"الأحرار" يكتسح انتخابات فاس الجزئية ويعزز فريقه البرلماني بمقعد جديد    نائبة المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة : المغرب رائد في مجال البحث الزراعي    شراكة مغربية أوروبية.. إعلان عن إطلاق طلب مشاريع لتشجيع الزراعات الإيكولوجية    وزير فلسطيني: المغرب الأكثر اهتماما وعناية بشؤون القدس        رحيمي يفرض نفسه ويطيح ببونو من دوري أبطال آسيا    لمواجهة تدني التعلمات.. إحداث 60 ألف "ركن للقراءة" بالمدارس الابتدائية بالمغرب    ميارة يستقبل فيرا كوفاروفا نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    الجيش الإسباني يدرب الحرس المدني على "الدرونات" قرب الناظور    بطولة العرب لكرة اليد.. الجزائر تنسحب أمام المغرب بسبب خريطة المملكة    الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    الأمثال العامية بتطوان... (580)    أبوعبيدة يتعهد بمواصلة القتال ضد إسرائيل والجيش الإسرائيلي يكثف هجماته في مختلف أنحاء القطاع    الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن "تمجيد الإرهاب" إثر بيان حول حماس    منتخب الهوند الجزائري ما جاش لدونور يلعب مع المغرب بسبب خريطة المملكة وخوفو من الكابرانات    الأديب عبد الرفيع جواهري ضيفا على برنامج "مدارات"    خريطة المغرب تزعج الجزائر بالبيضاء    آيت الطالب: الحوار الاجتماعي في القطاع الصحي حقق العديد من مطالب النقابات    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. المدرب الإسباني أوناي إيمري يجدد عقده مع أستون فيلا حتى 2027    وزير الخارجية الإسباني يؤكد افتتاح الجمارك بباب سبتة    تفتيش شابة على متن حافلة ببني ملال يسفر عن مفاجأة    تداولات البورصة تغلق على "أداء سلبي"    وزير خارجية سيراليون : العلاقات مع المغرب بلغت "مستوى غير مسبوق"    عاجل. حكم قاصح بزاف. الاستيناف طلع العقوبة الحبسية للطاوجني ل4 سنين بسباب شكاية دارها بيه وزير العدل    وهبي لوزيرة العدل ديال الساو تومي فاجتماع دولي: تكلمي السيدة الوزيرة أنت كإمراة عندك الحق تتكلمي عشرين مرة    فرنسا معولة على مخابرات المغرب فتأمين أولمبياد باريس وها شنو گال جيرالد دارمانان    التعليم رجع كيغلي فوق صفيح ساخن. ملف الأساتذة الموقفين غادي بالقطاع لأزمة جديدة وسط رفض نقابي لتوقيع عقوبات ضدهم    وزارة إسبانية: "سيام" من أكثر المعارض الفلاحية الواعرة فشمال إفريقيا    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    آيت طالب: أمراض القلب والسكري والسرطان والجهاز التنفسي مزال كتشكل خطر فالمغرب..85 في المائة من الوفيات بسبابها    جائزتها 25 مليون.. "ديزي دروس" و"طوطو" يترأسان لجنة تحكيم مسابقة في فن "الراب"    ضمن جولة إقليمية.. حموشي يقود وفدا أمنيا مغربيا إلى الدوحة ويتباحث مع مدير "أمن الدولة"    الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية في مستشفيات غزة    مديرية الضرائب تعلن عن آخر أجل لإيداع الدخول المهنية    خارطة طريق فلاحية جديدة بين المغرب وفرنسا    الأقمصة الرياضية التي أرعبت السلطات الجزائرية!    توقعات أحوال الطقس غدا الأربعاء    وزير الزراعة والأمن الغذائي بنيجيريا: "نرغب في تعميق علاقات التعاون مع المغرب في المجال الفلاحي"    أمل تيزنيت يستنكر الأخطاء التحكيمية التي ارتكبت في مباراته أمام جمعية المنصورية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    حرائق الغابات تجتاح عددا من مقاطعات كندا    بكين تنفي "كل المزاعم بتجسس صيني"    أكادير.. الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ من 25 إلى 28 أبريل الجاري    الموت يفجع زوج دنيا بطمة السابق    الذهب ينخفض لأدنى مستوى في أكثر من أسبوعين مع انحسار مخاوف الشرق الأوسط    بنموسى: الأزمة التي عاشتها المنظومة التعليمية شكّلت لنا فرصة للإصلاح    بعد أزمة نهضة بركان.. الاتحاد الدولي للمصارعة يعتمد خريطة المملكة في أقمصة المنتخب    العلاج بالحميات الغذائية الوسيلة الفعالة للشفاء من القولون العصبي    هذه هي الرياضات المناسبة إذا كنت تعاني من آلام الظهر    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و183 شهيدا منذ بدء الحرب    فرنسي يبصق على مؤثرة مغربية محجبة قرب برج إيفل (فيديو)    سعد لمجرد يكشف تفاصيل لقائه بجورج وسوف        الأمثال العامية بتطوان... (579)    وفاة الشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني عن 82 عاما    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    السعودية تعلن شروط أداء مناسك الحج لهذا العام    الأسبوع الوطني للتلقيح من 22 إلى 26 أبريل الجاري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوظيفة الدينية في إطار الملكية البرلمانية
نشر في هسبريس يوم 02 - 05 - 2011

(مساهمة في نقاش مكانة إمارة المؤمنين في الدستور المرتقب)
مقدمة:
تعتبر اللحظة السياسية التي يجتازها المغرب اليوم لحظة تأسيسية بامتياز، تكافئ بثرائها في بعض الجوانب لحظة الاستقلال الوطني وما رافقها من أحداث كبرى، فلأول مرة منذ الاستقلال إلى الآن يتاح للمغاربة وعلى نطاق واسع التفكير في طبيعة الدولة التي ستحضن طموحاتهم وآمالهم في النهضة والتقدم. فدقة هذه اللحظة وقيمتها الإستراتيجية تقتضي إحساسا عاليا بالمسؤولية، وتخليا تاما عن المنطق "السياسوي الضيق"، الذي يقيس المواقف والمبادرات بحسابات الربح والخسارة للذوات، وبالمقابل تطلب اللحظة تثاقفا كبيرا بين السياسة والمعرفة من شأنه تعبئة النقاش السياسي والدستوري الجاري بدلالات إستراتيجية هو بأمس الحاجة إليها.
فهذه المقالة حول الوظيفة الدينية في الدولة المغربية هي محاولة جزئية للارتقاء بالنقاش الدستوري في بلدنا الذي تباينت حوله آراء الفاعلين، إلى نقاش استراتيجي يتجاوز ضيق اللحظة السياسية.
والذي حفزنا على الكتابة حول هذا الموضوع انطلاقا من هذه الزاوية هو التمركز الأيديولوجي الذي بات واضحا، وسمة معظم المقاربات الدستورية-الحزبية التي أفرجت عنها هذه اللحظة التاريخية؛ فالوظيفة الدينية للدولة أو إمارة المؤمنين هي بالنسبة للبعض مرجعية للاستبداد، والتعدي على الدستور والمؤسسات الدستورية كالحكومة والبرلمان..، وبالنسبة للبعض الآخر ضمانة إسلامية الدولة وعنوان هويتها الدينية والتاريخية. وبالتالي وباستقلال عن هذه الأطروحات السياسية، نحن بحاجة إلى أجوبة إستراتيجية وجريئة عن جملة من الأسئلة قبل التورط في إجابات سياسية متسرعة، ومن جملة هذه الأسئلة: كيف تطورت الوظيفة الدينية في الدولة المغربية؟، وما هي أهميتها الإستراتيجية؟، وكيف يمكن تمثيلها دستوريا، استنادا إلى حقيقتها السياسية ووزنها الإستراتيجي؟.
نظرة موجزة حول تطور الوظيفة الدينية في الدولة المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم:
إن تطور الوظيفة الدينية في الدولة المغربية موضوع طريف وحيوي في هذا السياق، وتقتضي ملاحظة هذا التطور ومتابعته تسليط الضوء على الاهتمام الحكومي بالشأن الديني من خلال وزارة الشؤون الإسلامية وغيرها من المؤسسات والجهات، منذ تشكيل أول حكومة مغربية وإلى اليوم؛ فقد شكل السلطان محمد الخامس أول حكومة سنة 1955م، ولم يكن بين وزرائها حينئذ وزيرا للشؤون الإسلامية، وبقي الاختصاص الديني مدة ست سنوات تقريبا وحتى سنة 1961 مفرقا بين وزارتي الأحباس والعدلية، حيث ستظهر ولأول مرة وزارة الشؤون الإسلامية التي تولاها الزعيم علال الفاسي، وأريد لها –آنذاك- أن تضطلع بمهام الرد على فئتين تعاظما نفوذهما في المغرب حسب الزعيم علال: «فئة جامدة تأبى أن تتفهم حقائق الدين وأسسه الصالحة...، وطائفة أخرى أهمها أمر الماديات وهالها ما عليه غير المسلمين في الغرب من تقدم عظيم فحسبت أن ذلك كله من التخلي عن الروح».
فهذه التحديات التي عبر عنها علال الفاسي، واندفع لمعالجتها انطلاقا من مسئوليته في وزارة الشؤون الإسلامية الحديثة دلت موضوعيا على الحاجة إلى تدخل الدولة في المجال الديني في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ المغرب، ومنذ ذلك الحين أمسى الشأن الديني وظيفة قارة في بنية دولة الاستقلال، وبعد سنوات قليلة من تأسيسها.
وبالتزامن مع هذا التطور، وعلى الصعيد القانوني، تمت دسترة الصفة الدينية للملك، وتضمين دستور المملكة سنة 1962 عبارة «الملك أمير المؤمنين..»، وقد جاء هذا التطور مواكبا للتدخلات الدينية للدولة الآخذة في الازدياد ومكملا لها، سواء من خلال وزارة الشؤون الإسلامية، أو من خلال تصرفات الملك ومواقفه وقراراته.
وستتلاحق تطورات الوظيفة الدينية للدولة في عهد الراحل الحسن الثاني تبعا لتطور الأحداث وما استجد من تحديات، فبعدما كانت وظيفتها الأساسية في البداية مواجهة التخلف الديني والانغلاق، ومحاربة التغريب، وخاصة موجة الإلحاد، أمست في بداية التسعينيات مهتمة أكثر بمواجهة التطرف الإسلامي والحركات الإسلامية، وأخذت في استدعاء ثوابتها المذهبية المهملة منذ عقود، وعلى رأسها المذهب المالكي، واستجمعت قواها للتمكين لها في المجال الديني.
لكن في بداية الألفية الثالثة ومع بلوغ الملك محمد السادس سدة الحكم، عرفت الوظيفة الدينية قفزات نوعية، تجسدت أساسا في العمل الجاد وبكافة الوسائل على تأميم الحقل الديني وشرعنة احتكاره من طرف الدولة، والإقصاء الممنهج للفاعل الديني المدني، وترسيخ ما اصطلح عليه إعلاميا "بالإسلام المغربي" القائم على الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد، وتعززت هذه الاختيارات بصرح مؤسساتي ضخم تجسد في المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، والتوسع الوظيفي والترابي للشؤون الدينية... إلخ.
انطلاقا من هذا الرصد المختصر لتطور الوظيفة الدينية للدولة المغربية منذ الاستقلال وإلى اليوم، يمكن التنبيه إلى مجموعة من العناصر ذات الصلة بالنقاش الدستوري:
1- إن بروز الوظيفة الدينية في بنية الدولة المغربية، ارتبط بمثيرات وحوافز موضوعية، تمثلت في جملة من التحديات الدينية التي شهدها المغرب بعد الاستقلال، ولم تكن هذه الوظيفة اختيارا استراتيجيا أملته نظرية سياسية معينة، وقناعات فكرية محددة، فسواء علال الفاسي أو عبد الكريم الخطيب وهما يقترحان على الملك إضافة فصل «الملك أمير المؤمنين» للدستور، لم يقصدا أبدا تمكينه من صلاحيات فوق دستورية، بقدر ما كان قصدهما تمكينه من لقب رمزي، يعبر عن أصالة الدولة المغربية وطابعها الإسلامي، ووضع الملك في المقام اللائق به إزاء الوظيفة الدينية للدولة.
2- إن الدلالة التشريعية والاستبدادية ل «الملك أمير المؤمنين» التي جاء بها دستور 1962م، لم تكن من المقتضيات البديهية للنص الأصلي، ولكنها دلالة طارئة ولاحقة، اقتضاها الصراع السياسي الحاد بين الملكية وخصومها من اليساريين في البداية وبعض الإسلاميين في النهاية.
3- إن الدستور الحالي لا يعكس أبدا المكانة الوظيفية والسياسية التي احتلتها إمارة المؤمنين في حياة المغاربة في عهد محمد السادس، وهو ما يقتضي مراجعة شكل ومستوى حضورها على صعيد الدستور، بما يناسب هذه المكانة ويرشدها.
الأهمية الإستراتيجية لإمارة المؤمنين في الدولة المغربية:
- يشكل الإسلام في المغرب وفي سائر البلدان الإسلامية بعدا أساسيا من أبعاد الحياة الجماعية للمسلمين، لا يقل أهمية عن الأبعاد الأخرى الاقتصادية والاجتماعية...، وباعتبار هذه المكانة يفرض نفسه كموضوع سياسي على الدولة ومؤسساتها، وقد أظهرنا فيما يتعلق بالتجربة المغربية من خلال الفقرة السابقة أن اهتمام الدولة الوطنية بالشأن الديني جاء متأخرا عن الواقع، أو بعبارة أخرى إن إدراك الدين كموضوع سياسي في دولة الاستقلال جاء متأخرا مقارنة بإدراكها للقضايا والمواضع الأخرى، ويدل هذا التأخر من الناحية الإستراتيجية على مركزية المسألة الدينية وحيويتها في المجتمع المغربي، فتداعيات التدين الإسلامي تتجاوز الذوات إلى واقع الحياة وتفاصيلها.
فإمارة المؤمنين من هذه الزاوية هي اختيار سياسي إستراتيجي يتلاءم مع خصوصية المجتمع المغربي باعتباره مجتمعا مسلما في غالبيته الساحقة، وأي خلل على مستوى وظائفها يهدد الأمن الروحي والاستقرار السياسي للبلد.
- شهدت شرعية الدولة العلوية في المغرب منذ تأسيسها تطورات جزئية، أملتها التحولات التاريخية والسياسية التي مرت بها على مدى أزيد من أربعة قرون، غير أن أبرز تطور شهدته هذه الشرعية هو الذي حصل بعد الاستقلال وتحديدا سنة 1962، حيث تقوت الشرعية الدينية للملكية المغربية القائمة على البيعة بشرعية سياسية أخرى قائمة على دستور تم إقراره من خلال استفتاء شعبي مباشر، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل تحديث الشرعية من خلال دستور مستفتى حوله ينسخ الشرعية الدينية أم يتعايش معها؟.
إن هذه الازدواجية على مستوى الشرعية السياسية للمملكة المغربية، هي نفسها الازدواجية التي تمزق ذاتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية...، ويتردد صداها في كافة مناحي الحياة، ويقتضي القضاء عليها بناء نموذج سياسي حضاري، ونظرية سياسية أصيلة، تحل بواسطتها الشرعية الدينية ضمن الشرعية الحديثة، بتأويل فقهي يرضي مشاعر المتدينين، كأن يصبح الاستفتاء على الدستور هو عين البيعة الشرعية مثلا.
لكن غياب هذه النظرية الأصيلة، واستمرار مظاهر التمزق على مستوى الوعي السياسي المغربي بين أنصار الشرعية الدينية وخصومها من جهة، والقناعة المشتركة لدى سائر الفاعلين بضرورة الحفاظ على الاستقرار السياسي وعدم تعريضه للخطر وذلك بالحفاظ على شرعية الدولة من جهة ثانية، يعلل من الناحية الإستراتيجية استمرار الشرعية الدينية للنظام المغربي القائمة على البيعة بالتوازي مع الشرعية الحديثة، ويعلل أيضا الوجود الدستوري لأمير المؤمنين.
- إن مجال تدبير الشأن العام كما يبدو من خلال اجتهادات فقهية عديدة، وكذلك من خلال فتوى المجلس العلمي الأعلى (2005) حول "المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام" هو مجال تدبير المصالح المرسلة والعناية بها، ويشكل هذا التعريف أساسا إستراتيجيا لفصل نسبي بين الديني عن الزمني في التجربة المغربية، ومرجعية لتوسيع مجال الديمقراطية السياسية؛ فالمجال السياسي استنادا إلى التعريف السابق يسع جميع الرؤى والمقاربات: ليبرالية، واشتراكية، و"إسلامية"، وهو موضوع السياسات الحكومية المختلفة، أما المجال الديني الذي تتحقق فيه الوظيفة الدينية هو مجال للثوابت فقها، وعقيدة، وأخلاقا، ويجب أن يستقل تدبيره عن تدبير المجال الزمني.
فإمارة المؤمنين في هذا السياق ومن الناحية النظرية هي مؤسسة لتدبير الوظيفة الدينية للمملكة بما يحمي الثوابت في المجالات المختلفة، وهي كذلك إحدى الصيغ الممكنة للفصل النسبي بين الديني والسياسي، فصلا يؤكد الاتصال بينهما على أساس فتوى المصالح المرسلة والاجتهاد الفقهي عموما. وتعتبر هذه الصيغة أفضل الصيغ العملية، التي تحل مشكلة الوظيفة الدينية في إطار الدولة الحديثة، دون أن تطالب أي من الأطراف بالتنازل عن قناعاته الفكرية أو السياسية، فهي تجيب كل طرف باللغة التي يفهمها ويجيدها. فبهذا الأسلوب يمكن تجنب التمزقات السياسية الداخلية التي تتخذ عادة مطية لتأجيل الديمقراطية، والتهرب من استحقاقاتها.
إمارة المؤمنين في إطار "الملكية البرلمانية":
إن حضور إمارة المؤمنين أو الوظيفة الدينية في الدستور المرتقب يجب أن يعكس مكانتها السياسية وأهميتها الإستراتيجية، وأي تجاهل دستوري لهذه المكانة والقيمة من شأنه إفقاد مشروع الدستور التوازن الضروري بين وظائفه السياسية، وتوتير العلاقة بين الديني والسياسي على صعيدي الدولة والمجتمع.
لقد شهد العقد الأول من حكم الملك محمد السادس توسعا كبيرا في المؤسسات التي تعنى بالوظيفة الدينية ومهام إمارة المؤمنين، بشكل يناسب مكانة الدين لدى المغاربة، واستند هذا الورش التوسعي إلى الفصل 19 من الدستور؛ فالملك باعتباره أميرا للمؤمنين يجوز له إنشاء ما يراه مفيدا للقيام بمهام الإمامة العظمى وصونها، غير أن التساؤل المشروع في هذا السياق: هل يجوز أن تبقى الوظيفة الدينية للدولة المغربية أسيرة الفصل 19 بتخريجات مختلفة؟، ألا يمكن تعزيز هذه الوظيفة دستوريا بنصوص أخرى تنسجم –على الأقل- مع ما هو موجود في الواقع؟ ثم، هل هناك فرصة لتحديث الوظيفة الدينية للمملكة؟.
تظهر المذكرات التي تقدمت بها أبرز الأحزاب الوطنية أمام لجنة تعديل الدستور وعيا حادا بسلبيات الفصل 19، وحاولت في اقتراحاتها تجاوز هاته السلبيات، وذلك بحصر سلطات إمارة المؤمنين في تدبير الحقل الديني، ولم نقف في هذه المذكرات على مشاريع نصوص تعزز الوظيفة الدينية باستثناء ما جاء في مذكرة حزب العدالة والتنمية وبعض الجمعيات الدينية الأخرى التي دعت إلى دسترة المجلس العلمي الأعلى، والتنصيص على استقلالية العلماء...
إن ما يدعو للتأمل النظري انطلاقا من هذه الاقتراحات هو الإلحاح الشديد للفرقاء السياسيين على اقتسام السلطة مع الملك في السياسة المدنية من منظور الملكية البرلمانية، في حين سلمت له بممارسة مطلق السلطة في المجال الديني، ولم تسهم ولو بالقليل في تحسين الوظيفة الدينية للدولة أو دمقرطتها. فإذا كان المبدأ المؤسس لشرعية المطالب الديمقراطية لدى الكثيرين هو الربط بين المسؤولية والمحاسبة، فهل ممارسة السلطة الدينية استثناء يخرج عن هذا المبدأ؟.
فأمير المؤمنين في معظم الاقتراحات الدستورية مسئول عن حماية الدين، وتدبير الحقل الديني، والضامن للأمن الروحي...، وهذه المهام شأنها شأن المهام المدنية الأخرى منوط تحقيقها بسياسة متكاملة، وحكامة دينية جيدة، وشفافة..، وهي أيضا تتأرجح بين النجاح والفشل، وعرضة للأخطاء والتجاوزات، وخاصة من لدن المفوضين من طرف جلالته للقيام بهذه المهام، وبالتالي وحتى لا يعود الفشل الممكن للسياسة الدينية سلبا على الشرعية الدينية لأمير المؤمنين لابد من إعمال مبدأ المحاسبة أيضا في الشأن الديني، والسعي لدمقرطته.
إن صون مقام إمارة المؤمنين والحفاظ على دوامها واستقرار شرعيتها يقتضي شجاعة سياسية ودستورية توسع من مجال المشاركة والديمقراطية في الشأن الديني، ففي السنوات القليلة الماضية كانت "الحراسة الدينية" في المملكة موزعة بين جهتين رئيسيتين: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وهاته الجهات مسئولة –فقط- أمام أمير المؤمنين، ولم يسمح لأي جهة مدنية كانت أو سياسية مشاركتها هذه الوظيفة.
ومن ثم، فالتحول العميق الذي يشهده الاجتماع السياسي المغربي من جهة، والحاجة إلى الحفاظ على الهيمنة الروحية لإمارة المؤمنين من جهة ثانية، تستدعي إعادة موضعة الوظيفة الدينية بين مؤسسات الدولة. ومن التعديلات الضرورية التي تدخل في هذا الباب: إعفاء الحكومة من الوظيفة الدينية، باعتبار هذه الوظيفة مما يستقل به أمير المؤمنين، وحتى يتاح –أيضا- للوزير الأول والحكومة ممارسة سلطاتهما التنفيذية كاملة، ودون حرج، احتراما لروح ومنطوق خطاب 9 مارس، وفي هذا الاتجاه يجب تعديل اختصاصات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بحيث تجرد من صلاحيات "الحراسة الدينية"، وتنقل إلى المجلس العلمي الأعلى، خاصة تلك المنصوص عليها في ظهير(2003).
إن الغاية من هذا الاقتراح/التعديل هو تحويل المجلس العلمي الأعلى وفروعه (المجالس العلمية المحلية) إلى مؤسسة عمومية مستقلة عن الحكومة، وتابعة مباشرة إلى إمارة المؤمنين، تعنى بوضع الصيغ التنفيذية للوظيفة الدينية، وتسهر على تطبيقها، بالتعاون مع المؤسسات المختلفة للدولة وعلى رأسها وزارة الأوقاف، ومن مقتضيات هذا التعديل أن يكون المجلس العلمي الأعلى مسئولا أمام أمير المؤمنين، وأمام الأمة، يسري عليه ما يسري على غيره من قوانين وأعراف المراقبة والمحاسبة.
ومن ناحية أخرى، يجب أن يضم المجلس العلمي الأعلى في عضويته العلماء أو القادة الدينيون المشهود لهم بالكفاءة والتجرد والإخلاص...، مع إعمال مبدأ التداول على المسئولية في المجلس، وتجديد عضويته بانتظام، وفي دورات معلومة.
فانسجاما مع هذه الهندسة النظرية يجب أن ينص الدستور المقبل على ما يلي:
«- المجلس العلمي الأعلى مؤسسة عمومية مستقلة تعنى بمهام الحراسة الدينية في ظل ثوابت المملكة المتعارف عليها، تحت نظر أمير المؤمنين؛
- المجلس العلمي الأعلى مسئول أمام أمير المؤمنين وممثلي الأمة».
وإجمالا؛ إن هذا التعديل الإستراتيجي الكبير على مستوى بنية الدولة، الذي يهم تنزيل الوظيفة الدينية برعاية أمير المؤمنين، في إطار الملكية البرلمانية، يغني عن كثير من الاقتراحات الأخرى التي حملتها بعض المذكرات الصادرة عن الجمعيات العاملة في الحقل الديني، والتي تعنى في كثير من الأمثلة بقضايا تفصيلية ليس محلها الدستور.
خاتمة:
إن التمكين الدستوري للوظيفة الدينية للدولة المغربية على هذا النحو، يحقق فوائد عديدة، يمكن حصرها في الآتي:
- إعادة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى حظيرة الحكومة ومسئولية الوزير الأول، بعد إعفائها من مهام الحراسة الدينية. وهذا التغيير ينسجم تماما مع روح ومنطوق خطاب 9 مارس، وينسج أيضا مع التطلع المشروع إلى الملكية البرلمانية، وخاصة في الجانب المتعلق بتحمل الوزير الأول والحكومة مسؤولية السلطة التنفيذية بكافة مكوناتها.
- الإسهام بفعالية كبيرة في إخراج الدين من حلبة الصراع السياسي، وتجنيب البلد آفة استغلاله، فوجوده في عهدة مؤسسة دستورية مستقلة تحت إشراف أمير المؤمنين، يتيح للفاعل الديني الحديث في السياسة والمساهمة في ترشيدها دون أن تكون له آفاق سياسية، ويتيح أيضا للسياسي الحديث في الدين دون خوف من تهمة الاستغلال. وبالتالي يؤدي هذا المقترح بالضرورة إلى إضفاء الشرعية الديمقراطية على تدبير الحقل الديني دون الوقوع في الأخطار التي تهدد كلا منهما (الدين والديمقراطية) في ظل هذه الشرعية.
- تفعيل الوظيفة الدينية، وتطوير أدائها التربوي والأخلاقي ميدانيا، بسبب إعمال مبادئ المحاسبة، والتداول على المسؤولية، والكفاءة، والارتقاء بمستوى الحكامة الدينية.
*باحث في التاريخ والفكر السياسي الإسلامي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.