طفولتكم في انتظاركم أو حكاية ابن الحومة الذي أصبح شخصية مهمة أليس من حق الكاتب أن يحكي عن طفولة الآخرين المتشابكة مع طفولته من دون أن يحتاج إلى ضوء أخضر منهم ؟ وهل لابد من هذا الضوء الأخضر حتى يكتب الكاتب ما يريد ؟ ومتى كان الكاتب ينتظر الإذن من أحد حتى يكتب شيئا ؟ أليس من الجبن والعار أن يكبت الكاتب شهوته ويئد بنات أفكاره حية يرمي بجثتها وأشلائها في الثلث المظلم الخالي من الذاكرة إرضاء للآخرين ؟ وما الذي يضمن للكاتب صحة ومصداقية ما يحكيه عن الآخرين في غيبتهم ؟ ألا تجره لذة الحكي والبوح إلى مسألة أخلاقية قد تودي به إلى وصمه بالتلصص وخيانة الأمانة ؟ وما قيمة تقديس هذه الذاكرة أصلا كإمانة ،إذا لم تكن أفقا مفتوحا على النقد والدراسة والمساءلة عوض الوصاية والإحتكار وثقافة الكتمان ؟ لقد ظلت الذاكرة دائما ساحة حرب وصراع خفي بين من يريدها ذاكرة طيعة خرساء حاضنة على أسرارها من المهد إلى اللحد ضدا على البوح والتنوير والإنفتاح ،وبين من يريدها ذاكرة منفتحة ناطقة شفافة تعيد النظر في نفسها وفي مخزونها بمنحها فرصة الخروج إلى الناس كما هي بدون تحريف أو تزييف أو ماكياج .العديد من الناس ماتزال الذاكرة في نظرهم خزانا عجيبا ومذهلا ولكن للكثير من الترهات والأوهام، تراهم لأبسط نقد لها يزعقون يتشاجرون يتقاتلون بلا وعي دفاعا عن محتوياتها من دون إمعان في صحة هذه المحتويات أو خطإها ، ويعزون هذا التعلق الكبير والهيام الدائم بهذه الذاكرة العاطلة المعطِِّلة إلى أنهم وجدوا رؤوسهم الغضة منذ الطفولة هكذا غارقين عائمين في ضبابها الشيء الذي يمنح هذا النوع من الذاكرات مصداقية الوجود والإستمرارية جيلا بعد جيل . إن كثيرا ممن تعرضوا لمحن ومصاعب في طفولتهم يعتقدون، لا بل يؤمنون أن الذاكرة ملكية خاصة ، مهما تتقاطعت في مخزوناتها مع ذاكرة أشخاص آخرين ، بحكم العلائق الإجتماعية والإنسانية المتشابكة بالصُّدفة والإضطرارية مكانا وزمانا : أي التواجد في نفس الدار والديار بدون اختيار : الجيران ،الحومة ،المدينة ، البادية كإطار مكاني في فترة زمنية خاصة ومعينة..، وأنه ليس من حق أي أحد في نظرهم تحت أية ذريعة أو مبرر التطاول على حرمة هذه الذاكرة وقدسيتها .فالشفافية والبوح السخي عن هذه الذاكرة لا مكان له عند هؤلاء ، أي على من لهم نصيب في المشترك من هذه الذاكرة أن يخيطوا أفواههم وألسنتهم وأقلامهم بخيوط من ذهب ،وهذا ما يجعل مالكي هذا النوع من التصورات والقناعات حول الذاكرة ودورها يعيشون ظروفا نفسية صعبة ، رغم ما قد يُبدون أمام الناس من وسائل الإرتياح والسعادة . فهم متضايقون يتهربون مِن كل مَن وما يُذَكِّرهم بماضيهم ، نظرا إلى عقدة خوفهم الدائم من وقوع مكروه لمحتويات هذه الذاكرة وأسرارها ، وغالبا ما يكون هذا المكروه هو الرعب المتواصل خوفا من كشف الناس واطلاعهم على حقيقتهم الأولى : الطفل المعذب فيهم الذي مافتئ يستفيق ويصرخ داخلهم فيقمعونه أشد قمع بشتى أنواع الإنزياح و الهروب ، معللين ذلك دائما بأن مكانتهم الجديدة في المجتمع الراقي لا تسمح لهم أبدا بأن يسمع الناس عنهم ولو مثقال ذرة من سمعة نفسية مخدوشة أو أقاويل عن سيرة طفولة صادمة مصدومة ، فيتغاضون عن هذه الحقيقة المرة المريرة الشيء الذي يساعدهم في عملهم وحياتهم ويجعلهم في حالة نفسية أفضل . ولنا في بعض الشخصيات والمشاهير المغاربة وغير المغاربة ، المنحدرين من أوساط شعبية فقيرة ، الذين حققوا نجاحات متميزة في العديد من الميادين ، أمثلة حية عن هذا التغاضي .فكثيرون منهم يخجلون من فتح ألبوم ذاكرتهم المتعلق بطفولتهم البئيسة أو المتواضعة ، فيحاولون أن يطووا هذه الصفحة ، وحتى إذا اضطروا إلى فتحها يوما لسبب من الأسباب ، فإنهم يُدخلون عليها بعض التحسينات والرتوشات، مراوغين باذلين أقصى الجهد كي لا يصل بهم الأمر إلى منطقة الخطر : العلبة السوداء .بل وتصل الوقاحة و جنون العظمة المكتسب ، وحمق الإحساس بضرورة التأقلم مع إتكيت الحياة الجديدة حياة الرفاهية بالمعنى المرضي الإنتقامي ببعض هؤلاء إلى التخلص من أسماء عائلاتهم أو تحوير ألفاظها وتركيبها فيأتون لهم بأسماء أكثر تمدنا وشاعرية ، معتقدين أنهم بطي صفحة طفولتهم البئيسة وتزييف حقيقتها وأسمائها هو إقبار نهائي لها مثل النفايات النووية ، وينسون أو يتناسون وهذا هو الصحيح ، أنهم عاشوا وسط الناس ، وللناس ذاكرة وللذاكرة لسان طويل طول بقاء نسل آدم على هذه الأرض ،منه تتناسل الحكايات والأخبار وتندلق متشابكة تمتد عموديا وأفقيا كأنها اللبلاب الزاحف في كل الإتجاهات أو كأنها النهر المتدفق الخالد الجاري إلى الأبد . ثم ليس هناك أي قانون على وجه الأرض يمنع الناس من أن يفتحوا ذاكرتهم ويشرعوا نوافذها ومسامها ليتنفسوا قليلا وليتذكروا بعضهم البعض ، كلما ضغطت على صدورهم نوستالجيا الأيام الجميلة بندائها وثقلها وسحرها .إن الذاكرة الحق لا تمارس نشاطها في الخفاء كأن تشتغل على تجارة الموت والمخذرات والتهريب : تميت العقول وتخذرها وتهرب الأفكار والأسرار وتحنط الأخبار ، خفية في السراديب والممرات والقنوات الظالمة المظلمة .كما أن الذاكرة الحق لا تشغل بالها المناصبُ والجوائز و الإغراءات عن رسالتها مهما كانت قيمتها وتحفيزاتها الداعية إلى إقبار علامات الحق وطمس دلائل الحقيقة مقابل جزاء لأصحابها على فعلهم الشنيع هذا . ولذلك فهي ذاكرة لا تباع ولا تشترى، ذاكرة محايدة لا تجامل حاكما ولا صديقا ولا جارا ولا زوجا ولا ولدا ، ولا تتمسح بأهداب أيديلوجية أو عقيدة حزبية أو دينية أو قبلية .قد نستأنس أونطمئن لصمتها وركودها طويلا مثل اطمئناننا للبراكين الخامدة ، لكنها قد تثور علينا بصُهارتها بدون ميعاد ، لا لتجرفنا بسيل حميمها نحو حتفنا ،وإنما لتوقظنا من غفوتنا وغفلتنا لتقول لنا ولمن هم على شاكلتنا : هيؤوا ْ شراعكم وأسْرِجوا ْ خيلكم وخيالكم وانطلقوا ْ في سماوات البوح الصافي كي تغسلوا عن حيطان ذاكرتكم وعن أبوابها ونوافذها ومسامها وأوراقها صدأ الأيام وغبار السنين ... ونحن هنا عندما وددنا أن نغزو هذه الذاكرة ونفتح بعضا من أمصارها ،ننفض عنها غبار القهر ونغسلها ونطهرها من كوابح الخوف و الخجل وعناكب التردد ونحكي عن طفولة ابن الحومة الذي أصبح شخصية مهمة ،لم يكن لدينا من وراء هذه الغزوة السلمية المباركة أية رغبةأو نية مبيتة لقتل طفولة هذه الشخصية المهمة في ذاكرتنا المشتركة وفضح عيوبها والتلاعب بكرامتها والنبش في أشيائها الخاصة والحميمية كما يفعل الغزاة الجهلاء الموغلة قلوبهم وجوارحهم في ثقافة الدم و الثأر والحسد والشماتة والإنتقام ،وإنما كان الهاجس والباعث لنا على هذه الغزوة وهذا الفتح هو أن نضرب ثلاثة عصافير بحبة قمح واحدة وليس بحجرة قاسية مسنونة ظالمة كما هو متداول ومعروف عند الناس . * أولا : إن الشخص الذي سنتحدث عنه في حكايتنا من خلال الذاكرة مستقبلا أي ابن الحومة الذي أصبح شخصية مهمة ، ربما تتقاطع فصول من طفولته وتتشابه مع فصول طفولات العديد من المغاربة الذي استطاعوا بعزيمتهم الفولاذية أن يقهروا البؤس والفقر والعراقيل النفسية والإجتماعية وحققوا المعجزات ووصلوا المراتب العليا في هرم المجتمع ، الشيء الذي يشكل الحديث عنه أمام الناس مضرب المثل في قوة العزيمة والتحدي ومبعث فخر له ولأمثاله من العصاميين وليس مبعث خجل أوتذمر أو استياء كما قد يتصور البعض منهم . *ثانيا: نود من خلال هذه الحكاية عن واحد من هؤلاء المتميزين الذين انطلقوا من الصفر ونجحوا في حياتهم بعرق جبينهم بأن على رقبتهم وفي ذمتهم جميعا دَيْنُُ ثقيل وجب عليهم تسديده تجاه حوماتهم ومدنهم وقراهم التي ولدوا أو ترعرعوا فيها ، فليس من المقبول أن نولد ونعيش في أحياء ومدن وقرى ومداشر وجبال ودروب شعبية بسيطة ، شربنا ماء سبالاتها ومطفياتها وشلالاتها، ولعبنا فوق أراضيها وبين أشجارها وغيطانها ، وأكلنا خبز أفرنتها، ودرسنا في كتاتيبها ومدارسها وجامعاتها ،وخرجنا من تحت شموسها وأمطارها سالمين غانمين ناجحين في حياتنا ثم نواري عليها وعلى ذكرياتنا مع سكانها الطيبين البسطاء تراب النسيان .فهذا يعتبر في نظرنا قمة الجحود والنكران .نعم قد يقول البعض منا إننا نزورها أي الحومة ،و المدينة، و القرية.و..و..لكن فقط كسائحين غرباء تسخر منا ومن زياراتنا العابرة عيون الأمكنة التي تختزن في صدرها بعضا من حماقاتنا و شغبنا وطفولتنا وأحلامنا .أو نعود إليها كمرشحين في موسم الإنتخابات لاستغلالها مرة أخرى وبشكل آخر ، فتصدمنا بجرحها النازف من نظرات أطفالها وشيوخها ونسائها وشبابها ، تقول لنا كما قالت المطربة نعيمة سميح يوما صادحة ببحة صوتها الجارحة : حتى فات الفوت عاد سولني كيف بقيت ..!! * ثالثا: عندما نحكي فإننا نجد في لذة هذا الحكي وفي هذا الحكي فقط ما يساعدنا على ترميم ولو جزء بسيط جدا من ذاكرتنا المشتركة المعرضة للإهمال والتلف والضياع ، جراء المزيد من القصف الممنهج المؤدي إلى الخرق فالخرم فالخرف .فإذا كان التاريخ هو بوصلة الذاكرة ودليلها كما يقولون ، فإن الحكاية هي دمها وإكسيرها..وعلى الذين يظنون أنهم بمناصبهم وأموالهم وحيواتهم الجديدة ابتعدوا عنا أو تخلصوا منا أي من ذاكرتنا المشتركة كأننا الجرب المعدي ، بعيدا..بعيدا..بعيدا..فعليهم أن يعرفوا أن وجودهم على مقربة منا في هذه الذاكرة المشتركة لآمِنٌ مدعوم يُمَكِِّننا من إن نذكرهم دائما بخير ، وقد حمَّلناهم عبر الحمام الزاجل رسالة مفادها : " أن طفولتكم كما تركتمونها أمانة تنتظركم ...".