طرفة عين عندما تتسابق المفاهيم في ميدان التربية، ويعلو صهيل الشعارات في كل ساحة صفية، يطل علينا التدريس الصريح كفارس لا يهاب الغبار، يحمل سيف الوضوح وروح المقصدية. إنه أسلوب تدريس لا يكتفي بأن "يُعَلِّمَ" بل يسعى أن "يُفَهِّم"، ولا يرضى بأن يُلَقِّن، بل يوقد في العقول شرارة التبَيُّن. لكن؛ بين طموح الفكرة ونبض الممارسة مسافة تتكسر عندها الرماح، حيث تصطدم ريادة الرؤى بصلابة الواقع، ويتعانق الحلم بالمعاناة في مشهد مدرسي يختلط فيه النظام بالعفوية، والوقت بالضيق، والتخطيط بالمفاجأة... فهل يظل التدريس الصريح مجرد نجم في سماء التنظير أم يغدو شمساً تضيء دروب الفعل اليومي في حجرات الصفوف؟ تلكم هي حكاية التصادم بين الطموح والممارسة، نرويها اليوم؛ لا لنرثي الفارق بل لنفهم الطريق! تقديم على سبيل التأمل في السنوات الأخيرة، تصاعد الاهتمام في الأوساط التربوية المنخرطة في مشروع مؤسسات الريادة بمفهوم التدريس الصريح؛ بوصفه أحد أكثر النماذج "فعالية" في تحسين تعلمات المتعلمين، خاصة في التعلمات الأساس كالقراءة والكتابة والرياضيات. فالتدريس الصريح يقوم على الوضوح والتدرج، والتغذية الراجعة المستمرة، والانتقال المنظم من التعلم الموجّه إلى التعلم المستقل. غير أن الحلم بتطبيقه في الميدان يصطدم في كثير من الأحيان بواقع صفي مزدحم بالتباينات والمهام، وثقيل بالتناقضات والإكراهات، فتبدو المسافة بين الطموح والممارسة أوسع من أن تُختصر في شعار متفائل، أو تكوين عابر! طموحات الريادة بين الطموح والواقع استثماراً لعائد دورات التكوين داخل قاعات التدريس؛ يطمح المعلمون "المناضلون" رواد الممارسة البيداغوجية إلى بناء صفوف دراسية تسودها ثقافة التعلم النشيط والوضوح في الأهداف، والدقة في استراتيجيات التقديم والتقويم. فالتدريس الصريح في جوهره يمثل نموذجاً أسلوبياً منضبطاً وواضح المعالم، يمنح الأستاذ(ة) القدرة على توجيه التعلم بطريقة واعية ومخطط لها، ويمنح المتعلمين والمتعلمات إحساساً بالأمان المعرفي؛ لأنهم – نظرياً – يعرفون ماذا يتعلمون؟ ولماذا؟ وكيف...؟ غير أن هذا الطموح العالي كثيراً ما يصطدم بتحديات ميدانية، منها: ضعف التناغم بين الفاعلين، وكثافة المحتوى والمضامين، وضيق الزمن، وتعدد الفوارق والأوساط، وضغط التقييمات، وضعف المرافقة الداعمة... في واقع الممارسة الصفية بين الفوضى وضيق الوقت في الواقع اليومي للمدرسة المغربية العمومية، يواجه الأستاذ(ة) تحديات متعددة ومتشابكة منها: الشعور بفقدان جاذبية المدرسة وفرص التعبير عن الذات، وتتابع الحصص وضيق زمن الفهم المخصص لها، وتباين مستويات المتعلمين فكراً وسلوكاً، وضغوط التتبع المستمر والمهام المتراكمة إدارياً وبيداغوجياً.. فالأستاذ(ة) وهو يحاول أن يوازن بين سرعة الإنجاز وعمق الفهم، يجد نفسه مضطراً إلى الاختزال وتجاوز الممارسة المتكررة التي يقوم عليها هذا النموذج لحد الملل! فالمُنَفِّذ للحصة يسجل – بما لا يدع مجالاً للشك – أن الممارسة الصفية تتحول إلى تكرار شكلي للخطوات والأهداف والوسائل، دون تحقيق فعلي لمبدأ الانتقال من التوجيه إلى الاستقلالية (من نتعلم ونتعلم معاً إلى أنجز بمفردي)، مما يجعل أثر التعلم محدوداً في الزمن والمستوى، وخاصة مع المتعلمين البطيئين في الأداء والإنجاز. وفي ظل هذه الظروف، يقع الممارس البيداغوجي في مفترق الطرق: بين الرغبة في تطبيق التدريس الصريح بكل خطواته المنظمة؛ وبين الحاجة إلى مسايرة الإيقاع التعلمي للجماعة الصفية. وهنا تتحول أشكال التدخل الصفي من نهج منهجي إلى محاولات متجزئة تفتقد الاتساق والديمومة، فيفقد التعلم وضوحه وتَبهُت روح النموذج التي تقوم على التدرج والتمكن (80٪)... فجوة التطبيق: حين يختلف الإيقاع عن اللحن في خضم سعي الأستاذ(ة) لتطبيق نموذج التدريس الصريح، يظهر تناقض ملحوظ بين شرائح الدروس الرقمية المعتمدة في التخطيط اليومي الهيكلي للحصة – اليوم التربوي – وبين المحطات المنهجية والمبادئ الإثني عشر (12) التي يقوم عليها هذا النموذج. فبينما تُبنى الشرائح على تقسيم زمني صارم يتعامل مع الحصة كأجزاء ميكانيكية متتالية، تقوم المبادئ على منطق دينامي تفاعلي يثبت الفهم ويراعي التدرج المعرفي. وهنا يبرز السؤال المربك: كيف نطبق وضوح التدريس في بيئة تخطيط يغلب فيها الشكل على الجوهر؟ هذا التساؤل يدفع الممارس البيداغوجي إلى الوقوع في فخ الشكلية؛ فينفذ ما ورد في الشرائح وفق التوقيت بدل التفاعل مع مؤشرات التعلم الفعلية. ومن هنا تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في النماذج التخطيطية بمساهمة الممارسين في الميدان – أساتذة ومفتشين – حتى تكون منسجمة مع روح التدريس الصريح لا مناقضة له... أنفاس الريادة في دروب المواكبة والمصاحبة التربوية في قلب العملية التربوية، تكمن الأساسات الحقيقية للنجاح في مواكبة ومصاحبة الأستاذ(ة). فالمُواكبة ليست مجرد مراقبة أو متابعة؛ بل هي دعم مستمر، وتوجيه حكيم، وإشراك في تطوير الممارسة البيداغوجية. والمصاحبة تعني أن يقف إلى جانب الأستاذ(ة) من يُقَدِّر جهوده، ويشجعه على الابتكار، وتعدُّدية الأساليب التعليمية، ويساعده في مواجهة التحديات اليومية في إطار تشاركي قائم على التقدير والاحترام والثقة المتبادلة. أتأمل كيف أن هذه العلاقة – كما عشتها لثلاثة عقود إلى الآن – بين الأستاذ(ة) والمفتش(ة) لا تصنع جداراً من السلطة بل جسراً من التعاون أعمدته المرونة والإنصات وفهم الخصوصيات! ونرى أن التحول نحو التدريس الصريح ليس قراراً فردياً بل مساراً مؤسساتياً، وهنا تكمن أهمية جهاز التفتيش التربوي وأدوار المصاحبة والمواكبة التربوية. ففي قاعات المدارس الرائدة، المواكبة ليست مراقبة أو افتحاصاً، والمصاحبة ليست تقييماً أو أحكاماً؛ بل هي شراكة فكرية ومهنية تعين المزاولين للتدريس على التوازن والتوفيق بين متطلبات النمذجة الرسمية وروح التدريس الصريح. فعندما يشعر الأستاذ(ة) أنه مُصَاحَب ومُوَاكَب، يصبح أكثر حماساً وإبداعاً، وأكثر قدرة على نقل المعارف بطريقة ممتعة تحقق التعلم المنشود، وتتغير بيئة التعلم بأكملها، وتخلق بيئة صفية حقيقية للتجريب الواعي والسعي نحو تغيير الهوية المهنية للمدرسين. وفي هذه الدروب تولد الريادة التربوية، ويرفع شعار التميز في العطاء والاحترافية في التعليم. نحو ثقافة مهنية داعمة للريادة والتدريس الصريح تحقيق التحول المنشود نحو التعليم الصريح، في أفق تعميم المشروع على التراب الوطني ليغطي جميع المؤسسات التعليمية، يتطلب ما هو أكثر من التكوين الفردي والتدريب الذاتي؛ إنه تحول ثقافي بيداغوجي داخل جدران المدرسة والفصول الدراسية. وعلى القيادات التربوية أن تتيح للممارسين مساحات آمنة لتبادل التأملات والممارسات والتجارب والخبرات... وعلى فرق إعداد الشرائح الرقمية المنهاجية والتطوير المهني أن تركز على النمذجة الصفية الحية بدلاً من العرض الآلي والورش النظري، وأن يكون التقييم وصفياً بدلاً من التركيز على الدرجات؛ موجهاً نحو عمق التعلم لا نحو تغطية الكم. التدريس الصريح لا يزدهر إلا في بيئة تؤمن بالتعلم المستمر، وترى في الخطأ فرصة للتقدم؛ لا سبباً للعقاب. وتحقيق هذا يكون عبر تمكين الممارسين في الميدان – المناضلين المهذبين – من فرصة للتفكير والتدخل والمراجعة، فرصة للتفاعل وأنسنة التعليم والتعلم، وفرصة لاحترام الاحتياجات العاطفية للأطفال وليس المدرسية فقط، وفرصة "المعلم القدوة" وليس الإنسان الآلة، وفرصة إعادة الدور القيادي للأستاذ(ة) لتحديد الإيقاع المناسب؛ واختيار الشرح الملائم؛ وتوزيع المهام؛ وتحقيق النجاح خطوة بخطوة، وفرصة توجيه التعلم ليكون ذا تجربة ومعنى. بناء الثقافة المهنية من خلال هذه الفرص سيجعل الأستاذ(ة) يحتضن الإصلاح ويُثَمِّن التجربة، ويحتفي بالمؤشرات الكيفية والسلوكيات المكتسبة. ويسعى لأن يكون قائداً للتعلم لا ناقلاً للمعارف فقط، ولن يتحقق ذلك إلا حين نتصالح مع الواقع بخطوات متزنة ومتتابعة، وبفكر نقدي صادق وإصرار على التطوير... خاتمة: على حافة الصمت يولد السؤال: من يفهم الأستاذ(ة)؟ بناء على ما سبق، يبقى التدريس الصريح نغمة بين الحلم والممكن، نغمة ترقص على أوتار الإرادة وصدق العزيمة؛ فمن أراد أن يعلم بوضوح، فليبدأ أولاً بأن يفكر بوضوح، وليجعل من صفه مسرحاً للعقل لا مرعى للحفظ الأجوف. فليس الصريح من كثر شرحه؛ بل من أبان قصده وأشعل فكر متعلميه، وليس الرائد من رفع شعاراً في الميدان؛ بل من خطا في الصعاب خطوات اتزان وبيان. فلنحول -أيها الممارسون- الصدام إلى انسجام، والطموح إلى إنجاز ماثل في الممارسات، ولنجعل من كل صف منارة، ومن كل درس حكاية ضياء، وفكرة حياة! ولنجعل فهم صانع القرار لعمل الأستاذ(ة) لا يعني الاكتفاء بالنظر إليه أجيراً من خلال الجداول والتقارير والمعايير، بل يعني فهمه ككائن بشري يحمل رسالة، يعيش بين دفتي القلق والطموح، وبين ضغط الواجب وجمال الإنجاز. إنه ليس ماكينة تلقين، بل مُرَبٍّ يصنع المعنى، ومُوَجِّه يزرع القيم، ومُتَرْجِم لأحلام المجتمع في مستقبل أفضل... حين يفهم صانع القرار هذا الدور العميق، يصبح واجبه تجاه الأستاذ(ة) أكثر من تقديم تعليمات؛ يصبح واجبه خلقَ بيئة تحميه وتسانده وتستثمر فيه. فالأستاذ(ة) هو المنظومة حين تبنى على المعرفة والقيم والإنسان. -أستاذ مهتم بالشأن البيداغوجي – مديرية المضيق-الفنيدق