هناك لحظات في التاريخ السياسي تشبه بيت الفرزدق تمامًا: لقد ونمَ الذبابُ عليه حتى***كأن ونيمَه نقط المداد ليس لأن الذباب موجود فعلًا، فالرمزية السياسية أصبحت مكشوفة .. أنظمةٌ لم تعد تحرك يدها لصدّ العبث، بل اكتفت بالتفرّج على ما يتراكم فوق رأسها من فشل متتابع. وفي عالم يُقاس فيه وزن الدول بقدرتها على اتخاذ القرار، خرجت بعض الأنظمة تُهدِّر ما تبقّى لها من هيبة في أسواق الوهم السياسي، تبحث عن حلفاء جدد، تركض خلف القوى الكبرى بحثًا عن موقفٍ يسند رواية سقطت حتى في نظر صانعيها. إننا اليوم أمام مشهد سياسي لا يحتاج إلى تحليل معقّد .. نظامٌ أنفق ثروة شعبه على صناعة خصومة مع التاريخ والجغرافيا، ثم صحا ليجد أن العالم قد حسم الأمر لصالح من كان يسعى لتشتيته. ولأن السياسة لا تعترف بالبكاء على الأطلال، صار الهوان يُكتب بالحبر نفسه الذي كتب به الفرزدق صورة الرجل الذي تراكم عليه الذباب. حين يتحوّل الإنكار السياسي إلى عقيدة إن رفض الأنظمة الاعتراف بأخطائها يجعلها تشبه تمامًا ذلك الجسد الذي لا يطرد الذباب؛ فتتراكم عليه الدلالات قبل الونيم. الإنكار السياسي هو هندسة كاملة للفشل، يبدأ بخبر صغير يُكذَّب، ثم بتقرير يُهاجَم، ثم بقرار دولي يُقلَّل من شأنه، فينتهي الأمر بأن تتحول الدولة نفسها إلى صندوق مغلق لا يدخل إليه نور المراجعة. وفي الحالة التي نعرفها جميعًا، وبدون أن نسمي، بات الإنكار السياسي مدرسة قائمة بذاتها: إنكار أزمة الاقتصاد، إنكار أزمة الطوابير، إنكار تراجع الشرعية الشعبية، إنكار عزلة السياسة الخارجية، إنكار أن العالم تغيّر، إنكار الحدود الحقة للجار وأن الخرائط لم تعد تُرسم بخطابات حماسية، إنكار أن الأممالمتحدة قالت كلمتها بوضوح، وإنكار أن المغرب انتصر دبلوماسيًا في قضية عادلة اعترف بها العالم. هذا الإنكار المتعدد يصنع نظامًا يعيش خارج التاريخ في عالم آخر، يتحرك بردود فعل مرتجفة، ويصير مستعدًا لأن يمد يده لأي زائر أو عابر سبيل يظن أنه قد يمنحه شرعية أو على الأقل يمنحه صورة أمام الداخل. وحين تتراكم الإنكارات، يتحول النظام من لاعب سياسي إلى جسد سياسي ساكن .. وصفه الفرزدق منذ قرون دون أن يدري. دبلوماسية التوهان لا شيء يفضح نظام العالم الآخر أكثر من دبلوماسيته، فحين ترى دولة تغيّر تحالفاتها كل شهر، وتبحث في باريس وواشنطن وبرلين عن قوّة تحيي خطابًا انتهى زمنه، فاعلم أن الخطأ ليس في العالم .. بل في الرواية. إن النظام الذي يراهن على مرتزقة، ثم يبني اقتصادًا سياسيًا على وهم "قضية مصطنعة"، ينتهي به الحال إلى موقف لا يُحسد عليه: يدفع الأموال، ويدفع الوقت، ويدفع سمعة الدولة .. بينما لا يُقدَّم له أي شيء بالمقابل، ولا يجد في النهاية إلا تصريحات بروتوكولية تُترجم سياسيًا كالآتي: "نحن نحترم الشعوب" أو "نشجع الحوار" .. وهي جُمل يقولها العالم حين لا يريد أن يدعم أحدًا. ومع مرور الوقت، تتزايد خسائر الدولة، ويتآكل خطابها، وتفقد قدرتها على صياغة مستقبلها، حتى أصبحت الدبلوماسية عندها مثل رجل يركض خلف قطار تحرك منذ عقود، فيسقط ويُنهك، بينما القطار لا يلتفت. وحين تحسم الأممالمتحدة موقفها بقرار ثابت يحمل رقم 2797، ويُجمع العالم على أن الحل في إطار السيادة المغربية، يبقى خطاب العالم الآخر المشروخ معلقًا كيافطة تآكلت ألوانها، لا يلتفت إليها أحد إلا من ما يزال يعتقد أن العالم لم يتغير. وهكذا يصبح الذباب السياسي كثيفًا .. والسكوت عنه أكثر فداحة. بين حكمة الرباط وتخبّط الآخر الفرق بين الدول ليس في الموارد فقط، بل في القدرة على اتخاذ القرار. فالمغرب – بحكمته المعروفة – اختار طريقًا واضحًا: وضوح استراتيجي، ورؤية ملكية، وصبر دبلوماسي، وبناء تحالفات ذكية وشرعية تاريخية وقانونية. ونتيجة هذه الوصفة ظهر اليوم، اعتراف دولي واسع ودعم أممي صريح وتصاعد وزن المغرب في إفريقيا بل وفي العالم. في المقابل هناك في العالم الآخر من اختار طريقًا آخر: الاستمرار في دعم انفصاليين لا يمثلون إلا أنفسهم، وضخ أموال الشعب في مشروع ميؤوس منه، وصناعة عداوة مع الجغرافيا، وبناء صورة عسكرية بلا عمق سياسي، وافتعال خصومات لإخفاء فشل الداخل في انتظار أن تمنحهم الدول الكبرى موقفًا لم تمنحه قط. حين يجلس المغرب اليوم على طاولة الكبار، يتعامل بهدوء وثقة، بينما يهرول آخرون إلى هذه العاصمة وتلك من أجل خطاب صغير يُهدّئ الداخل لا أكثر. هذه ليست سياسة .. هذا بحث عن طوق نجاة. بين "ونيم الذباب" و"نقاط المداد" لم يكن بيتُ الفرزدق وصفًا بيولوجيًا، بل كان تحليلًا سياسيًا عميقًا. فالذبابُ لا يقترب من الجسد إلا حين يضعف، أو يمرض، أو يتصلّب فلا يتحرّك. وما نراه اليوم هو تمامًا ذلك .. نظامٌ يعرف أنه قد فشل، لكنه لا يتحرّك؛ ويرى أن العالم قد تجاوز روايته، لكنه لا يغيّرها؛ ويشهد أن شعبه يطالب بالإصلاح، لكنه يكتفي بتغيير الوجوه بدل تغيير السياسة. إن المغرب قد كسب الشرعية الدولية بالعمل، بينما العالم الآخر قد خسرها بالضجيج. ولأن السياسة مثل الجسد، حين تتوقف عن مقاومة الخطأ، تتكاثر فوقها الدلالات .. دلالات ليست ذبابا إنما هي تقارير المنظمات الدولية ومواقف مجلس الأمن وحقائق جغرافية لم تعد قابلة للطمس. وهكذا يتحوّل الفشل السياسي إلى "نقاط مداد" على صفحة الدولة، واضحة ومعلنة ولا تحتاج لمن يفسّرها. ختاما .. الدولة التي لا تتحرك دفاعًا عن كرامتها السياسية، سيتكفل العالم بتعريتها. والنظام الذي ينفق ثروة شعبه على وهم، سيجد نفسه يومًا محاصرًا بحقيقته، مهما حاول أن يخفيها. أما الدول التي تصنع مستقبلها، فتفعل ذلك برؤية لا بزعيق، وبحكمة لا بالهروب؛ وبثقة في شرعية تاريخها، لا بالاتكاء على تحالفات ظرفية. وهكذا، حين تعجز الدولة عن إصلاح أعطابها، وتستمر في صمتها الطويل، لا يبقى على كتفيها إلا ما يشبه – كما قال الفرزدق قبل قرون – ونيم الذباب.