في هذا العالم، هناك أصناف من البشر لا تحتاج إلى بطاقة تعريف ولا إلى شهادة ميلاد لتتعرف عليهم. يكفي أن تجلس بجانبهم خمس دقائق لتكتشف أنك وقعت في قبضة الكائنات الشفوية التي لا تعير اهتماما للإنصات أو السكوت ولو للحظة وجيزة، ولا تفهم أن الإنسان له أذنان وفم واحد، وأن علينا أن ننصت مرتين ونتكلم مرة واحدة. والحديث هنا لا يهم الذين يهتمون بالتراث الشفهي للوطن بل يخص أناسا يعتبرون الكلام وظيفة وجودية، والثرثرة واجبا وطنيا، والسكوت جريمة تستحق العقاب. لا يملّون من تكرار العبارات، ويدورون بكلماتهم حول مواقفهم وآرائهم كما لو كانت جملهم درّاجات هوائية بلا فرامل. الكائن الشفوي لا يحتاج إلى موضوع. يكفي أن تبتسم في وجهه ليبدأ سلسلة حكايات لا تنتهي، عن الطقس، والجيران، وبطولاته الوهمية، والأزمات العالمية، وحرب روسيا وأوكرانيا، وكرة القدم... ثم يربط كل ذلك، في انتقال غير منطقي، بأزمة المناخ أو الحرب العالمية الثالثة، دون أن يرفّ له جفن. وما إن تحاول مقاطعته حتى يطلق عباراته الدفاعية الجاهزة : "دعني أكمل الفكرة..." (والفكرة عنده أطول من رواية روسية). "أنا فقط أشرح لك... افهمني... افهمني..." (وكأنه بصدد إلقاء محاضرة حول الاحتباس الحراري في ملتقى عالمي). "الموضوع أكبر مما تتصور..." (بينما كان في الأصل يتحدث عن لباس فتاة وطريقة مشيتها). ظاهرة الكائن الشفوي ليست محلية فحسب، بل لها جذور عالمية. إذ يروي المؤرخون أن الفيلسوف الإغريقي ديوجين، الذي كان معروفا بلسانه السليط وطباعه الغريبة، ضاق ذرعا بأحد الثرثارين في أثينا. فما كان منه إلا أن جلس أمامه وراح يأكل الزبيب بصمت. وعندما سألوه لماذا لا يرد على كلام الرجل، أجاب ساخرا : "كما أن الزبيب غذاء الجسد، فإن صمتي غذاء الروح، وأما كلامه فهو عسر هضم للعقل". لا زالت هذه الحكمة القديمة صالحة لعصرنا الحالي. فالكلام الكثير قد يكون بلا قيمة، بينما كلمة واحدة في وقتها قد تعادل كلمات ثرثار لعقد من الزمن. وكما يقول العرب : "إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب". ويقول الفرنسيون : "الطريقة التي نتحدث بها أهم مما نود قوله". سيظل الكائن الشفوي يتكاثر مثل نبات بري في المقاهي، والحافلات، والطاكسيات، والطرامواي والحدائق، والإدارات. وربما نحتاج يوما إلى إدراج سدادات الأذن ضمن قائمة الأدوية الأساسية التي تنصح بها منظمة الصحة العالمية خلال فترات الأوبئة. تنقسم الكائنات الشفوية إلى فصائل فرعية حسب الفضاء الذي تنشط فيه: أولًا: الكائن الشفوي في المقهى (عالم كرة القدم). يتحدث هنا الكائن الشفوي عن المباريات وكأنه المدرب الرسمي للنادي أو المنتخب. يعرف كل تفاصيل البطولات المحلية والأوروبية والمونديالات، ويتنبأ بنتائج الدوري الإسباني والإنجليزي، ويحلّل تشكيلات الفرق... بينما لم يلمس كرة حقيقية منذ حصص الرياضة في الابتدائي. ثانيًا: الكائن الشفوي في العمل (كائن التشكي). يبدأ صباحه بالتشكي وينهي يومه بالتذمر. يتحدث عن قسوة المدير، وظلم الإدارة، وسوء الحظ. لكنه أول من يمدّ يده بحرارة للمدير عند لقائه، ويحرص على نشر صور جماعية مع تعليق: "سعيد بلقاء سعادة المدير من أطيب خلق الله". ثالثا : الكائن الشفوي السياسي (كائن الوعود). صنف يتقن فن الخطابة، يعرف كيف يرفع صوته عند ذكر "الشعب"، ويخفضه عند ذكر "المصلحة العامة". يوزع الوعود كما توزّع الحلويات في الأعراس، ثم يختفي عند أول استحقاق. خلاصته : كلام حاضر، وفعل غائب، وذاكرة المصوّتين عليه قصيرة جدا، كذاكرة سمكة الأكواريوم. رابعا : الكائن الشفوي العائلي (كائن المجالس). يظهر كثيرا في الأعراس، والمآتم، واللقاءات العائلية. يبدأ غالبا حكاياته بعبارة : "باش نكون صريح معاكم...". ثم يشرع في توزيع النصائح على الجميع، من تربية الأبناء إلى إدارة الاقتصاد الوطني. وقد تصلك أخبار من كائن شفوي آخر أن هذا الكائن لم يُحسن تربية ابنه في البيت. خامسا : الكائن الشفوي الافتراضي (كائن الكيبورد). هو نسخة مطوّرة تعيش في "فيسبوك" و"واتساب" وكل زقاق من أزقة مواقع التواصل الاجتماعي. اليوم معك، وغدا ضدك. يغدق التعليقات المطلية بمداد النفاق على تدوينات الحسنوات والأثرياء، ويكتب مقالات طويلة عن أي موضوع بلغة مهلوكة، بل أحيانا بالوزن العروضي دون قصد، رغم أنه لا يحسن العوم في بحور الشعر. وقد تقرأ له جملة كهذه : "كونوتم توريدون أن تاسليبو مني حوريتي". والصحيح : "كنتم تريدون أن تسلبوا مني حريتي" .. رغم الركاكة. هذا الصنف يتحدث عن مواضيع أكبر من فكره وعقله، من انقراض الديناصورات إلى أسعار النفط. وإذا كتبتَ أنتَ جملة قصيرة، يرد عليك بمقال كامل بلغة بلا نحو ولا ذوق، نصفها عامية ونصفها فصيحة غير فصيحة بل فضيحة، غالبا ما تتكون من شبه جمل تبحث عن نفسها في معجم مفقود. وإذا لم ترد، يعود وينشر منشورا جديدا ليستفزك كي ترد ... فلا ترد، وكفاك الله شر النزال الافتراضي. الكائنات الشفوية ليست مجرد ظاهرة مزعجة، بل انعكاس لبنية ثقافية تقوم على المشافهة أكثر من الكتابة. ففي المجتمعات التي يغيب فيها الإنصات الحقيقي، يصبح الكلام وسيلة إثبات وجود لا وسيلة للتواصل. الثرثرة ليست عيبا فرديا فحسب، بل استراتيجية دفاعية ضد الصمت وضد مواجهة الذات. فالصمت مرآة تكشف الحقيقة، والحقيقة غالبا غير مريحة وقد توجع. الكائنات الشفوية لا تنقرض، فهي تنتشر مثل الأعشاب البرية. والفرق بيننا وبين "ديوجين" أننا لا نملك دائمًا ترف الزبيب للهروب من ثرثرتهم، بل نحتاج إلى أسلحة أخرى، كتدريب النفس على فن "الإصغاء الانتقائي"، أو إدراج حصص إلزامية للصمت في المناهج الدراسية. ومن هنا تأتي أهمية ثقافة الإنصات منذ الصغر. ففي المدارس والمناهج التعليمية الحديثة، لم تعد القراءة والكتابة كافية، بل يجب تعليم الأطفال مهارات الإصغاء، كيف ينصتون للآخرين قبل أن يردّوا، وكيف يفهمون ما وراء الكلمات. فغياب هذا التدريب المبكر ينتج جيلا يميل إلى الكائنات الشفوية .. يملأ الفراغ بالكلام قبل أن يفكر، ويعتبر النقاش فرصة لإثبات الذات بدلا من التعلم المشترك. تعليم الإنصات هو استثمار طويل المدى في مجتمع يقدّر الصمت المثمر والكلمة الصائبة، ويوازن بين الحديث والاستماع، ليصبح الحوار فعلا مؤثرًا بدل أن يكون مجرد صخب بلا معنى. حتى ذلك الحين، سيظل الكائن الشفوي يذكّرنا يوميا أن الضجيج أسهل من المعنى، وأن العالم لا ينقصه متكلمون، بل يحتاج إلى مستمعين... وإلى من يجيد الكلام الصائب.