حول هذه الأيقونة الفريدة التي وصل صداها للعالم قبل أن يتم افتتاحها رسمياً، ليتأكد بأن المشروع عملاق في تركيبته واستثناء بجودة خدماته، ليس مُنعزلاً بل مُندمجاً يواكب التأهيل العمراني والمجالي الذي تعرفه عاصمة المملكة المغربية مع هذه الألفية الثالثة. المُجمع الرياضي جزءٌ من الكُلِّ تعود مدينة الرباط لتنفتح على مُحيطها بعد سنوات طويلة من الانغلاق على الذات لأسباب احترازية عديدة. ترجمت هذا التحول المشاريع المُنجزة على ضفاف أبي رقراق وعلى الشريط الساحلي المُوازي لأحياء المحيط ويعقوب المنصور. يتجلى المعنى اليوم في القيمة التي يشهدها المجال العام في الإشارة بالواضح للمسبح الكبير كامتداد للبحر داخل اليابسة. وإذا كان الكورنيش يعرف إقبالاً لكل الأعمار، سواء لمزاولة رياضة السباحة والمشي أو التَّبضع، فالسَّاكنة اتخذتْ من هذا الفضاء الفُرصة لمراقبة الغروب والبحث عن لحظات هدوء مع نهاية كل يومٍ. وما يشد الانتباه هي الاستعمالات المتعددة لهذا الفضاء تنتهي عادة بخروج العائلات في نزهة مسائية دون توجس من البحر. لقد فطن المستثمرون لحالة المصالحة مع البحر مما جعل هذا الشريط يحظى بقيمة تبادلية مهمة لينتقل من وظيفةٍ سكنيةٍ هامشيةٍ لوظيفة تجارية وترفيهية جذابة مُستقطبة. وتحوَّلت هذه الدائرة التي تضم المجمع الرياضي الأمير مولاي عبد الله وشريط "الكورنيش" لقطب يُسيل لعاب المُضاربين في مجال العقار. انتهت عمليات التهيئة العمرانية بإعادة إيواء سكان دور الصَّفيح وإعادة توطين بعض المنشآت خارج الحزام الأخضر كإجراءات تدخل ضمن ما يعرف بتأهيل المدينة رغم الصُّعوبات التي رافقت عمليتي الهدم والترحيل. كما أن الحزام الأخضر لوحده قلص من إمكانية التَّوسع، في حين إعادة توطين بعض المرافق من شأنه توفير رصيد عقاري مهم قادر على استيعاب المشاريع المُسطرة في برنامج التأهيل الحضري للعاصمة لتزيدها الحدائق الخضراء الموجودة جمالاً وبهاءً. وتصبُّ هذه المشاريع المُنجزة والمُبرمجة في تعزيز البُعد الثَّقافي الرياضي والسِّياحي للعاصمة مع وظيفتها الإدارية. ولقد سبق لمدن العالم الغربي أن لجأت لمثل هذه التدخلات تجاوزاً للأزمات المُترتبة عن مرحلة نهاية التصنيع. وظلَّت مراكز الحواضر بالشَّمال الأمريكي مثلاً، وإلى وقتٍ قريبٍ، في حالة طبعها التدهور؛ فسادتْ الأوساخ، وانتشر العُنف، وغاب فيها الأمن، وتقلّصتْ فُرص الشغل، وخرجتْ الطبقات الميسورة للضواحي تاركة مراكز المدن للمهاجرين باعتبارهم "آخر من التحق ". فتأهيل المراكز الحضرية مرتبط، بشكل أو بآخر، بضرورة الخروج من الأزمة بعد سنواتٍ عجاف طغى عليها توقف المصانع وإقفالها جرَّاء إعادة توطينها بآسيا وأماكن أخرى بدول الجنوب، حيث توفرت اليد العاملة الرَّخيصة والمُدرَّبة. وبالتَّالي حتَّمت هذه المستجدات المدن الأوربية والأمريكية الانصراف لتطوير قطاعات أخرى كالخدمات البنكية-المالية، والاستثمار في الوقت الثالث والعمل على استقطاب السياح والجمهور كما هو الحال بالنسبة لتنظيم التظاهرات الرياضية. بعبارة أخرى عادت هذه المدن للثقافة والرياضة كذلك كحل للخروج من المأزق. وشرَعَ عُمداء المدن في الترويج لخطاب التنمية المستدامة، وبناء المتاحف ومسارح الفُرجة، والتلويح إعلامياً بجودة الحياة. ولا يمكن فهم ما يقع بالرباط من دون معرفة أسباب النزول وشروط المرحلة التي حتمت الاستثمار في القطاع الثالث بناءً على الموروث الثقافي. تعكس مدينة الرباط هذه الرغبة باحتضانها الأوراش الكبرى المُهيكلة للنسيج الحضري بإشعاع دولي. وتشهد بالتالي تصاعد الدور الثّقافي- الرِّياضي المُتجلي في بناء المتاحف والمسارح والملاعب بوسط المدينة، على حساب بعض المرافق التي يتم توطينها خارج الحزام الأخضر. لقد انخرطت بعض المؤسسات العمومية كذلك في هذه الدينامية، مثل بنك المغرب وبريد المغرب على سبيل المثال لا الحصر، فخصصا أماكن لاحتضان متاحف احتفاءً بالذاكرة وتقديماً لتطور نشاطهما الذي لا يخلو من جمالية وإبداعٍ. استطاعت العاصمة الرباط أن تعود للواجهة الدَّولية في وقت وجيز، قياساً بتاريخ نشأتها، وفي زمن العولمة والمنافسة الغير المسبوقة بين الحواضر العالمية معتمدة في ذلك على رافعة ثلاثية المحاور يمكن تلخيصها، في نظري وبإيجاز شديد في ثلاثة ركائز أساسية: الأول ثقافي- رياضي أعطيت فيه الأولوية للرياضة والفن بتشييد أربعة ملاعب، وإقامة متاحف منها متحف الفن المعاصر، وبناء المسرح الدولي مع إعادة الاعتبار للمدينة القديمة ولقصبة الوداية، وتنظيم مهرجانات بإشعاع عالمي كما الحال مع مهرجان "موازين". فتوج هذا المجهود بتسجيل المدينة ضمن التراث العالمي لليونيسكو سنة 2012، لما تزخر به من مآثر تاريخية متنوعة من الحقبة الرومانية مروراً بالفترة الموحدية، بما في ذلك الموروث الكولونيالي الغني بأشكاله المعمارية خاصة L'art déco . المحور الثاني له طابع بيئي بحيث وجب وضع في الحسبان عدد الحدائق التي تزخر بها العاصمة والتي تؤثث فضاءاتها وترجع في غالبيتها للفترة الكولونيالية كحديقة حسان، وحديقة التجارب، وحديقة هيلتون مع الإشارة لوجود الحدائق ما قبل الزَّمن الكولونيالي كحديقة شالة وحديقة الوداية بطابعها الأندلسي الجميل. كما تجدر الإشارة كذلك للحزام الأخضر بقيمته الإيكولوجية، وكحاجز في وجه الزحف العمراني. كما عرفت هذه المجالات الخضراء في الآونة الأخيرة عدة تدخلات لصيانتها وتهيئتها مع خلق الممرات الخاصة بأصحاب الدراجات الهوائية. فحازت الرباط بذلك سنة 2010 على اعتراف دولي كعاصمة خضراء من طرف برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. المحور الثالث تصب آلياته في تأهيل الحضري الشامل للعاصمة عن طريق القيام بإنجاز مشاريع كبرى مثل تهيئة ضفتي أبي رقراق مع إنجاز "الكورنيش" بمواصفات عالية، وتنفيذ مشروع النقل عبر "الترامواي"، وإنجاز المحطة الطريقة ومحطة القطار أكدال لاستقبال القطار الفائق السرعة، وتوسيع الشوارع وخلق فضاءات كبرى للتبضع. وهكذا انخرطت المدينة في تطوير بنيتها، وتجميل واجهاتها، وتسويق مؤهلاتها، باحثة عن تموقع في سوق الحواضر العالمية. 2- القبض على المعنى يمكن اعتبار التجديد الذي عرفه المجمع الرياضي الأمير مولاي عبد الله بمثابة إبراز لجوانب من معالم الحضارة المغربية. إن هذا الملعب في حُلّته الجديدة ليس ملعباً للتباري فحسب، فهو تُحفة معمارية فنية بطبقات تساعد في توضيح الرؤيا، هو بيت لزواره سواء في حالتي: الامتلاء والفراغ. يمَكِّن والحالة هذه من خوض التجربة الفريدة التي بات يبحث عنها الجميع، وهذا هو ما يُفسر نفاذ التذاكر بسرعة قياسية مِمَّا يستدعي فتحه على طول الأيام لأنه يُغري بالمعاينة وبالمشاهدة والزِّيارة، من الداخل ومن الخارج، ليلاً ونهاراً، خلال إجراء المباريات الرياضية ومن دونها حتَّى. يُمكن القول بأن المجمع الرياضي في حلته الجديدة استعاد توهجاً عالمياً وأصبحت هذه المعلمة المحلية مِرآة لحركية مُجتمعية ومَجالية، ولوحة فنية لها أبعاد ثلاثة: مُعاصرة في التصور والإخراج بحضور التكنولوجيا، تخترقها الحداثة في البنية والوظيفة، وتًلون معالمها الموروث الثقافي المغربي بطابع الهوية البصرية للأصالة والنخوة المغربية. ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوالِ، فصل هذه المعلمة عن الأوراش الكُبرى التي تشهدها المملكة المغربية وعن التأهيل الحضري الشَّامل الذي تعرفه عاصمة الأنوار الرباط التي اختارت المزج بين الثقافة والرياضة والإدارة، وانفتاح البر على البحر والطبيعة، وحُسن استقبال زوار العالم بما يليق بتاريخها الغني وتراثها الإنساني الذي حاز على اعتراف رسمي دولي كما أشرنا لذلك أعلاه. أثبتت المملكة المغربية في عدة استحقاقات قُدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ولم تكن أبداً على هامش التاريخ بل في قلب الأحداث فكراً وفعلاً ورافداً من روافد الثقافة والحضارة الكونية في إطار الاستمرارية ودون قطيعة مع موروثها الثقافي ودورها الانساني وذلك بشهادة كبار الفنانين العالميين والمُبدعين في مجالات الفكر والثقافة والفن والرياضة. سيُعايِنُ المُتتبع لحفل الافتتاح لهذا الملعب أكثر من مباراة، أكثر من صور بصرية، بل سيعيشُ تجربة لقاء الذات المغربية بنفسها وبالآخر على أُسس السلم والروح الرياضية وإرادة الحياة، لأن هذه المعلمة دلالية المعنى تعكس التقاطع والتداخل بين الروحي والمادي، بين المحلي والوطني والدولي بلغة تعبيرية مُحركة لكل الجوارح من أجل لحظة وجدانية لا تُنسى. اختارتْ الرباط أن تتواصل مع عشاق المستديرة والرياضة عامة بواسطة هذه الأيقونة الفريدة التي جمعت بين الطبيعة والثقافة في عدة مناحي منها المكيفات، والإنارة، والنبات، ليشكل هذا المزيج والتنوع خاصية التربة المغربية وطابع صناعتها الضاربة في أعماق التاريخ. باتت صناعة النسيج والسِّلال من الخارج والزليج والخزف في الداخل تؤثث الهيكل المعدني والمرافق الداخلية وأعمدتها الأسطوانية الرشيقة. وتذكرنا اللوحات والصور والأنوار بالتاريخ الإبداعي الإنتاجي الأصيل بحيث تنقل الحضور والمشاهد في رحلة استكشاف للحضارة المغربية على نغمات الموسيقى ومراوغات أشرف حكيمي على الأرض مثل ما كان يفعل المرحوم العربي بن بارك بالأمس؛ إنها باختصار كثافة إبداعية في مجال ضيق. يمكن القول بأننا في حضرة مكان يسمح لجمهوره بالقبض على المعنى، معنى اللقاء من أجل متعة الجسد والروح معاً. خاتمة نصل في ختام هذه الورقة للقول بأن الملعب الأمير مولاي عبد الله في حُلته الجديدة ، هو أكبر من هيكل معدني، فهو خطاب غير مكتوب، طاقة روحانية مشبعة بالأحاسيس تستحضر الذات الحالمة وفُضول الآخر، حضور يقتضي صعوداً للذوق الإنساني؛ فالصناعة التقليدية طابعها متدفق سواقي وقوافي، والفن المغربي منه هذه الألوان والأشكال، والتكنولوجيا فيه حاضرة وبارزة للعيان. أصبحت الرباط بفضل هذا الملعب وبفضل مُنشآتٍ أخرى عاصمة الأنوار حقّاً. إن هذه الأيقونة لا يكتمل وجودها اليوم إلا بالقدوم إليها، للاستمتاع بأحاسيس خاصة تولدها، ولتحية كل من ساهم وشارك في وضع تصورها وقام بإنجازها في ظرف وجيز. لقد ارتوى من هذه الأرض، على مر العصور، مبدعون عالميون وتعلموا الدرس، درس "اليد الخفية" كما حصل مع الفنان التشكيلي هنري ماتيس، ليست اليد التي نادى بها آدام سميث، هي يد الإنسان المغربي والتي لا تحتاج لتفاصيل، فهي تصنع العجب، وتُبدع أجمل الزخارف والفنون، وتطلق البارود، وتعجن الخبز وتحول الطهي لذوق وشعور لتحتفل بالضيوف يوم المناسبات والأعياد ولا تبالي طبعاً بالخصوم.