خلصت في المقالة السابقة إلى أن النصوص الدينية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ليست المسؤولة البتة عن التطرف والإرهاب، وإنما يلجأ إليها المتطرفون لتبرير ما قد اتخذوه من مواقف وما استحسنوه من اختيارات. أي أن التطرف أو القابلية للتطرف تحدث قبل ملامسة النصوص الدينية، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النصوص، حيث يحاول المتطرف استغلالها في التحفيز وليقنع نفسه ويقنع الآخرين بمشروعية مسلكه الذي كان قد تبناه من قبل. لذلك تجده يعرض عن النصوص والأقوال التي لا توافق ميولاته المتطرفة ويبحث، بل وينقب عن كل ما من شأنه أن يسند توجهاته، وإن كان النص متشابها أوضعيفا أوفيه شبهة. نعم، يجب أن نعمل على نشر الفهم الصحيح للنصوص التي يتغذى عليها المتطرفون، ولكن العمل الأكبر يجب أن ينصب على مرحلة ما قبل النصوص، أي: القابلية للتطرف والأسباب التي تجعل البعض ينحو هذا المنحى المذموم. من الصعب حصر أسباب التطرف في مجال واحد من مجالات الحياة، فمن الأسباب ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو اقتصادي وحتى نفسي، ومن الخطإ التركيز على مجال قد نراه سببا دون غيره، فقد يكون التهميش الاجتماعي والعسر المادي سببا في بيئة ما، ولدى شخص ما، بينما يكون العامل النفسي أو التربوي أو السياسي سببا في بيئة أخرى ولدى شخص آخر. ثم إن من الأسباب كذلك ما هو فكري وما هو خلقي. فالظاهرة تتطلب استقصاء كل الأسباب وعلاجها سببا سببا، بدءا بالأولى ثم الذي يليه. قبل جرد بعض الأسباب أريد أن أقول إن الكثير ممن يتناولون الظاهرة يركزون في الغالب على العاملين الاجتماعي والاقتصادي، فالتهميش والفقر حسب الكثير من الباحثين هما أهم الأسباب. وبحكم تجربتي واستقصائي لبعض حالات التطرف، أرى أن هذا التحليل يفتقد الكثير من الموضوعية. ففي الغرب مثلا، تكاد تكون حال المسلمين متساوية مع غيرهم، ماديا واجتماعيا، وليسوا فقراء أو مهمشين إلى ذلك الحد الذي يولد الأحقاد وردود الأفعال التي قد تتسم بالعنف والإرهاب. بل، وفي الأسرة الواحدة ينشأ الأطفال الإخوة في ظروف اقتصادية واجتماعية متساوية، فإذا بأحدهم ينحو منحى التطرف وربما الإرهاب، بينما لا يحدث ذلك مع إخوته الذين نشأوا معه تحت نفس السقف وفي نفس الظروف. فالتركيز على هذين العاملين وإهمال غيرهما من الأسباب المحتملة لا شك سيؤثر على مدى نجاعة الحلول المقترحة. أما الذين يرجعون الأسباب إلى النصوص الدينية، إما لجهلهم أو لحاجة في أنفسهم، فقد ناقشتهم من خلال المقالة السابقة ولا فائدة لتكرار الموضوع هنا. ومن الأخطاء التي يقع فيها الكثيرون ممن يتناولون الظاهرة كذلك، إرجاع أسباب التطرف إلى الطمع المادي، فيروجون ويلفقون قصصا وتهما من نسج خيالهم ، مفادها أن بعض التنظيمات تغري الناس بالمال لينضموا إليها، فهذا تحليل سطحي وكلام يفتقد أدنى شروط الموضوعية. الذي نراه هو العكس، فبعض المنضمين إلى التيارات المتشددة ضحى بوظيفته، وبعضهم ضحى برغد من العيش كان يتمتع به في بلده، وضحى آخرون بأوطانهم ليلتحقوا بدول ومجتمعات تعاني الفقر والخشونة في العيش، وهم مستعدون فوق ذلك للتضحية بأرواحهم، ثم يأتي أحد ليقول إن الطمع المادي هو السبب في انتمائهم إلى هذا التنظيم المتطرف أو ذاك؟ إن اختلافنا معهم، وشجبنا لما يقومون به من أعمال نرى أنها تخالف الإسلام، لا يجيز التلفيق والكذب والاتهام بغير دليل. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8]. ثم إن العدل والإنصاف في التوصيف والتحليل بعيدا عن العاطفة والميول، أمر ضروري لإيجاد حلول ناجعة للحد من الظاهرة. فما هي أسباب التطرف إذا؟ 1-الرغبة في تقديم شيء للإسلام: من خلال نظرة سريعة على أحوال بعض المتشددين وأي نوع من المسلمين هم، نجد أن معظمهم من المسلمين الملتزمين في الظاهر، المحافظين على الواجبات، التاركين للمحرمات (حسب فهمهم)، يحبون الإسلام ويعملون جاهدين للالتزام به، وهذا ما يصرحون به أيضا. فلسان حالهم كما لسان مقالهم يؤكد أنهم يرغبون في خدمة الإسلام، وأن ما قد نراه نحن في تصرفاتهم تطرفا أو إرهابا وجرما، يرونه هم عبادة ومرضاة لله! أقول هذا ليس مدحا ولا إطراء، ولكن من باب الإنصاف أولا، ثم لنفهم القضية بشكل صحيح، فالفحص السليم شرط في نجاعة العلاج. فالذي يظن أن أولئك الناس يقصدون الإساءة للإسلام مخطئء. فبالعكس، كل ما يقومون به إنما يرون من خلاله أنهم يخدمون الإسلام! وقد يتساءل البعض: كيف يرون أنهم يخدمون الإسلام بالتفجير والقتل والترويع؟ كيف يرى البعض أنه يخدم الإسلام بشيء نرى نحن أنه يهدمه؟ أقول: إن الجواب موجود في تاريخنا الإسلامي، فكما هو معلوم فإن الخليفتين الثالث والرابع للمسلمين، عثمان وعليا رضي الله عنهما ماتا مقتولين، وإن الذين قتلوهم لم يكونوا كفارا وإنما كانوا من أشهر العباد المسلمين، وقد برروا فعلهم الشنيع ذلك بالدفاع عن الإسلام! نعم، قتلوا أفضل رجلين على وجه الأرض في زمنيهما، عثمان وعليا، معتقدين التقرب إلى الله بقتلهما! ولما أوتي بالمجرم الذي قتل عليا- واسمه عبد الرحمان ابن ملجم وكان الرجل من أشد المتعبدين - وأرادوا الاقتصاص منه قال لهم: إني سائلكم ألا تقطعوا رأسي مرة واحدة بل قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى ألتذَّ بتعذيب بدني في سبيل الله جل وعلا! وقال آخر يمدح صنيع هذا الذي قتل عليا رضي الله عنه: يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه *** أوْفى البرية عند الله ميزانا فهذا المعتوه يصف قاتل علي بالتقي، ويمجد الضربة التي قضت على حياته، ويصفها بأنها أريد بها وجه الله، ويحسب القاتل أوفى المؤمنين أجرا عند الله بسبب قتله لعلي! فلا نستغرب بعد هذا إذا ممن يتقرب إلى الله بالذبح والتفجير والحرق على رؤوس الأشهاد ويذكر اسم الله عليه! إن النية الصادقة، والرغبة الشديدة في خدمة الإسلام أمر مطلوب، ولا يلام هؤلاء على حسن نيتهم، ولا على رغبتهم في خدمة الإسلام أبدا، ولكن، هل حسن النية وحده كاف؟ كلا، لا بد مع حسن النية من حسن العمل، واعتبار العمل حسنا أو غير حسن لا يتم تبعا للأهواء والميولات، وإنما باعتبار الضوابط الشرعية. السؤال الذي يجب أن يطرح هو: من الذي يحدد حاجيات الإسلام؟ ومن الذي يحدد الطريقة التي يجب أن نخدم بها هذا الإسلام؟ وكيف أعرف أنا المسلم العادي إن كان هذا الجهد الذي سأقدمه في خدمة الإسلام أم لا؟ وهل هذا الجهد الذي أريد القيام به في سبيل الإسلام جهد في مكانه وزمانه ومن أهله؟ أسئلة لا بد أن يطرحها المسلم الصادق على نفسه قبل الإقدام على أي عمل. فمن القواعد المطردة لدى المسلمين أنه "لا يجوز للمكلف أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه"، والذي له الأهلية في إبراز حكم الله هم الفقهاء الأجلاء، وهم الذين أمرنا القرآن أن نسألهم عن ما لا نعلمه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43 . والذي لا يسأل أهل الذكر، - ولجهله- قد يزين له سوء عمله فيراه حسنا. فمن أدراك أخي الشاب أن هذا الجهد الذي تظنه في خدمة الدين هو كذلك؟ خاصة وأن جمهور الأمة وعلماءها لا يرون ما تراه أنت. إن إسعاف شخص ينزف ويستغيث أمر جيد ومطلوب، لكن الذي يريد أن يسعف يجب أن يتسم بالحيطة والدراية والمسؤولية، وإلا أضر بالمستغيث بدل أن ينفعه. والذي يريد أن ينقذ غريقا لا بد أن يكون ماهرا بالسباحة وطرق الإنقاذ، وإلا أغرق من يريد إنقاذه وأغرق نفسه ولن تشفع له حينها نيته الحسنة. وهذا حال هؤلاء مع الإسلام! يضرونه من حيث يريدون أن يخدموه، ليبقى السؤال المطلوح: ما بال هؤلاء المتطرفيين والإرهابيين لا يسألون العلماء الراسخين في العلم؟ ولماذا لا يعملون بنصائحهم وأقوالهم؟ الجواب على هذا السؤال يحدد السبب الثاني من أسباب التطرف والذي هو: 2- سوء الظن بالمخالف. وهذا ما سأحاول التطرق إليه من خلال المقالة القادمة إن شاء الله. [email protected]