في اكتشاف علمي غير مسبوق، أعلن باحثون في جامعة ستوكهولم، بالتعاون مع علماء من جامعة كوبنهاغن، عن نجاحهم في تسلسل أقدم حمض نووي ريبي (RNA) عُثر عليه حتى اليوم، وذلك من أنسجة ماموث صوفي يُعرف باسم "يوكا"، كانت بقاياه مجمّدة في جرف بشمال شرقي سيبيريا. ونُشرت نتائج الدراسة مؤخرا في مجلة Cell العلمية المتخصصة. تتحدى النتائج الجديدة الاعتقاد السائد بأن RNA، باعتباره مادة وراثية بالغة الهشاشة، لا يمكن أن يبقى محفوظًا على مدى آلاف السنين. ويفتح هذا الاكتشاف نافذة جديدة على علم الأحياء القديمة، ويسهم في رسم "ملامح علم الحمض النووي" بشكل أكثر عمقًا؛ إذ يشير هذا المصطلح إلى فهم كيفية عمل المادة الوراثية في الكائنات، سواء من حيث بنيتها الأساسية (DNA) أو آليات تفعيلها ووظائفها (RNA). فالحمض النووي (DNA) يُشبه المخطط الوراثي الثابت للكائن الحي، حيث يخزّن التعليمات الوراثية، بينما يعمل الحمض النووي الريبي (RNA) بمثابة "المترجم الحيوي"، إذ ينقل تلك التعليمات إلى داخل الخلايا ويحوّلها إلى وظائف فعلية، مثل إنتاج البروتينات. وإذا كان DNA لوحة ألوان، فإن RNA هو الفرشاة التي ترسم بها الحياة تفاصيلها الخلوية. في الدراسة، استخرج العلماء مئات الآلاف من شظايا RNA من عضلات "يوكا"، وربطوها بجينات نشطة تتعلق بألياف العضلات البطيئة المرتبطة بالتحمل، إضافة إلى جينات استُدلّ على نشاطها في حالات الضغط الأيضي، ما أتاح افتراضات حول الحالة الجسدية للحيوان قبيل موته. وتشير دراسات سابقة إلى أن "يوكا" قد تعرّض لهجوم من أسد الكهوف قبل أن يُحتفظ بجثته في طبقات الجليد الدائم. يقول البروفيسور مارك فريدلاندر، أستاذ بيولوجيا RNA في جامعة ستوكهولم وأحد المشاركين في البحث، في تصريحه لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية: "يمكن تخيّل أنه كان يحاول الفرار من مفترس حين هوجم... من اللافت أن نرصد هذا النوع من الاستجابة الجينية للإجهاد بعد آلاف السنين." وتُظهر الدراسة أنه، خلافًا للتصورات السابقة، يمكن استخدام RNA لتحليل نشاط الجينات في كائنات انقرضت منذ عشرات الآلاف من السنين، وهو ما يعزز إمكانيات فهم كيفية عمل الأنسجة الحيوية في الماضي. وعلّق الباحث الدنماركي إسكه فيلرسليف، المتخصص في الحمض النووي القديم بجامعة كوبنهاغن، بأن الدراسة تمثل "خطوة مهمة في أبحاث RNA القديم"، مضيفًا أن الفريق البحثي "دفع بالحد الزمني الممكن لاكتشاف RNA عشرات آلاف السنين إلى الوراء". يُعد هذا التقدّم امتدادًا لمحاولات سابقة، كان من أبرزها دراسة نُشرت عام 2019 عن اكتشاف شظايا RNA في أنسجة جرو يشبه الذئب، ويعود عمره إلى 14,300 عام. إلا أن عيّنة "يوكا" تتجاوز هذه النتائج بنحو 25 ألف سنة، مما يعزز مصداقية النهج العلمي الجديد، ويشير إلى احتمالات أكبر لاكتشاف RNA في كائنات منقرضة، شرط وجود ظروف حفظ مثالية، كالتجمّد الدائم أو التجفيف الكامل. وقد أكد الباحث إيميليو مارمول سانشيز، المشارك في الدراسة والباحث حاليًا في جامعة كوبنهاغن، أن هذا الإنجاز لا يقتصر على الكائنات ما قبل التاريخ، بل يمكن تطبيق منهجيته على بقايا العصور الوسطى أيضًا، مشيرًا إلى أن الفريق يأمل في "وضع قواعد وأساليب إرشادية للباحثين الراغبين في خوض هذا المجال." أما الباحث النرويجي غلين جون دنشيا، من الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا، والذي لم يشارك في الدراسة، فقد أشاد بنتائجها، معتبرًا أنها "غيّرت من فهمنا لإمكانات RNA في البقاء عبر الزمن"، وأضاف في تصريحه للصحيفة الأمريكية: "كلما تطورت أدواتنا وتوسعت الدراسات، زادت كمية RNA القديمة التي يمكن العثور عليها، واتسعت رؤيتنا لتطور الخلايا والجينات في كائنات اختفت منذ زمن بعيد." ويخلص التقرير، الذي نشرته "واشنطن بوست"، إلى أن هذا الاكتشاف لا يفتح فقط بابًا لفهم أعمق للحياة القديمة، بل يُمهّد أيضًا لدراسة أوسع لفيروسات RNA المنقرضة، مثل الإنفلونزا أو كورونا، في حال توفرت ظروف الحفظ المناسبة.