استرعى انتباهي وأنا أجول بين رفوف الأعداد الأولى للجريدة الرسمية في نسختها الفرنسية منشورٌ تحت عنوان "célébration de la fête du Mouloud à Rabat"، والمناسبة شَرَطٌ، فأبى فضولي إلا قراءته وتحليل بعض مضامينه، لما له من حمولة تاريخية بالنظر إلى تلك الحقبة المهمة من تاريخ المغرب، حيث يختلط فيه السياسي بالديني بالإمبريالي. وتُحيل النظرة الأولى إلى المنشور في جوانبه الشكلية أن الأمر يتعلق بمنشور لا يحمل توقيع أي جهة سياسية ولا إدارية، لكن قراءة أسطره الأولى تحيل على أن المتحدث هو إدارة الحماية الفرنسية، وبالتالي فتحليل هذه الوثيقة يختلف بحسب زاوية النظر والمعالجة (سياسية، قانونية، تاريخية)، لكن تناولنا لها سيكون بشكل مجمل خارج دوائر التخصص. يرصد المنشور طريقة الاحتفال الرسمية التي جرت في أيام 28-29-30 يناير 1915 بالرباط، بحضور سلطان الإمبراطورية الشريفة، والمقيم العام الفرنسي. وهكذا، فقد استهل المنشور بالتأكيد على أن عيد المولد من الأعياد الإسلامية الثلاثة الكبرى، وبعد ذلك تم سرد أحداث الاحتفال الرسمي الذي استمر على مدى ثلاثة أيام. وبتحليل مضامين المنشور يمكننا القول إن هدف الإدارة الفرنسية لم يكن تكريسًا لمناسبة دينية، ولا إعمالاً لنص قانوني أو شرعي، بل كان الهدف الأساسي هو تمرير ثلاث رسائل سياسية: الأولى: متعلقة بخضوع وولاء جميع الأقاليم المغربية لسلطتها، على اعتبار عدد وفود القبائل التي حجت إلى الرباط لمباركة العيد للسلطان في اليوم الأول من الاحتفال، حيث استعمل المنشور تعبير "toutes les régions". كما ميز المنشور بين المناطق التي كانت سباقة للخضوع لإدارة الحماية، وتم ذكرها بأسمائها (الشاوية، الغرب، المناطق السهلية، فاس، مكناس، مراكش)؛ وبين المناطق التي خضعت في وقت قريب (سوس، الأطلس، تادلة، القبائل الأمازيغية لجنوب مكناس)، والتي كانت دائمة الامتناع قبل ذلك "حسب تعبير المنشور". أما الرسالة الثانية: فكانت متعلقة بموقف السلطان من الحماية، حيث حاول المنشور أن يبين أن دار المخزن راضية أشد الرضا عن التدخل الحمائي الفرنسي في المغرب، وهو ما يتجلى في الحوار الذي دار بين السلطان والمقيم العام "كما جسده المنشور"، والذي عبر فيه السلطان عن رضاه التام عن الوضعية السياسية والأمنية التي أصبحت تنعم بها البلاد، وامتنانه لحكومة الجمهورية الفرنسية عن الدعم الذي تقدمه للمغرب. كما عبر السلطان عن سعادته بما تقدمه الفيالق العسكرية المغربية مع الجيش الفرنسي في حربه. وأما بالنسبة للرسالة الثالثة: فمتعلقة بولاء رجال السلطة للإدارة الفرنسية، وهو ما مرره المنشور بالحديث عن حفل الشاي الذي أقامه المقيم العام على شرف قواد المناطق المختلفة، الذين كانت تعابير وجوههم -كما رآها ليوطي إبان تجوله بفضاء الحفل- تعبر عن رضاهم بالتدبير الحمائي الفرنسي "حسب تعبير المنشور". وفضلاً عن ذلك، ختم المنشور هذا السرد بكون الاحتفالات قد مرت في جو من الحماس والبهجة لدى مختلف مكونات الشعب، مستعملاً لفظة السكان الأصليين "population indigène"، مبينًا أن الفئات المسنة عبرت أنها لم ترَ من قبل احتفالات بهذا الحجم وهذا البريق حتى في عهد "مولاي الحسن". إن تحليل هذه الوثيقة التاريخية يتطلب زاوية نظر دقيقة، واستحضارًا لمجموعة من أدوات البحث العلمي التي قد لا يتسع المجال لتوظيفها في هذا المقام، لكن، حسبنا منها إلقاء هذه النظرة الموجزة، التي تبين بشكل من الأشكال كيف امتزج ما هو ديني بما هو سياسي بغية تحقيق غاية واحدة، ألا وهي تكريس سلطة "الانتداب" وتعزيز مشروعية اللا مشروع "الاستعمار" بعد أن تم تعزيز شرعيته. -دكتور في القانون