يستنكف كثير من الناس تحميل المسؤولية للسلطان عبد الحفيظ العلوي على ما آلت إليه الأوضاع في المغرب الأقصى في عهده، ويعمدون – تضليلا للرأي العام – ذكر محاسنه ومزاياه، ومنها طبع الكتب العلمية على نفقته في المطبعة الحفيظية، وغير ذلك. ونحن لن نغمطه حقه، ولن نبخسه مزاياه، إلا أنها لا تكاد تظهر في بحر مثالبه ومساوئه، ويكفي أن مترجميه لا يكادون يذكرونه إلا بحادثتين اثنتين، أولاهما : اغتياله بطريقة سادية للعالم الناصح سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني، وثانيتهما : توقيعه الحماية مع الفرنسيين. ولكي ندلل على أنه لم يكن ذا نفَس إصلاحي، أنه كان يحيط عرشه ببطانة غير إصلاحية، مثل : ** المدني الكلاوي (شقيق الباشا التهامي) الذي ولاه وزارة الشكايات، (وزارة العدل)، وهو الشخص الذي كان محل تقدير واعتبار من قبل فرنسا، وقد قلدته أوسمتها بطريقة لم تعهد مع غيره، وذلك جزاء على حسن صنيعه معها. ** محمد العربي الكلاوي (نجل السابق) الذي ولاه وزارة الحرب. ** الطيب المقري الذي ولاه وزارة المالية، ولم تحمد سيرته، وصار من أغنى الناس. ** محمد المقري، والد وزير المالية السابق، تقلد منصب الصدر الأعظم لمدة تقارب الأربعين سنة، وهو الذي مهّد للحماية الفرنسية، وبقي وفيا للاستعمار إلى آخر رمق، حيث كان من المغاربة الذين دافعوا عنه في إيكس ليبان. ولست أدري من عيّن هؤلاء في مناصبهم حتى نحمل المسؤولية لغير السلطان المذكور ؟ وتبرئةً لنفسه، قال السلطان المذكور بعد التنازل عن العرش لأخيه : أآمر بالقتال وجل قومي**يرى أن الحماية فرض عين أآمر بالجهاد ومال قومي**تلاشى في لذائذ خصلتين. ولست أدري كيف سيدعو هذا السلطان إلى الجهاد ضد فرنسا وقد عيّن محمد العربي الكلاوي وزيرا للحرب ؟ وهل سيقود هذا الشخص الجهاد ضد أصدقاء والده الذين أغدقوا عليه الهدايا والأوسمة ؟ ولكن السؤال الملح، هو لماذا لم يجعل السلطان ضمن حاشيته المصلحين الذين يغارون على الوطن ويعملون على إصلاح أوضاعه ؟ جرت عادة بعض السلاطين ومنهم عبد الحفيظ أن لا يُدْنوا المصلحين إلى رحابهم، لما فيهم من نصح مزعج، بل عملوا جاهدين على تقريب المداحين، ومنهم الشاعر محمد الناصري الذي أتى به عبد الحفيظ من مراكش ليكون من شعراء بلاطه بفاس. لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن، فدارت الدائرة، وتنازل عن العرش، وبعد ذلك شرع في البحث عن المخلصين، ليبيض بهم صحيفته، وليكتسب منهم شرعية لن يمنحه إياها المداحون، فتقرب من الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني بالمدينةالمنورة كما بينا في المقال السابق، وأظهر له المحبة والمودة، وبايعه على السمع والطاعة، لكنه لما عزم على العودة إلى طنجة، طلب من الكتاني أن يدله على شيخ يتقرب إليه، ويُنسب إلى ساحته، فأرشده إلى الشيخ سيدي محمد بن الصديق الغماري. بعث الشيخ الكتاني من المدينةالمنورة رسالة بتاريخ 19 محرم 1332 ه إلى تلميذه الشيخ ابن الصديق يخبره بتوبة عبد الحفيظ، وأنه يود مصاحبته بطنجة لإرشاده إلى ما فيه صلاح دينه والنجاح في أخراه. لذلك التمس منه أن يقبل أخوته، وأن يعامله معاملة أخص أصحابه. وقبل وصول عبد الحفيظ، كتب الشيخ ابن الصديق رسالة جوابية إلى شيخه الكتاني يشرح له حالة السلطان، وأنه في توبته لم يكن إلا متظاهرا متصنعا، وهذا من فراسة الشيخ التي سيظهر ماصدقها فيما بعد. ما إن وصل السلطان إلى طنجة، حتى بعث رسوله إلى الشيخ يلتمس منه تعيين موعد لملاقاته، ولم يكن الجواب إلا الامتناع والرفض، فظن عبد الحفيظ أن الشيخ ابن الصديق من طينة من كانوا يدورون في فلكه أيام تربعه على العرش، فأغراه بالمال، وأرسل إليه أربعة آلاف ريال، وهو مبلغ تطير له الأحلام حينئذ، لكن الشيخ متشبث بالامتناع، وما كان من السلطان إلا أن يعاود إرسال المبلغ ثانية، ووعده بالزيادة ثالثا، وكان الرسول يتردد على الشيخ يوميا، فما أفلح في تليين موقفه، وقرر السلطان على تغيير الرسول، فدُلَّ على فقيه من فقهاء طنجة ممن يجلهم الشيخ ويحترمهم، ومنحه المبلغ المذكور عسى أن تفلح شفاعته لدى الشيخ ابن الصديق، ومكث الفقيه لدى الشيخ أكثر من ثلاث ساعات يحاوره في الموضوع ويستعطفه، لكن الشيخ متمسك بجواب واحد لا ثاني له : لن أجتمع بمن سلّم المغرب إلى فرنسا، وقتل سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني ظلما ولو فعل ما فعل. لم ييأس "الملك الضليل" من أمل ملاقاة الشيخ الصوفي، فغيّر الرسل والمبعوثين، لكن الجواب لم يتغير، ومع كل هذه المحاولات، فإنه لم يتعرّف بعد طينة الشيخ ومواقفه الصلبة، لذلك حاول إحراجه بموقف قد يلين له البعض ويضعف حياله، فبعث إليه برسالة قصيرة جدا، ومحرجة جدا : "سآتي غدا إلى منزلك، وإذا ظهر لك أن تطردني فافعل". لم يتعرض الشيخ لأدنى إحراج كما توهم السلطان، بل عمل على تغيير استراتيجيته، فأمر أربعة من مريديه أن يلازموا باب المنزل بعصيهم، وأن يصدوا مَقْدَمَه بالقوة، ولست أدري أي إذلال بلغه سلطان في الدنيا أكثر من هذا الإذلال ؟ ولعمري إنه تجسيد وبيان، لما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن الرحمن : "من آذى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة"، وإذا كان هذا في مجرد الإذاية، فما بالك بقتل ولي الله سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني قدس الله روحه. لما علم عبد الحفيظ باستراتيجية الشيخ، وأنه قد يتعرض للأذى من قبل المتربصين به، تراجع عن الحضور خوفا مما لا تحمد عقباه، وبعث إليه برسالة تدل على دهائه وذكائه، بل برهن من خلالها الملك المستعطِف على خطأ الشيخ المستعطَف : "أنت لست أفضل من عبد الله بن عمر، وأنا لست شرا من الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد كان الأول يجتمع بالثاني"، لكن الشيخ الفطن الذكي، اعترف له بأنه أضعف حالا من ابن عمر الذي كان قوي الإيمان، بحكم مصاحبته للنبي العدنان، فاكتسب بذلك ما يكفيه من المناعة التي تحميه حتى من الشيطان، بهذا تخلص الشيخ من ملاقاة السلطان. بعد أن أذاقه ما لم يخطر له ببال من صنوف الهوان. من خلال ما سبق، يتبين لنا الآتي : ** يدني السلطان ويقرب المداحين والمتملقين، لكنهم سرعان ما يتخلوا عنه وعن مدحه بمجرد ما يقبض أيديه عنهم، أو بمجرد تخليه عن العرش. ** لا يتقرب السلطان من المخلصين والشرفاء إلا بعد أن تدور عليه الدوائر، ويفتقر إلى الكرسي والجاه. ** إلحاح السلطان عبد الحفيظ على ملاقاة الشيخ الصوفي سيدي محمد بن الصديق تدل على رغبته الأكيدة في "ترقيع" مكانته الاجتماعية، ومحاولة نسخ صورته السلبية التي ترسخت في أذهان العامة، ومحوها من ذاكرتهم. ** في خطاب عبد الحفيظ الموجه إلى الشيخ ابن الصديق، اعترف له بشرِّه من حيث لم يتفطن، وذلك حين قال له : "أنا لست شرا من الحجاج"، كما أن هذه المقارنة تدل على أن السلطان/المشبَّه يشترك مع الحجاج/المشبه به في وجه الشبه/القتل بدون موجب. وفي هذه المقارنة من الاعتراف ما لا يخفى. وأخيرا، يعتبر السلطان من الباحثين عن مصلحته الشخصية فقط، يظهر ذلك من خلال تعدد ارتماءاته في أحضان الطرق الصوفية، ومرجعياته الروحية، فلما كانت مصلحته مع الطريقة التيجانية انخرط في سلكها، ولما وجد مصلحته مع الكتانية تلقن وردها وبايع أحد شيوخها، ولما وجد مصلحته في الطريقة الصديقية يمم وجهه إليها لولا الرفض الذي لقيه من جناب شيخها المؤسس، الذي تعامل بصرامة مع الاستعمار، وساند المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي في ثورته المجيدة، وورث منه هذه الصرامة والقوة في الصدع بالحق نجله العلامة المحدث السيد أحمد بن الصديق في حركته الثورية ضد الاستعمار في المناطق الجبلية شمال المملكة، وتعرض بسبب ذلك إلى المحاكمة والاعتقال والنفي، مما يدل على مواقف ثلة من الصوفية المعارِضة للاستعمار وممهدي طريقه، بخلاف بعض مشايخ التصوف الذين تحالفوا مع التهامي الكلاوي في تعاملهم الاستثنائي مع المستعمر. Abdel[email protected]