لم يكن برنامج السيد گلحسن بكل ألوانه وأناقته وضيوفه جذريا، على الصعيدين الفكري والتربوي حتى نهاية الحلقة. وهكذا ظل موضوع الغش في المدرسة المغربية قاصرا ،ولم يعط ما كان يرجى من ضيوفه .ففريق وزارة التربية الوطنية حضر بإطار رسمي ، دافع عن سياسة الوزارة بنفس الأسلوب الجاف والمعهود للتوفيق بين المتناقضات والدفع بالتهم خارج بناية الوزارة .أما جيش رجال ونساء التعليم فقد مثله إطار تربوي وإداري سابق كان فمه مغلقا لا ينبس ببنت شفة ضد التيار ، عندما كان وسط المعمعة يدبر الأمور والملفات عن قرب ويتخذ القرارات ، برفقته أستاذة حاولت قدر الإمكان تنزيل مفهوم الغش إلى واقع الممارسة اليومية والدفع به إلى لهب الصراع الخلاق لزعزعة بعض القناعات الرسمية ، فكان صقور النظريات والتشريعات والكلام الجاهز لها بالمرصاد. أما الفريق الثالث فمثله مسؤول عن فيدرالية جمعيات آباء وأولياء التلاميذ الذي كنا ننتظر منه كمسؤول عن شريحة عريضة ممن يعنيهم موضوع الغش ،أي آباء وأولياء التلاميذ ، أن يفجر قنبلة الغش كما تفهمها جل الأسر المغربية أمام المشاهدين بكل صدق وأمانة دفاعا عن نظافة المدرسة المغربية ومصداقية شهاداتها ، فإذا به يطلق هذه القنبلة بانفعال ولكنها قنبلة محشوة بالهواء والأسطوانات المكرورة التي تجشم عناء حملها معه تحت لسانه إلى البلاتو ، كيقين أراحه من عناء الخوض في حمأة واقع الغش الذي تحبل به الساحة التعليمية من القمة إلى القاعدة ، خاصة في الشق الذي يمثل مصالحه.أما الفريق الرابع فأستاذ سابق وصحفي متمرس له اهتمامات بالمجال التربوي تدخلاته كانت امتدادا لتوجهات نقدية معروفة عنه في هذا المجال ،مما أعطانا انطباعا منذ البداية أن هذا البرنامج وغيره من البرامج الحوارية التي تتحدث عن مشاكل وأزمات التعليم وغيره من مشاكل المرافق العمومية الأخرى في بلادنا ، أن الذين يحرقهم وضع البلاد والعباد قلبا وقالبا ، ولا يخافون لومة لائم لامحل لهم هنا . ثم لا ندري كيف يتم انتقاء ضيوف كل حلقة .ولا ندري أيضا لماذا يأتي الضيوف أصلا إلى هنا ،هل يأتون لأستعراض ذواتهم وأناقتهم وبلاغتهم ومعلوماتهم ؟! ولماذا يقلل هؤلاء من جرأة التحليل والتصور والطرح الصادم والمعري للآفات والظواهر ، ويكتفي أغلبهم بالجاهز من الكلام الذي لا يضيف جديدا إلى معارف المشاهد.؟فهل يخاف هؤلاء من الرقابة البعدية والمحاسبة من طرف مسؤوليهم ورؤسائهم ؟ولنسلم بأن وراء هذا التهيب والإحتراز انعدام منديل الأمان ، أليس ذلك دليلا آخر على أن صناعة البرامج الحوارية عندنا و التي من المفروض في طبيعة مواضيعها الثقيلة والحساسة أن تزعزع وتحرك مخدومة وغير محايدة؟ الحق أنه لا يجوز في مغرب الحرية والإنفتاح كما تدعي الجهات الرسمية في الإعلام على أية جهة ، أن تضغط بعض الأعراف والأفكار الخبيثة بسقفها على رؤوس الناس وتسلبهم حق طرح ما يعتقدونه حقيقة بدون مجاملة مهما كانت التوجسات ، خاصة وأن موضوعا مثل الغش المدرسي ينبغي تسريحه وتشريحه، فهو أصبح مصدر إزعاج وتهديد حقيقي لمصداقية أمة ومؤسسات دولة بكاملها وليس لمؤسسة أو وزارة وحدها .وإلا لا داعي لهذه البرامج التي لا تمد المشاهد بما يرفع عنه اللبس ويدفع عنه أسباب الحيرة والخبط والتي تجعلنا بهكذا منطق نفقد الثقة في وسائل إعلامنا وتجعلنا نبدأ من الصفر دائما. إنه غش واعتداء على انتظارات المشاهد الذي لا يريد أن يقع فريسة الثرثرة ، فالبضاعة التي نود تقديمها له أي المنتوج الإعلامي يجب أن تكون هي الأخرى غير مغشوشة، وتعبر تعبيرا صادقاعن أحواله ، أي أن تحدث فيه الأثر نفسه الذي يستشعره في داخله. نعم من حق كل واحد من ضيوف البرامج الحوارية أن يبني تصوره عن موضوع الغش أو غيره من مواضيع الساعة ، من الزاوية التي يراها ملائمة لوضعه ومصالحه ، ولكن على أساس النفاذ إلى عمق المشكل ، ونقده ، وألا نخلط بين طرح المواضيع كظواهر فرضت نفسها على المجتمع كله والتملص من قول الحقيقة بحجة أن الموقع لا يسمح بذلك.كما أن انعدام الشجاعة الكافية للكشف عن حقائق المشاكل والفساد من الداخل ، والتغاضي عنها ساعة نكون مسؤولين مباشرين عنها ،و عندما تنتهي مسؤوليتنا داخلها (الإحالة على التقاعد أو الطرد أو التوقيف ... مثلا ) تنفتح شهيتنا لنقدها وعرضها بتفصيل ، إما بتصريحات أو بتحليلات أو بمذكرات (لاندري صحتها من عدمها ) فهذا سلوك لا يخلو من جبن و غش هو كذلك . إن المحاوِِر والمحاوَر عندنا وسط البلاتو التلفزي والإذاعي ، كما نلاحظ في الكثير من اللقاءات محكوم برقيب حقيقي ومفترض كأصوات زاعقة ومانعة تضايق وتقلق ، يحس معها المرء سواء المحاوِر أو المحاوَرأنه أخطأ موعده مع الحقيقة ، وأنه ذاب في لحظة حوار مزيفة عنها مع الذات ومع الآخر ، و هذا يتناقض جوهريا مع الأعباء والمسؤولية المجتمعية والأخلاقية والمهنية . وهل تبقى للمحاوِر(بكسر الواو ) والمحاوَر( بفتح الواو) السياسي أو المثقف أوالصحفي أوالتربوي أوالجمعوي وغير هؤلاء من مكونات المجتمع المدني، الذين يتقدمون إلى البلاتوهات بمحض إرادتهم بعد استدعائهم، هل تبقى لهم مصداقية حقيقية أمام المشاهدين وهم يتحاورون حول ظاهرة خطيرة تؤرق المجتمع وقد سيج كل واحد منهم لسانه وخياله بسياج سميك ، يحوم حول الحقيقة ويغازلها من بعيد ، دون أن ينتزعها من براثنها ويرشقها أمام الناس في دائرة الضوء ؟ إن المستقصي تاريخ ثقافة الغش ببلادنا بمعناها الحديث ، يعلم حق العلم أنها أي ثقافة الغش بملفاتها وقضاياها وأبطالها وفضائحها ، لم تبدأ مع ورقة االإمتحان وما يرافق عرضها أيام عرسها من هدايا و أكسوسوارات : الحروزة والهواتف والأذنيات اللاقطة من بعيد و التي أصبحت الآن نقطة سوداء بارزة على هامة منظومتنا التعليمية، وإنما ثقافة الغش بدأت وترعرعت في كنف السياسة الفاسدة العامة ، فهي التي دللتها واحتضنتها بالأحضان يا مصالحي، فإلى الإدارة والبيروقراطية المتعفنة بعد ذلك ، ومنها نحو القطاعات الأخرى . فالتلميذ الذي توصلت نفسه إلى الغش كحل لإنقاذ نفسه من ورطة الرسوب واجتياز عقبة النجاح الذي شرعنا له الوسائل والممرات المشروعة لتحقيقه ، منها الإجتهاد واللإنضباط والحفظ والمثابرة طيلة السنة كما جاء الحديث عنه في برنامج مباشرة معكم ، لابد أن مسيرته التعليمية شابتها الكثير من الثغرات والإعوجاجات والإنحرافات منذ الروض أو الكتاب المسيد إلى أن وصل إلى الأقسام الإشهادية ، فلم نقض على هذه الإعوجاجات في حينها وأغمضنا عيوننا عليها فتراكمت وتعقدت.. فلو بادرنا بإحداث تغيير جذري بمقاربة ناجعة شمولية وعميقة ومباشرة مبنية على المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع التلاميذ في الكثير من الأشياء واستشرفنا وتنبأنا ، بالكثير من الحالات التي يطغى عليها طابع الإحباط والتعثر الدراسي، باستحضار كل الأدوات النفسية والسوسيلوجية والدعم المادي الأسري والنفسي والترفيهي والثقافي والإجتماعي ،وساعدنا المدرسة بأطقم متخصصة للكشف عن الخلل مبكرا وتابعنا خطوات صاحبه واقترحنا سبل الإنقاذ ، لأمكن تغيير مسار العديد من التلاميذ الذين هيأتهم ظروفهم الخاصة والعامة إلى السقوط في شرك الغش فحكمنا نحن عليهم بالفشل الذريع والتيه والضياع . فالمطلوب إذن ليس أن تحارب الوزارة الغش بتطبيق ترسانة وأحزم من التوجهات والتعليمات الزجرية الرسمية والأمنية وتجعل جيشا من الأساتذة في مواجهة بوليسية وحربية مع التلاميذ -وإن كان هذا هو الحل الوحيد الممكن إبداعه حتى الآن - ، بل أن نجعل المعني بالأمر أي التلميذ الغشاش يتجاوز هذه العادة أو المعضلة المهينة لشخصه أولا ولأسرته ثم لمجتمعه ، ويقضي عليها تلقائيا بنفسه .وهذا يتطلب إحداث تغيير جذري في المدرسة وفي وبرامجها وأساليب تلقينها وتقويمها وتوجيهها و تطوير عقليات ومستويات المشتغلين فيها واامتدخلين في شؤونها ،و تنظيف محيطها ومجتمعها ،ساعتئذ يجوز لنا التقييم والإنتقاد والمساءلة والمحاسبة . لست أريد هنا أن أدافع عن التلميذ الغشاش الذي ضبط متلبسا بهذه الجريمة فأدانته الإدارة وطبقت عليه القوانين الجاري بها العمل وألتمس له الأعذار ، وإنما الذي أريد أن انبه إليه هو استخلاص المجتمع كله لحقيقة ما فعل ذلك التلميذ الغشاش والذي يراه البعض عملا بطوليا و يراه البعض الآخر عملا خارج القانون معزولا وكأنه نشأ في فراغ. فالغش فضيحة مجتمعية ، تنفلت وتظهر تجلياته على سطح المجتمع يوميا ، مثله مثل العنف، فهو مؤشر على وجود خلل ما ، لم نتوفق نحن جميعا في استدراك وتدارك حركته ودبيبه في الأعماق والتنبؤ بويلاته قبل انفجاره على السطح . ثم إن صورة الغش المستشري في المجتمع أصبحت راسخة في مخيال العديد من التلاميذ ، يستشهدون عليها باستشهادات ومبررات ومعطيات في أغلب الأحيان قريبة من الواقع .لذلك فالصراع بين الوزارة والغش التلمذي سيظل قائما في نظرنا ، ما دام النظر إليه من الجانب العقابي والزجري فقط دون االإعتناء بالجانب الوقائي والتربوي الفعال والمستمر .فنحن على قناعة تامة من وجاهة ما تفعل الوزارة وما يقدمه اغلب الأساتذة من تضحيات خلال هذه الفترة الحرجة ، لكن ما نقصده ونتغياه من موضوعنا هذا هو استنهاض الحس الجماعي ضد الغش كوباء عام ، بكل أنواعه وأشكاله . ومخطئ ألف مرة من يحمل المدرسة وحدها مسؤولية القضاء على هذه المعضلة واسئصالها من جذورها دون أن تكون مكونات هذه المدرسة وتوجهاتها وإصلاحاتها في هذا المجال مسنودة ومدعومة من طرف كل مؤسسات المجتمع.