دورية لرئاسة النيابة العامة حول التفعيل الإيجابي لدورها في مساطر صعوبات المقاولة    السالفادور.. برلمان أمريكا الوسطى يصادق على قرار يؤيد الوحدة الترابية للمملكة ويدعم "الحكم الذاتي"    أخنوش يدعم السكوري ويقرر إعفاء مديرة "لانبيك"    الطالبي العلمي: حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط    الحسيمة.. تحويط حريق بغابة "ثاندا إفران" وجهود متواصلة لإخماده    ثلاث سنوات سجنا لمتهم بتنظيم الهجرة السرية بالحسيمة    تحرير شاطئ سيدي قاسم بطنجة من مظاهر الاستغلال العشوائي لأصحاب المقاهي    لجنة مركزية من وزارة الصحة تحل بالعرائش لتعزيز حملة مراجعة واستدراك التلقيح ضد بوحمرون    عواصف عنيفة تضرب فرنسا وتخلف قتلى ودمارا واسعا    وفاة رجل أضرم النار في جسده وسط الشارع العام بطنجة إثر خلاف تجاري    في الأمم المتحدة.. المغرب يدعو لتحرك جماعي لحماية المدنيين من الفظائع    ارتفاع القروض الموجهة للقطاع غير المالي ب3,9%    مونديال الأندية.. إنتر يتفوق على ريفر بليت ويعتلي الصدارة ومونتيري يعبر برباعية    طاقم تحكيم كندي لمباراة العين الإماراتي والوداد الرياضي    بسبب جماهيره.. "فيفا" يغرم الوداد 40 مليون سنتيم في كأس العالم للأندية 2025    جمعيات تحذر الوزارة الوصية من "تفويت" 54 مركزا للشباب    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الأخضر    الذكاء الاصطناعي و"كابسولات الميوعة"..حين تتحوّل التقنية إلى سلاح لتفكيك الهوية المغربية    القضية ‬الفلسطينية ‬في ‬ضوء ‬بيان ‬اسطنبول    قرار أوروبي يلزم شركات الطيران بإلغاء الرسوم الإضافية على الأمتعة اليدوية    أسعار الذهب ترتفع وسط تراجع الدولار الأمريكي    عبد الكبير الخطيبي: منسي المثقفين    الدين العام الفرنسي يتجاوز 3.3 تريليون يورو متجاوزا 114% من الناتج المحلي    مغاربة العالم يعقدون ندوة حوارية بباريس حول الورش الملكي الخاص بالجالية    "الحسنية" تأذن بسفر المدرب الجديد    الرباط تحتضن دوري الراحل بوهلال    الابتزاز وراء عقوبتين بالكرة النسوية    أمينة بنخضرة: المغرب يؤكد التزامه بدور ريادي في تنمية إفريقيا    تقرير: "تشظي المؤسسات" يعرقل تدبير الأزمات المائية في المغرب    الجرف الأصفر : شركة 'كوبكو' تدشن أول وحدة صناعية لمواد بطاريات الليثيوم–أيون بطاقة إنتاجية تبلغ 40.000 طن    المجر تحذر سفراء أوروبيين من المشاركة في مسيرة محظورة للمثليين    إسرائيل تعتقل طالبا بتهمة التجسس    إدانة رابطة مغربية لتأخير رحلة Ryanair بمطار الرباط    توقعات طقس اليوم الخميس بالمغرب    الاحتيال يهدد زبائن تأجير السيارات    معرض يستحضر الأندلس في مرتيل    أكاديمية المملكة المغربية تكرم 25 سنة من الأدب الإفريقي في "غاليمار"    تباين الموقف النقابي يربك "الجبهة الاجتماعية" في قطاع التعليم العالي    طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    سوق الكوكايين العالمية تحطم أرقاما قياسية    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلومينينسي يعبر إلى ثمن النهائي عقب تعادل سلبي أمام صنداونز    تثبيت كسوة الكعبة الجديدة على الجهات الأربع مع مطلع العام الهجري    ما علاقة الإعلام بتجويد النقاش العمومي؟    وفاة شاب إثر سقوط من سطح منزل بطنجة    موازين.. الفناير تراهن على التراث والتجديد لمواجهة ضغوط السوشيال ميديا    الداخلية تشرع في إعداد لوائح المجندين الجدد تنفيذا للتعليمات الملكية    نزاع حول حقوق هولوغرام عبد الحليم حافظ يشعل مواجهة قانونية بين XtendVision ومهرجان موازين    بعد وفاة مؤسسه بنعيسى... موسم أصيلة الثقافي الدولي يواصل مسيرته بصيغة صيفية حافلة بالفنون    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حميش: الثقافة تصون الذاكرة وتبني المعرفة وترفع التنمية
نشر في هسبريس يوم 24 - 09 - 2016

كلمة cultura اللاتينية الأصل، مشتقة من فعل colere، أي حرثَ، اعتنى، رعى، حافظ، أو بكلمة جامعة استثمر ونمّى، وكلها أفعال تحيل إلى فلاحة الأرض agricultura، وتنسحب على فكر الإنسان ووجدانه تماهيا وتماثلاً. أما في لسان العرب لابن منظور، فالأصل من «ثقِف الشيء ثقافة: حذقه حذقاً وظفر به. ويقال رجلٌ تَقِفٌ وثَقْفٌ: حاذقٌ فهِمٌ»، وبذا تكون الثقافة رديفاً لاكتساب الفطنة والمهارات، مما يقربها من معنى paideia في اليونانية القديمة التي لم تكن لها عهدذاك كلمة أخرى للدلالة على الثقافة، في حين أنها تسمى اليوم بوليتسموس، القريبة من اسمها "مدنيات" في اللغة الأزيرية.
إن الثقافة ككل منظومة حية تعرف تطورات وطفرات نوعية في الوضع والأدوار، إذ أنها في أزمنتنا هاته أمست أكثر فأكثر حقلا للاستثمار في التنمية البشرية وقطاعا للإسهام في خلق مناصب الشغل والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي فقد ولّى زمن اعتبارها نشاطا ثالثيا غير منتج أو ترفا لتمضية فترات الفراغ و"قتل الوقت". وإذا كانت صيرورة الثقافة كذلك، أي تحولها إلى التنمية البشرية ومراميها، فإن وظائف إضافية جديدة أخذت تُناط بها وتُسأل عنها، وكلها ذات طبيعة تحليلية ونقدية، منها مثلا لا حصرا:
- صيانة الذاكرة النافعة والمخيلة المبدعة وإنعاشهما؛
- الإسهام في بناء مجتمع المعرفة وتقوية أساسياته؛
- نقد تجاوزات العولمة السائبة والرأسمالية المالية الافتراضية القائمتين على التحلل من الواقع وتجاهله ومعاداة مصالح الناس وحقوقهم؛
- تمكين منظومات التسيير والتدبير من وسائل التثقيف والعقلنة والتيسير؛
- رصد مكامن سلوكات الغلو والتعصب والعنف، وعللِ تكونها واعتمالها، وذلك بغية معالجتها ومغالبتها وتحرير المجتمع والناشئة من تمظهراتها ومخاطرها؛
- الارتقاء بالوعي الفردي والجماعي إلى التشبع بقيم الجمال والخير والحقيقة، وبمبادئ المواطنة البناءة والحرية المسؤولة والتضامن الموحد؛
الثقافة، بكلمات جامعة، هي أحد معايير التقدم ورافعة من بين رافعات التنمية البشرية، حيث الغايات المتوخاة هي التنافسية المبتكرة، وترقية الأذواق واللغات، تمتيع الأفراد والجماعات بحياة أفضلَ وأجمل، مخلصة من مسلكيات تبخيس الذات أو الضجر منها، وهما عنصران مرضيان يفسدان النوابض الإبداعية ويسيئان إلى مواقف التفاؤل والإرادية. وهنا في هذه المقومات وما يجانسها تكمن الأفعال القوية لربح رهانات التطور النوعي والانتفاع بخيرات المدنية والحداثة وخدماتها، أي رهانات الثقافة التنموية المطّردة. وواضح أننا هنا لا نهتم بالثقافة بمعناها الطبيعي الأنثروبولوجي، أي ثقافة المجموعات البشرية المتعلقة بأنماط عيشها وتقاليدها وعاداتها وآدابها الشفوية، فإن لها مداراتها الخصوصية والباحثين في بنياتها ووظائفها.
أما مفهوم المثقف، فقد تعددت تعاريفه وتقاطعت، ولعل أقربها إلى موضوعنا يثوي في نظرية جان-بول سارتر حول الإلتزام، ومفادها أن المثقف هو من عليه واجب الوفاء لمجموعة سياسية واجتماعية، مع ممارسة حقه في انتقادها؛ أو إنه من يتدخل في ما لا يعنيه مع استيفاء شرط الخبرة والدراية. وقد نقول تماشيا مع تعاريف الثقافة المذكورة أعلاه: إن المثقف هو من يسعى جادا بعُدته المعرفية والفكرية إلى إيقاظ الهمم والضمائر، وتحريك سواكن الغفلة والتلهي عن قضايا وأوضاع خطرة جسيمة...
في القرن الماضي كان للمثقف الغربي عموما وضع اعتباريٌّ خصوصي، أي حتى خارج التكتلات والأحزاب السياسية، بحيث إنه دأب على تبنّي مواقف وقضايا في ضوء فكره ومبادئه، فيعمل على التعبير عنها بقلمه وبالوسائل الإعلامية والتواصلية المتاحة. ومن ذلك مثلا دفاع سارتر عن استقلال الجزائر ووقوفه مع برتراند روسل ضد الحرب الأمريكية على الفيتنام، أو كمعارضة فوكو للأسر في مستشفيات الطب العقلي كما لنظام الاعتقال الحبسي، إضافة إلى أعلام آخرين كُثُرٍ عُرفوا بمواقفهم المناضلة حول قضايا ساخنة وحروب مدمرة، كشومسكي وغويتصولو وبورديو ودوبري، وغيرهم ممن مثلَهم يصدرون عن مجال تخصص معيّن وعن ثقافة حيّة واسعة. أما عربيا فإن المثقفين الذين يندرجون، ولو بنحو أو آخر، في هذا التوصيف فمن أبرزهم: مهدي عامل، حسين مروة، إدوارد سعيد، عزمي بشارة، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، المهدي المنجرة... ومن نافلة القول أن ذاك التعريف الشفعي المتلازم لا ينسحب على المنتمين إلى صنف المثقفين المزيفين.
إن المفترض في المثقفين النزهاء إذن أن يكونوا فاعلي الثقافة ومنتجيها، متماهين ما أمكن مع هذا التعريف المجازي لريني-ماريا ريلكي: «المثقف هو من يسهم في تحريك البحر المتجمد فينا». لكن يحسن دوما أن ننظر إلى تعريف كهذا وما يضاهيه مثاليةً في مرآة واقع الحال والتجربة، وعبر عييينات وأمثلة مخصوصةٍ ملموسة، بها يتضح التحليل والمقال.
إن المثقف الأنموذجي يتموقع بالأولى والأحرى في المجتمع المدني، كما أكد ماكس فيبر وأنطونيو گرامشي وقبلهما ابن خلدون القائل في فصل من المقدمة "في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها"، والسبب فيه، بعبارات حديثة، أن ذلك المثقف يظهر من حيث الزمنية والحركة، في مقام مغاير للسياسي، وبالتالي مقام نقدي بإزاء سلطات التشريع والحكم، أي إنه، كما ذهب إدوارد سعيد، "هذا الصوت الآخر (outsider)"، الذي ليس مشيّد إجماع، بل إنه فرد يُلزم وجودَه ويخاطر به انطلاقا من حس نقدي مطرد؛ فرد يرفض، ومهما يكن الثمن، التعابير السهلة والأفكار الجاهزة والمواقف الملتبسة إزاء خطابات وأفعال رجال السلطة وذوي العقول المتكلسة. وهو لا يرفضها فحسب، وإنما يجهر لهم برفضه أيضا.
والسؤال الذي كان دوما يتبادر إلى الذهن ولا بد من طرحه يستلزم مقاربة الأجوبة الممكنة عنه، نظرا لمحوريته وبروزه كمحك اختباري توضع عليه مثالية الثقافة ووظائفها، هذا السؤال هو: إذا كانت الثقافة من إحدى رافعات التنمية، فأين وكيف هم الرافعون؟ وهذا ما سنعرض له في مقالة قادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.