السكوري: الحوار الاجتماعي نال إعجابا دوليا.. وأولويتنا تحسين دخل الشغيلة    الدكتور هشام المراكشي يصدر مؤلفه الجديد 'نوازل العقار في الفقه المالكي والعمل بأحكامها في القضاء المغربي    مؤلف جديد يناقش الذكاء الترابي وسبل تحقيق التنمية الجهوية بالمغرب    رسميا.. "الطاس" ترفض طلب الجزائر بإلغاء قرار خسارة اتحاد العاصمة أمام بركان    حريق المتلاشيات بإنزكان.. العثور على جثة متفحمة والأمن يفتح تحقيقا (فيديو)    موسيقى الجاز و كناوة .. سحر ووصل ولغة عالمية تتجاوز حدود الزمان والمكان    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    بورصة الدار البيضاء تفتتح تداولاتها بأداء سلبي    التلسكوب الفضائي"جيمس ويب" يلتقط صورا مفصلة لسديم رأس الحصان    ثمان نقابات بقطاع الصحة تعلن عن سلسلة إضرابات وتحشد لإنزال بالرباط    الناصيري ل"الأيام 24″: أشغال ملعب "دونور" تسير بوتيرة سريعة ومعالم الإصلاح ستظهر قريبا    أندية سعودية تغري "وست هام" للتخلي عن أكرد    بطولة إفريقيا للجيدو.. المنتخب المغربي يحتل المركز الثالث في سبورة الترتيب العام    هل تحول البرلمان إلى ملحقة تابعة للحكومة؟    البحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية    ثلاث وفيات وعشرون حالة تسمم بأحد محلات بيع المأكولات بمراكش    ثلاثيني يُجهز على تلميذة بصفرو    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رئيسة الجمعية العامة لليونيسكو تطلع على ورشة لتكوين صناعة الزليج التقليدي التطواني    تسارع نمو الاقتصاد الإسباني خلال الربع الأول من العام    العصبة الاحترافية تتجه لتأجيل مباريات البطولة نهاية الأسبوع الجاري    حماس تستعدّ لتقديم ردّها على مقترح هدنة جديد في غزة    وحدة تابعة للبحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية جنوب – غرب الداخلة    النعم ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    فتاة هندية تشتكي اعتداءات جنسية .. الأب والعم بين الموقوفين    الوداد يحدد لائحة المغادرين للقلعة الحمراء    ستة قتلى في هجوم على مسجد بأفغانستان    اش خذات الباطرونا واش خدات النقابات باش يتزاد فالسميك وفالصالير الف درهم: عرض قانون الاضراب فالدورة الربيعية والتقاعد على 65 عام فالخريفية    الموانئ الأوروبية في حاجة إلى استثمار 80 مليار يورو لبلوغ التحول الطاقي    ف 5 يام ربح 37 مليار.. ماسك قرب يفوت بيزوس صاحب المركز الثاني على سلم الترفيحة    مع اقتراب افتتاح الاولمبياد. وزير داخلية فرانسا: خاص يقظة عالية راه وصلنا لمستوى عالي جدا من التهديد الارهابي    أسترازينيكا كتعترف وتعويضات للمتضررين تقدر توصل للملايين.. وفيات وأمراض خطيرة بانت بعد لقاح كورونا!    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    معاقبة جامعة فرنسية بسبب تضامن طلابها مع فلسطين    الصين تتخذ تدابير لتعزيز تجارتها الرقمية    مطار الحسيمة يسجل زيادة في عدد المسافرين بنسبة 28%.. وهذه التفاصيل    بطولة اسبانيا: ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز على فالنسيا 4-2    يتقاضون أكثر من 100 مليون سنتيم شهريا.. ثلاثون برلمانيًا مغربيًا متهمون بتهم خطيرة    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جامعي مغربي يرصد تناقضات "خُدام الدولة" و"خُدام الوطن"

هيمنت مؤخرا كلمتا "خدام الدولة" على الخطاب الصحفي المغربي والخطاب الشبكي التفاعلي. وبغض النظر عن الشروط الموضوعية المنتجة لهذا الخطاب (بعبارة أخرى خلفياته)، وبغض النظر عن الإخراج المشهدي للخبر/الأخبار التي مثلت الدعامة الأساسية لخطاب "خدام الدولة"، ففي نظري لا يعدو أن يكون الأمر مجرد ظهور موسمي لمسألة ذات عمق جوهري، وهي مسألة الدولة والمواطن في علاقتهما المتنافرة والتي لم تستقر بعد.
من المفروض في نظام ديمقراطي أن تكون العلاقة دولة- مواطن علاقة تماهٍ وليس علاقة تنافر. علاقة تماهٍ لأن المواطن لا يمكن أن يحقق ذاته بدون دولة تحميه، والدولة لا يمكن أن تحقق ذاتها بدون مواطن يدخل مع الدولة في اعتراف مزدوج: الواحد يعترف بالآخر والواحد يحتاج إلى الآخر. هذا ما أسميه علاقة التماهي.
غير أن في المغرب للدولة مفهوم آخر. ففي نظام شبه ديمقراطي (أو شبه لا ديمقراطي، "كيف كيف") تميل الدولة إلى أن تكون دولة البعض على حساب البعض، أو بعبارة أخرى، دولة الأقلية على حساب الأغلبية. وبمعنى آخر، دولة في خدمة الأقلية على حساب الأغلبية. من هذا المنظور تكون الدولة المغربية غير بعيدة عن التعريف البدائي (الأصلي) للدولة في اللغة العربية؛ حيث تعني بالضبط الاستيلاء والغلبة.
"خدام الدولة"
في نظام شبه ديمقراطي، تتحول الدولة إلى أداة لخدمة الأقلية النافذة، سواء كان أصل هذه الأقلية من الأعيان بالولادة أو الأعيان الجدد الوافدين من نظام حزبي يسمح بالارتقاء إلى لقب الأعيان (يستوي في ذلك الليبرالي بالإسلامي والشيوعي بالاشتراكي)، أو من أولئك الذين نالوا لقب الأعيان نتيجة مغامرات لا شرعية (تهريب، نهب، مخدرات...) أو من أولئك الذين يتم اختيارهم بعناية لشغل مقاعد المجالس الإدارية للوكالات والمجالس الوطنية الاستشارية، أو أولئك الذين تم استدراجهم بعد أن تألق "نجمهم" خارج الوطن كخبراء أو فنانين أو معارضين، مع ملاحظة أن كثيراَ من هؤلاء الأعيان يدخلون ضمن خانة "المحميين الجدد"(1). وعندما تتحول الدولة إلى أداة، يتحقق التماهي الذي أشرت إليه في بداية هذا الكلام، لكنه تماه ناقص لأنه يهم الأقلية فقط. التماهي هنا يتشكل في إطار منفعة متبادلة: فخدام الدولة يشكلون في الوقت نفسه دولة الخدام (بدل دولة المواطنين في الأنظمة الديمقراطية).
دولة الخدام هي نقيض لدولة المواطنين. دولة المواطنين يستفيد من منافعها العامة كل المواطنين، بينما دولة الخدام يستفيد من منافعها العامة جزء فقط من المواطنين (هذا إن كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين).
دولة الخدام هي خاصية محلية لنظام شبه تقليدي (أو شبه عصري، "كيف كيف"). فمنذ أن كان الملوك في الماضي يحركون "حركاتهم" لتأديب القبائل بهدف الاستيلاء على مقدراتها وبسط الغلبة عليها، مرورا بتوزيع أراضي المعمرين والأراضي الجماعية والسلالية على الأعيان المحليين، وصولاً إلى خلق مناصب عليا لا حاجة للمجتمع إليها فقط لإرضاء "خدام الدولة"، وتقديم تعويضات مالية سخية لأعضاء غرف برلمانية تشتغل في حدها الأدنى (أحيانا يتم التصويت على قوانين مصيرية بأغلبية 3 أو 4 برلمانيين من أصل 350)، وتفويت امتيازات استغلال المعادن ورخص وسائل النقل ورخص الصيد، وتفويت أراض فلاحية منتجة وعقارات حضرية غالية على بعض "خدام الدولة" أو على بعض شركات خدام الدولة بثمن رمزي، أو توظيف أبناء "خدام الدولة" في مناصب عليا بدون مراعاة التنافس الديمقراطي... كل ذلك يشكل الحلقات نفسها لمنطق الريع الذي يشكل البنيان الأساسي لمنظومة الدولة شبه التقليدية/شبه العصرية.
نتيجة انحصار تماهي الدولة مع البعض دون الكل، وقع اختلاف وخلط في مفهوم الدولة، خصوصاَ ضمن الدائرة الضيقة للمنتفعين من خدام الدولة: فهناك من يتحدث عن الحكومة مقابل الدولة ناسياَ أو متناسياَ أن الحكومة جزء من الدولة؛ وهناك من يستنجد بالدولة مع العلم أنه متواجد داخل الدولة (مثال: استنجاد رئيس الحكومة بالدولة إثر قوله "عيطو على الدولة" بدلاً من "عيطو على الأمن"). ومن طرائف تعريف الدولة ما قاله أحد السياسيين أثناء مشاركته في ندوة (وهو بالمناسبة هوموبوليتيكوس انتقل من الحركة الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي إلى حزب الأحرار كما ينتقل الرحل بحثاَ عن العشب المفيد)؛ حيث قال: "الدولة هي الملك ووزير الداخلية والولاة والعمال"، وبذلك يكون قد رمى بالبرلمان والقضاء والحكومة والمجلس الدستوري خارج دائرة الدولة وكأنها مجرد إدارات.
خدام الوطن
مقابل "خدام الدولة" الذين يمثلون كاسطة (2) مرتبطة بالنظام شبه الديمقراطي، هناك فئة أخرى من الخدام الحقيقيين الذين يمثلون صمام أمان للدولة والمجتمع معاَ: هذه الفئة، خلافاَ للأولى، تتسم باتساع قاعدتها واعتمادها على نفسها من خلال رأسمالها (الرمزي بالأساس) المتمثل في الكفاءة والفعالية من جهة، وفي يقظة الضمير والدفاع عن المبادئ والقيم الجماعية. إنهم ببساطة ما يمكن أن نصطلح عليهم بجنود الخفاء.
ضمن هذه القاعدة العريضة من المجتمع، هناك من يتموقع في الطليعة وهناك من يتموقع في الخلفية. هؤلاء هم الحماة الحقيقيون للوطن والمجتمع والدولة. إنهم بالرغم من كونهم جنود خفاء، فمهامهم العظيمة وإنجازاتهم مرئية للعيان: إنهم الجنود والمدرسون المربون وأساتذة الجامعات وقوات الأمن والوقاية المدنية وأطباء وممرضو القطاع العمومي والقضاة النزهاء وتقنيو الإدارات والجماعات المحلية والعاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني. جميع هؤلاء، بالرغم من الاجهازات المتكررة على مكتسباتهم المادية والمعنوية وبالرغم من تضررهم من تردي مستوى المعيشة ومن تراجع قيم المعاش بعد التقاعد... جميعهم يتواجدون في خندق واحد: خندق الدفاع عن الوطن والمواطنين، مهما كلفهم ذلك من ثمن.
- الجنود: هم أصلاَ أولاد الشعب؛ إذ لا يلج هذه المهنة، عموماَ، سوى من انقطعت بهم سبل الترقية الاجتماعية من أبناء الفلاحين الفقراء وسكان هوامش المدن. إنهم حماة الوطن وعيونه التي لا تنام. تضحياتهم لا توازيها تضحيات أخرى وهم مستعدون دوماَ، وفي جميع الظروف، لحماية الدولة والوطن، يتقاضى الجزء العريض منهم؛ أي من هم في أسفل الهرم، أجوراَ تتراوح بين 235 و412 دولاراَ أمريكيا (1135 دولارا للجندي الإسباني و1950 دولارا للجندي الأمريكي العادي). كثير من عائلاتهم تسكن في أحياء الصفيح في هوامش المدن أو بالقرب من الثكنات. وعندما يتقاعدون، يحصلون على معاش في حدود 1500 درهم شهرياً. وتوجد حالات لأرامل جنود تتقاضى معاشاَ شهرياَ من 20 درهم.
- المدرسون المربون وأساتذة الجامعات: هؤلاء هم صلب النظام التربوي الذي لا تقوم دولة عصرية إلا على أساسه، بل إن النظام التربوي هو كالقضاء، مكون أساسي من مكونات تعريف الدولة. إضافة إلى الشروط الصعبة والمجحفة جداَ والتي يشتغل فيها هؤلاء، خصوصاَ في البوادي والمناطق النائية (الحارة أو الباردة أو الصعبة الولوج)، فهم يعتمدون في تحقيق مسارهم المهني على أجور لا تتلاءم مع القدرة الشرائية التي تتباعد باستمرار عن تكلفة المعيشة المرتفعة على الدوام، ناهيك عن مخاطر العمل.
- قوات الأمن والوقاية المدنية: تماماَ مثل الجنود، يعتبر دور قوات الأمن والوقاية المدنية مكملاَ لدور الجنود. فإن كان الجنود مكلفين بالأمن الخارجي أساساَ (حراسة الحدود)، فقوات الأمن والوقاية المدنية تتكلف بالأمن الداخلي، هذا الأمن الذي أصبحت مخاطره في ازدياد لافت نتيجة لانتشار الجريمة والمخاطر البيئية المختلفة. يومياَ لا تعرض قوات الأمن نفسها للسعات الشمس المفرطة فقط، بل لمخاطر حقيقية تداهمها باستمرار أثناء مزاولتها لمهامها، إضافة إلى معاناة النظرة الدونية الضيقة لكثير من المواطنين الذين يحكمون على فساد هذه الفئة انطلاقاَ من تجارب متفردة (حوتة كتنخنز شواري).
- أطباء وممرضو القطاع العمومي: هؤلاء، مثلهم مثل المدرسين المربين وأساتذة الجامعات، باعتبارهم واجهة للدولة أمام انتظارات المواطنين في ما يتعلق بالعلاج والوقاية الصحية، يعيشون في الغالب معاناة مزدوجة: معاناة العمل في ظروف صعبة (العمل في مناطق نائية أو في ظل الافتقار إلى وسائل العمل الطبية) ومعاناة تعرضهم اليومي لطلبات واحتجاجات وإحراج المواطنين من حيث كونهم الواجهة الرئيسية للصحة العمومية، ناهيك عن هزالة أجورهم، خصوصاَ إذا قارناها بأجور أطباء القطاع الخاص.
- القضاة النزهاء: يعتبر القضاء من الدعامات الرئيسية للدولة الحديثة، ولا تستقيم دولة بدون قضاء نزيه وفعال ومنتج. وبغض النظر عما تسوقه الصحافة من فساد في الجسم القضائي، فإن المغرب يتوفر على جيش من القضاة النزهاء الذين يحمون مصالح الأفراد والجماعات إحقاقاً للعدالة وإعمالاً للقانون. القضاة النزهاء، تماما مثل الجنود وقوات الأمن والوقاية المدنية، يسهرون بثبات ورباطة جأش على تماسك المجتمع والدولة من خلال الاحتكام إلى القانون.
- تقنيو الإدارات والجماعات المحلية: هم عموماَ جيش من الموظفين والمتصرفين الذين يسهرون على خدمة المواطنين، كل حسب اختصاصاته. وبالرغم من تشويه سمعتهم من طرف ثلة قليلة من الفاسدين والموظفين الأشباح المحميين، فإن غالبيتهم تعتبر بمثابة الشرايين التي تتدفق فيها دماء الدولة والمجتمع معاَ. إنهم "خدام" الدولة الذين يعملون بتفان ويعانون في صمت.
- العاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني: يوجد حالياَ في المغرب أزيد من 100.000 جمعية مسجلة، وككل قطاع، هناك تنظيمات فاسدة وأخرى سليمة. على رأس منظمات المجتمع السليمة نجد مئات، بل آلاف العاملين المتطوعين (الذين يشتغلون بدون مقابل عدا الإيمان بجدوى تطوعهم) الذين يعملون على تغيير واقع بئيس يرون أن بالإمكان الرقي به إلى ما هو أحسن (في مجال الإعاقة كما في مجال محاربة الفقر والعوز، أو في مجال التنمية الاجتماعية وتنمية القدرات الذاتية للمواطنين الذين يوجدون في وضعية الضعف والهشاشة، أو في مجال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان). هؤلاء العاملون المتطوعون هم أيضاَ يساهمون في بناء الدولة وخدمتها، باعتبار أن تقوية قدرات المجتمع المدني وتنظيمه الذاتي تساهم في تقوية أسس الدولة وفي تقوية مشروعيتها في علاقتها مع المجتمع.
هؤلاء الذين أسميهم "خدام الوطن" بالتعارض مع "خدام الدولة" لا يقلون أهمية من حيث مستوى التضحيات ومن حيث الدفاع عن الدولة والوطن معاَ. هم لا يستغلون الفرص لينقضوا على الملك العمومي والمال العمومي، ولا يستغلون مناصبهم ووضعياتهم وكفاءاتهم للاغتناء على حساب "امتيازات الدولة، سواء كانت هذه "عميقة" أم "غير عميقة". كل ما يقوم به هؤلاء، كل حسب منصبه ووضعيته وكفاءته، هو تقديم خدمات تعتبر واجباَ ضمن التوزيع الاجتماعي للعمل: واجب يفرضه الضمير المهني كما تفرضه علاقات التعاون والتضامن الضرورية لبناء المجتمع والدولة معاَ.
هؤلاء يمكن أن يتفهموا كيف أن "المحميين الجدد"، ولصوص الدولة والمجتمع معا، الناهبون للرمال والمعادن والثروات البرية والبحرية، وأباطرة المخدرات، وشبكات الإجرام... هؤلاء يمكن أن يتفهموا الاغتناء الفاحش لهذه "الماركة" من البشر لكنهم لا يمكن أن يتفهموا كيف لزعماء أحزاب سياسية أو موظفي الدولة السامين أو بعض رؤساء المجالس الاستشارية... أن يستعملوا الدولة للوصول إلى النتيجة نفسها: الاغتناء الفاحش بدون وجه حق. وبالطبع، هناك من "خدام الدولة" بعض الاستثناءات التي تكتفي بأجورها وتعمل وفق ضمير مهني عال، بل إن هناك بعض العمال القدامى لا يملكون حالياً إلا شقة عادية كأي مواطن.
في نظر "خدام الوطن"، الفئة الأولى منحرفة واغتناؤها غير مشروع، وبالتالي فدولة القانون لا شك ستضع أيديها عليها وعلى ثرواتها مهما طال الزمن، لكن الفئة الثانية هي مبدئياَ غير منحرفة، لأنها تمثل بالضبط القوة الرادعة للانحراف، فلا يمكن الجمع بين محاربة الانحراف والانحراف معاَ.
بعض المغاربة يستسلمون بسرعة لواقع الفساد، وباستسلامهم يبررون هذا الواقع. نراهم تارة يعممون الفساد على الكل (كقولهم: الجميع لصوص إلا من لم يجد منفذاَ لذلك) أو تراهم يشجعون على أخذ الحق باستعمال أسلوب الفاسدين نفسه (كقولهم: خذ حقك كما يفعل الجميع).
تعميم الأحكام مضر للغاية "بخدّام الوطن" ومفيد للغاية "لخدّام الدولة". إن لخدام الوطن وظيفة ورسالة: وظيفة جوهرها العمل والإنتاج لتحقيق توازن المجتمع، ورسالتهم هي بالأساس رسالة تربوية: بالضمير المهني والتعاون والتضامن نبني الدولة والوطن معاَ.
لتفكيك التناقض بين "خدام الدولة" و"خدام الوطن" سأستعرض بعجالة قصة طريفة، وهي قصة لا تخلو من "ذاتية" لكني أدعو القارئ إلى تجاوز ما هو ذاتي لفهم الإشكال.
عندما استقرت قناعتي على العمل من داخل وضمن المجتمع المدني كان ذلك اختياراَ استراتيجياَ بالنسبة لي، لذا حرمتُ على نفسي "العمل السياسي" لأنني دائماَ من وجهة نظر إستراتيجية، كنت أرى مؤقتاَ، أنه عمل غير منتج من الناحية الاجتماعيةَ، في ظل الظروف التي يشتغل فيها السياسي المغربي. كنت أعرف أن هذا الرهان متعدد المخاطر ويحتاج إلى تضحيات وأداء ثمن هذه التضحيات.
خلال 18 سنة قُدتُ (من القيادة) بقناعة وشجاعة وإصرار وثبات وإنكار للذات وتضحيات قل نظيرها، في ظل ظروف جد محبطة، وبالموازاة مع عملي الأكاديمي كأستاذ جامعي الذي أديتُه الجدية نفسها والتفاني ذاته، تجربة جمعوية رائدة كانت نتائجها مدهشة في رقعة كبيرة من جغرافية الريف تمتد من الناظور الى الحسيمة:
- بناء وتجهيز وتأطير40 مدرسة ابتدائية مندمجة حسب مواصفات راقية يستفيد منها 4000 طفل سنويا
- بناء وتجهيز داخلية للبنات تستفيد منها 100 تلميذة قروية سنوياَ
- دعم تجهيزات وزارة الصحة بعيادتين متنقلتين مجهزتين بأرقى التكنولوجيات الطبية خاصتين بصحة الأم والطفل (فكرة تطبق لأول مرة في المغرب)
- دعم تجهيزات وزارة الصحة بحافلتين للتحسيس الصحي والسكاني (واحدة للناظور وأخرى للحسيمة)
- دعم وزارة الصحة ب 8 سيارات إسعاف مجهزة تجهيزا طبياَ كاملا (5 للناظور و3 للحسيمة)
- تأهيل وتجهيز قسم الإنعاش بالمستشفى الإقليمي بالناظور
- بناء وتجهيز وتأطير 7 مراكز لتأهيل المرأة حرفيا ومدنيا وحقوقياً تستفيد منها 2000 امرأة سنوياَ
- المساهمة في بناء مركز سوسيوتربوي يستفيد منه شباب جماعة حضرية تعداد سكانها ستون ألف نسمة
- تنظيم وتأطير معرض وطني سنوي لمنتجات التعاونيات النسائية تستفيد منه عشرات التعاونيات
- تأهيل وتجهيز وتأطير مركز لمهن البناء يستفيد منه 100 شاب عاطل سنويا
- تأسيس وبناء وتجهيز وتأطير 7 تعاونيات فلاحية ونسائية وخدماتية يستفيد منها أزيد من 500 متعاون
- بناء نظام للري التقليدي يستفيد منه حوالي 100 فلاح
- تشييد سد تلي لدعم تدفق المياه الجوفية
- بناء نظام محلي لتزويد 2000 قروي من الماء الصالح للشرب
- المساهمة الفعالة، ماديا وتنظيميا، في دعم متضرري زلزال الحسيمة
- المساهمة الفعالة، ماديا وتنظيميا، في دعم متضرري موجات البرد في الأطلس المتوسط
- تنظيم عشرات اللقاءات التكوينية والتحسيسية في مجالات تهم المرأة والشباب العاطل وحقوق الإنسان والحقوق اللغوية والثقافية
- تنظيم حملات دورية للتبرع بالدم
- تنظيم ندوات علمية بشكل دوري وعلى مدار السنة
- وغير ذلك كثير...
مع الإشارة إلى أن اثنين من هذه المشاريع تم تدشينها من طرف الملك، كما أعاد تدشين مشروع ثالث (العيادة المتنقلة).
هذا العمل مكّننا، كمجتمع مدني، من المساهمة في الحد من البطالة الشبابية من خلال توظيف عشرات الشابات والشباب في مختلف مشاريع الجمعية وصل عددهم الإجمالي إلى أزيد من 150، كما مكّننا من تشغيل عدد من المقاولات الصغرى (دون احتساب فرص العمل التي خلقتها)، إضافة إلى ضخ عشرات الملايين من الدراهم بالعملة الصعبة في خزينة الدولة.
هذه الإنجازات الجبارة هي صنيعة "خدام الوطن". ونحن، عندما اخترنا العمل في هذه الواجهة، لم نكن ننتظر مقابلا لذلك: لا مقابلا مادياَ ولا تكريماَ معنوياَ ولا أصواتاَ في الانتخابات. الفرق بيننا وبين "خدام الدولة" واضح: نحن نعطي للوطن (وللدولة)، و"خدام الدولة" يأخذون من الوطن (ومن الدولة). خدام الدولة يستفيدون من الدولة، وخدام الوطن يستفيد منهم المجتمع والدولة. هذا هو الفرق.
من مفارقات قيادتي لهذه التجربة الرائدة بقناعة وشجاعة وإنكار للذات (أكررها بكل اعتزاز وفخر)، أنني خسرت ترقية أكاديمية إلى الأبد (نتيجة لعدم تقديم ملف ترقيتي في الوقت المناسب عندما كنتُ منهمكاً، في الوقت ذاته، في قيادة العمل الاجتماعي وتأطير طلبتي) قدرها 7000 درهم شهرياَ. ومن غرائب الصدف أن عائلتي (وأنا ضمنها) كانت ضحية نزع ملكية جدي بثمن رمزي (حوالي 4000 متر مربع) لبناء مدرسة ابتدائية، ونزع القطعة الوحيدة التي كانت متبقية لنا (والتي كنتً أنوي بناء دار فيها تأويني في تقاعدي لأنني لا أملك داراً حتى الآن) وهي قطعة تعود إلى أمي (420 مترا مربعا) أضيفت إلى ملكيات أخرى لبناء مسجد جديد مجاور لمسجدين (الواحد على بعد 50 مترا والآخر على بعد 150 مترا)، دون أن نتلقى أي تعويض إلى حد الآن. للإشارة فإن المسجد الجديد من اقتراح وتنفيذ خدم من "خدام الدولة". هنا يمكن بسهولة ملاحظة كيف أن "خدام الدولة" يستفيدون من ملكيات عمومية بثمن رمزي، وكيف تقوم دولة الخدام بنزع الملكيات الخاصة لخدام الوطن بثمن رمزي أيضا. يا للمفارقة!
من مفارقات هذه التجربة الذاتية أيضاَ أن المدرسة التي بُنيت على أرض جدي كانت في الأصل تسمى "مجموعة مدارس سيدي ورياش" (نسبة إلى جدي الأكبر)، وعندما تم بناء المدرسة الجديدة، تحول اسمها إلى مدرسة الإمام الغزالي. نحن هنا أمام اغتصابين: اغتصاب الأرض واغتصاب الاسم.
من المفارقات أيضاَ أن صديقتي في الطفولة، تلك التي كانت تشاركني المقعد المدرسي في "مدرسة سيدي ورياش"، لم تتعرض لنزع ملكية بثمن رمزي مثلي، بل بالعكس، استفادت من 2000 متر مربع في الرباط لمجرد أنها زوجة لأحد "خدام الدولة"!
هذه القصة الطريفة ترددت كثيراَ في سردها مخافة أن تُقرأ قراءة خاطئة، لكني أردت أن أرسل رسالة من خلالها: من السهل في المغرب أن تكون من "خدام الدولة" نظراَ للإغراءات الكثيرة التي توفرها الدولة، لكن من الصعب أن تكون من "خدام الوطن" لأنك تختار منذ البداية طريقاَ مليئاَ بالمخاطر ويحتاج إلى تضحيات.
طريق خدام الدولة يمكن أن يُحوّل ابن فلاح مُعدم كان يعاني من سوء التغذية إلى أحد كبار الملاك وكبار أعيان البلد، كما يمكن أن يحول مهندساً بسيطاً أو مناضلا يسارياً من الطابور الخامس إلى أحد كبار الملاك وكبار أعيان البلد.
أما طريق "خدام الوطن" فهو طريق آخر، لا يمكن إدخاله في عمليات حسابية (أي عمليات الربح والخسارة) لأنه بكل بساطة طريق يحصن الدولة والوطن معاَ في اتجاه تقوية تماهي المواطن مع وطنه ومع دولته، تماهٍ لا يمكن أن يتم إلا عندما تكون الدولة متضامنة مع كل مواطنيها، وليس فقط مع جزء يسير من مستوطنيها.
الدولة لا يخدمها كبار الموظفين وكبار "رجالات الدولة" وكبار الفقهاء والعلماء والرواة فقط، ولكن يخدمها أيضاَ الجندي المجهول: الجنود والمدرسون المربون وأساتذة الجامعات وقوات الأمن والوقاية المدنية وأطباء وممرضو القطاع العمومي والقضاة النزهاء وتقنيو الإدارات والجماعات المحلية والعاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني.
________________________________________
(1) أقصد بالمحميين الجدد تلك الطبقة من المغاربة التي تغتني على حساب المغاربة، وعندما يشتد عودها تتجنس بجنسيات أجنبية للدفاع عن مصالحها الجديدة.
(2) الكاسطة: أقرب كلمة بالعربية هي عبارة "الطائفة". ونظام الكاسطات هضم المعمول به في الهند، حيث الثروة والجاه يتوارثان، وحيث الفقر والبؤس يتوارث أيضاً.
* أستاذ جامعي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.