تميزت الانتخابات التشريعية في 7 أكتوبر 2016، التي تعد ثاني استحقاقات تشريعية في ظل أول دستور ممنوح في عهد الملك محمد السادس، بسمتين رئيسيتين تمثلتا في نسبة المقاطعة الانتخابية الشعبية الملفتة للانتباه، وبتكريس نوع من الثنائية بعد فوز كل من حزب العدالة والتنمية وغريمه حزب الأصالة والمعاصرة بأغلبية المقاعد النيابية. 1-ارتفاع نسبة المقاطعة الانتخابية حرص النظام على ضمان نسبة معقولة للمشاركة في هذه الانتخابات؛ وإذا لم يستجب لقبول التصويت المباشر لأكثر من ستة ملايين من أفراد الجالية المغربية بالخارج، فقد ركزت وزارة الداخلية جهودها على ضمان أكبر مشاركة شعبية في هذه الانتخابات، لاسيما أن شبح نسبة المشاركة المتدنية في الانتخابات التشريعية لسنة 2007 بقي يؤرق السلطات العليا في البلاد التي كانت تتخوف من أن تتكرر التجربة نفسها في هذه الانتخابات. وهكذا عبأت وزارة الداخلية كل مواردها البشرية واللوجيستكية لتسجيل أكبر عدد ممكن من الناخبين، خاصة من الشرائح الشابة، وقامت بعدة حملات دعائية وإشهارية من خلال وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، مرئية وإذاعية، لحمل المواطنين على التسجيل في اللوائح الانتخابية، كما مددت فترات التسجيل لهذا الغرض. كما حرصت السلطة لدعم مصداقية هذه الانتخابات التشريعية على إحاطتها بكل الآليات التي تضمن شروط شفافيتها ونزاهتها لتفادي أهم الاختلالات التي كانت تعاني منها العملية الانتخابية بالمغرب طيلة عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وفي هذا الصدد أكدت وزارة الداخلية ضرورة أن تتم عملية التسجيل في اللوائح الانتخابية وفق الضوابط الإدارية التي حددتها، رافضة إشراك أي مكون حزبي في هذه العملية، وعملت على تشديد إجراءات "التسجيل الإلكتروني للناخبين في اللوائح الانتخابية"، خاصة بعد مطالبة حزبي ''الأصالة والمعاصرة''، و''الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية''، وزارة الداخلية ب''التشطيب على آلاف الناخبين بدعوى أنهم سجلوا من طرف شبيبة العدالة والتنمية''؛ ما قد يستغل من طرف منافسهم لجلب وحشد أصوات انتخابية لصالحه. وإلى جانب بيان وزارة الداخلية بإمكانية تجريم كل الفاعلين الحزبيين الذين يشككون في نزاهة العملية الانتخابية القادمة، أصدرت هذه الوزارة في سابقة من نوعها بيانا أعلنت فيه حظر استطلاعات الرأي حول اتجاهات التصويت حتى لا يتم استغلال نتائج هذه الاستطلاعات في توجيه الرأي العام. وبالإضافة إلى ذلك، قامت هذه الوزارة بعملية واسعة لتنقيل رجال السلطة في مختلف أقاليم المملكة لضمان أجواء سليمة للانتخابات المقبلة، في حين أوصت بضرورة وقف تنفيذ كل المشاريع المحلية، وكذا أنشطة الجمعيات الخيرية والإحسانية التي تنشط عادة في المناسبات الدينية كعمليات الإفطار في رمضان، والتبرع بشراء الأضاحي بمناسبة عيد الأضحى، حتى لا يستغل ذلك في حملات انتخابية سابقة لأوانها. غير أن هذا لم يمنع بعض التنظيمات السياسية الراديكالية إلى الدعوة إلى مقاطعة هذه الانتخابات. وهكذا قادت جماعة العدل والإحسان حملة انتخابية غير معلنة موازية لحملات الأحزاب المشاركة التي كانت تؤكد على واجب وضرورة المشاركة في العملية الانتخابية، قصد إقناع الناخبين بمقاطعة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. وفي معارضة للبرامج الانتخابية للأحزاب المشاركة وما تضمنته من أرقام وإجراءات ووعود، نشرت الجماعة تقريرا مصغرا عنونته ب"المغرب الاجتماعي منذ 2011: مؤشرات وأرقام"، تتحدث من خلاله عن الفقر بالمغرب، الذي اعتبرته "مدقعا"، معتمدة في ذلك على تقرير للتنمية البشرية بإفريقيا سنة 2016، الذي قال إن 44 في المائة من المغاربة يعيشون فقرا مدقعا، وموردة أن "التنمية البشرية في البلاد ضعيفة، ما انعكس على نسبة الفقر الشديد التي لازالت مرتفعة، إذ يعاني منه 44 في المائة من المغاربة، و12 في المائة من هذه النسبة قريبون من الفقر المتعدد الجوانب؛ في حين يرزح 4.9 في المائة تحت عتبة الفقر الحاد المتعدد الجوانب؛ ما يدل على أن 60 في المائة من المغاربة مهددون بالفقر". كما تطرق هذا التقرير إلى البطالة والشغل، مستعرضا "أرقاما صادمة"، بحسبه، تضمنها تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة لأمم المتحدة، أشار إلى أن 1.8 في المائة من المغاربة يعيشون بأقل من 10 دراهم في اليوم، و11 في المائة ينفقون أقل من 20 في المائة من أجل العيش؛ في حين انتقل عدد العاطلين في 2016 من 1.041.000 إلى 1.023.000 عاطل. وعرف معدل البطالة ارتفاعا في صفوف الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و24 سنة من 20.5% إلى 21.5%، ولدى النساء من 9% إلى 9.9%؛ وارتفع كذلك ضمن خريجي المعاهد والمدارس العليا إلى 9.1%". كما تطرق التقرير إلى "العجز في السكن الذي يناهز 840.00 وحدة"، مع إدراج الأرقام الرسمية التي كشفتها الحكومة، والتي راهنت على تنويع العرض السكني في العام الحالي، وأشارت إلى الانتهاء من توفير 82.193 ألف وحدة سكنية في النصف الأول من العام الحالي، منها أكثر من 74 ألف وحدة سكنية تدرج ضمن المساكن الاجتماعية والاقتصادية. وخلص التقرير إلى أنه "منذ سنة 2011 والمغرب يعرف تقهقرا كبيرا في مؤشرات التنمية البشرية؛ ويتضح ذلك جليا من خلال التقارير الوطنية والدولية الصادرة في سنوات ما بعد الحراك، التي تظهر المغرب في صورة قاتمة أو داكنة في أحسن الأحوال. ورغم محاولة النظام تلميع المشهد السياسي وترصيع الأداء الاقتصادي، فالتقارير الأممية لا تحابي ولا تدع مجالا للمساحيق؛ فقد تحدثت عن سقوط المغرب في بعض المراتب التي لم يكن أحد يتوقعها حتى من طرف صناع القرار السياسي"، بالإضافة إلى "ازدياد مظاهر العنف ضد النساء بالاعتماد على نتائج البحث حول انتشار ظاهرة العنف ضد النساء الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط سنة 2011، مشيرة إلى أن المغرب حافظ على رتبته الأولى في ما يتعلق بزراعة "الكيف" و"الشيرا"، والرابع في استهلاكه، إذ إن نحو 4.2 % من المغاربة مدمنون على "الكيف" ومشتقاته، (حسب التقرير العالمي للمخدرات لسنة 2011، الذي يصدره مكتب الأممالمتحدة للمخدرات والجريمة). وعلى عكس أحزاب فيدرالية اليسار التي اختارت المشاركة في هذه الانتخابات، دشن حزب النهج الديمقراطي حملة للمقاطعة الانتخابية، فنزل بعض مناضليه إلى الشارع لإقناع الناخبين بعدم جدوى هذه الانتخابات. ورغم إشارة الملك في خطابه بمناسبة ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2016 بأنه ملك كل المغاربة، بمن فيهم المقاطعون، تم اعتقال مناضلي هذا الحزب من طرف السلطات المحلية في بعض المدن، وحررت محاضر لهم قبل إطلاق سراحهم. وقبيل يوم التصويت وزع مناضلو هذا الحزب نداء بعنوان (مقاطعة الانتخابات المغشوشة ليوم 7 أكتوبر 2016 سيرا على طريق التغيير الديمقراطي) تضمن عدة مقتطفات، من أهمها ما يلي: "جماهير شعبنا. كسائر الانتخابات السابقة، يستعد النظام المخزني لتمرير طبخة سياسية رجعية جديدة يوم 7 أكتوبر 2016 ضدا على مصالحكم ومطامحكم وحقكم في نظام سياسي ديمقراطي لا مكان فيه للاستبداد والفساد، وسيجند لهذا الغرض مختلف إمكانياته من وسائل إعلام و"محللين" ومخبرين وجمعيات مأجورة وأحزاب رجعية وانتهازية ومرشحيها الوصوليون الذين يروجون لخطابات التزييف والتغليط، ويسوقون لديمقراطية مزيفة ووعود كاذبة بمستقبل زاهر . إنهم سيحاولون إقناعكم بالمشاركة في التصويت لتزكية خريطة سياسية مطبوخة سلفا خدمة للدولة المخزنية.. إنهم بذلك يضعونكم إمام اختيارين: إما قوى رجعية بأقنعة دينية أثبتت التجربة السابقة ولاءها للأعتاب المخزنية بتنفيذ كل القرارات والمشاريع التقشفية المملاة من طرف الامبريالية المعادية لصالح شعبنا (الزيادة في الأسعار مع تجميد الأجور والمعاشات، تخريب نظام التقاعد، الإجهاز على حق الإضراب، ضرب الخدمات العمومية، وخاصة الإجهاز على التعليم العمومي والصحة العمومية، والبنية التحتية، والتفشي المهول للعطالة...)؛ أو قوى مخزنية تحمل شعرات حداثية مزيفة تضمن استمرار مصالح الكتلة الطبقية السائدة ببلادنا وما يترتب عنه من تهميش .. فلنكن جميعا في الموعد يوم 7 أكتوبر ونعبر من خلال المقاطعة عن رفضنا الجماعي لهذه الانتخابات المغشوشة". ورغم هذه الأصوات المعارضة الداعية إلى المقاطعة، تابعت كل مكونات النخب الحزبية حملاتها الانتخابية، بما فيها تلك التي قررت عدم الترشح لهذه الانتخابات، كحزب القوات المواطنة، لحث الناخبين على المشاركة. وفي خرق صارخ للقوانين الانتخابية التي تمنع أي دعاية بعد انتهاء مدة الحملة الانتخابية، وعلى عكس ما تضمنته مذكرة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بشأن منع القيمين الدينيين من أئمة ووعاظ من المشاركة في هذه الانتخابات من خلال الخطب أو الدروس الدينية للدعاية لصالح أحد الأحزاب المتنافسة، وظفت خطبة الجمعة 7 أكتوبر 2016 لحث المصلين على الذهاب إلى التصويت. وكان موضوع هذه الخطبة التي أرسلتها وزارة الأوقاف إلى مختلف مندوبياتها بمدن وأقاليم المملكة حول أهمية الانتخابات باعتبارها "حدثا عظيم الشأن وجليل القدر في الحياة السياسية للمملكة ومسارها الديمقراطي". وتنفيذا لذلك، دعا عدد من خطباء الجمعة، في مختلف مساجد المملكة، المصلين إلى التصويت في الانتخابات الجارية ذلك اليوم، مستشهدين في ذلك بفقرات من خطاب العرش الذي ألقي في 30 يوليوز من السنة نفسها حول "دعوة الهيئة الناخبة إلى اختيار أعضاء مجلس النواب"، وأن "المواطن هو الأهم في العملية الانتخابية وليس الأحزاب والمرشحين، وهو مصدر السلطة التي يفوضها لهم، وله أيضا سلطة محاسبتهم أو تغييرهم، بناء على ما قدموه خلال مدة انتدابهم"، و"وجب عليه تحكيم ضميره لاختيار مرشحه واستحضار مصلحة الوطن والمواطنين بعيداً عن أي اعتبارات كيفما كانت". لكن يبدو أن كل هذه الجهود التي بذلتها السلطة من خلال تعبئة أجهزتها الدينية والإعلامية والإدارية لم تسفر عن تصويت مكثف للناخبين، إذ تم تسجيل نسبة 43 %، التي تعكس أن ثلتي الناخبين المسجلين لم يذهبوا إلى التصويت، ما يعني أن قسما كبيرا من المواطنين لا يراهن على أن هذه الانتخابات ستغير من الوضع السياسي الذي يسود فيه الملك ويحكم بشكل شبه مطلق. كما ساد اقتناع لدى شرائح واسعة من الفئات الوسطى والكثير من الشباب المنتمي إلى الفئات الشعبية بأن هذه الانتخابات ما هي إلا آلية من آليات تكريس الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد، بالإضافة إلى أن ارتفاع نسبة المقاطعة يرجع إلى أن مختلف الأحزاب التي تلقت دعما ماليا من طرف الدولة للمشاركة في هذه الانتخابات لم تنجح في استمالة غالبية الناخبين بسبب سوء العرض السياسي المقدم من طرفها، والذي تميز بالخطاب الشعبوي، وبنوع من الشخصنة السياسية، وبالترحال الحزبي، وتشابه البرامج الحزبية، وضعف التواصل التلفزي لجل مرشحي ومرشحات الأحزاب المشاركة في هذه الانتخابات. 2- تكريس الثنائية الحزبية على عكس كل الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب منذ 1963، أسفرت نتائج هذه الانتخابات لأول مرة في التاريخ الانتخابي للمغرب عن اقتسام حزبين أهم المقاعد النيابية المتنافس حولها، إذ حاز حزب العدالة والتنمية المتصدر 127 مقعدا، في حين حصل غريمه الأصالة والمعاصرة على 102 من المقاعد، وذلك على حساب التراجع الكبير للأحزاب الأخرى، وعلى رأسها حزب الاستقلال الذي أتى في المرتبة الثالثة ب46 مقعدا، أي بفارق 56 مقعدا عن الأصالة والمعاصرة المحتل للترتيب الثاني و71 مقعدا عن حزب العدالة والتنمية المحتل للمرتبة الأولى. وعكست هذه النتائج تبلور ظاهرة جديدة في المشهد السياسي بالمغرب، تتمثل في ثنائية حزبية تهيمن لأول مرة على التعددية الحزبية التي تمركز حولها المشهد الحزبي منذ نشأته. فحظر الحزب الوحيد الذي شكل ثابتا من ثوابت المنظومة الحزبية منذ تكونها أدى إلى خلق تعددية حزبية تمحورت بالأساس حول حزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحركة الشعبية، بالإضافة إلى أحزاب عادة ما تنعت بالأحزاب الصغرى. وحافظت هذه المنظومة على هذه الثوابت رغم تدخل السلطة المتواصل لخلق ما كان يسمى بأحزاب الإدارة، إذ كان يتم الحرص على الحفاظ على تقارب القوى لا من حيث عدد المقاعد النيابية أو المقاعد المحلية؛ وبالتالي كسرت انتخابات 7 أكتوبر 2016 هذه القاعدة بإفراز هذه الثنائية الحزبية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة. ويمكن أن نرجع هذا التقاطب غير المسبوق بين هذين الحزبين إلى مجموعة من العوامل، أهمها: – المعطى الأول سياسي تجلى في أن تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة قام بالأساس على احتواء توسع حزب العدالة والتنمية داخل الرقعة السياسية؛ وبالتالي العمل على تقليص اتساع نفوذه السياسي من خلال التشويش على تحالفاته المحلية بعد الانتخابات الجماعية سنة 2009، أو منافسته على الدور الذي لعبه داخل البرلمان من موقعه في المعارضة، بالإضافة إلى تشكيل مجموعة الثمانية لمنافسته انتخابيا. لكن يبدو أن نزول حركة 20 فبراير إلى الشارع وتنظيمها لمسيرات رفعت شعار إبعاد عراب هذا الحزب وصديق الملك، فؤاد عالي الهمة، لعب دورا حاسما في تواري هذا الأخير إلى الوراء ولجم الاندفاع السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة الذي اكتسح مختلف مكونات المشهد الحزبي. - المعطى الثاني هيكلي يرجع إلى تراجع مكونات الحركة الوطنية، كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي فقد امتداده الشعبي والنقابي وانسجامه الداخلي نتيجة تداعيات تجربته الحكومية التي أدى ثمنها السياسي غاليا، وكذا حزب الاستقلال وإن كان حافظ على تماسكه الداخلي فقد ضعفت قوته الاستقطابية نتيجة مساهمته في تسيير الشأن الحكومي، وكذا التغير الذي عرفته تركيبته القيادية التي تحولت إلى قيادة افتقدت الكثير من الكاريزما التي كان يحظى بها زعماؤه السابقون، أمثال بالافريج، وعلال الفاسي، وبوستة.. بالإضافة إلى أن الصراع الداخلي الذي احتدم بعد تولي حميد شباط لقيادة الحزب، وكذا الخطأ القاتل الذي ارتكبه بإجبار الوزراء الاستقلاليين على الانسحاب من حكومة بنكيران، والذي أدى إلى التأثير على مصداقية الحزب وتأثيره. -المعطى الثالث يتمثل في الشخصيتين اللتين تقودان كلا من حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة.. فالطابع الشعبوي الذي يميز كلا من بنكيران، الذي فضل حزبه التمديد في فترة ولايته، في خرق سافر لآلية الديمقراطية التي ينتهجها، وصعود إلياس العمري إلى قيادة الحزب بدلا من الباكوري، زاد من حدة هذا التقاطب وأدى إلى شخصنته بين هذين الشخصيتين الحزبيتين، فتركزت أنظار الناخبين على النزال الثنائي بينهما، سواء من خلال تنابزهما خلال التجمعات الخطابية، أو من خلال انتقاد سياسة حزبيهما، ليصل الأمر إلى علاقاتهما العائلية.. إذ انتقد بنكيران خصمه العماري ناعتا إياه بالمحافظ رغم خطابه الحداثي، لأنه لا يكشف وجه زوجته، ما جعل الأخير يصطحب زوجته يوم التصويت في رسالة رد مبطنة على هذا الادعاء. - المعطى الرابع يتمثل في المزايدة على الولاء للمؤسسة الملكية، إذ رفع حزب العدالة والتنمية شعار التحكم في مواجهة خصمه، معتبرا أن قوته يستمدها من محيط الملك؛ كما صرح بنكيران بأن المغرب تتقاسمه دولتان، دولة يحكمها الملك ودولة لا يدري من يحكمها، في وقت تحين حزب الأصالة والمعاصرة فرصة انعقاد المؤتمر المتوسطي للبيئة بطنجة، الذي نظم تحت "الرعاية الملكية السامية" وبحضور أخ الملك وقراءة الرسالة الملكية، في حين سجل غياب رئيس الحكومة، ما انتقد من طرف الحزب واعتبر إخلالا بمظاهر التوقير الملكي؛ في حين استغلت صورة وزير التجهيز المنتمي إلى حزب بنكيران للتأكيد على هذا الإخلال. وهذا بالطبع ما دفع الملك في أحد خطبه بضرورة عدم إقحام المؤسسة الملكية في أتون الصراع الانتخابي. - المعطى الخامس يتمثل في أن هذا التقاطب أدى إلى اصطفاف حزبي، انقسمت فيه الأحزاب الكبرى إلى معسكرين، اصطف الأول وراء حزب العدالة والتنمية، كحزب التقدم والاشتراكية الذي تحول إلى حليف إستراتيجي، وحزب الاستقلال، بعد الصفعة السياسية التي تلقاها أمينه العام حميد شباط بفقدانه معقله الانتخابي بفاس في الانتخابات الجماعية الأخيرة؛ في حين اصطف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتجمع الوطني للأحرار وراء حزب الأصالة والمعاصرة. وقد أدى هذا الاصطفاف إلى احتراب سياسي جعل الديوان الملكي يصدر بلاغا قويا ضد الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، بعد استجواب صحافي ربط فيه بين حزب الأصالة والمعاصرة وبين أحد مستشاري الملك، ما خلق ضجة إعلامية وصحافية استهدفت شخصيا الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية؛ ما اعتبر نوعا من التشويش السياسي على التحالف بين نبيل بن عبدالله وبنكيران، والبحث عن فك الارتباط بينهما في عملية إضعاف لبنكيران وحزبه. - المعطى السادس يتجسد في محاولة تجييش الشارع العام من خلال تلك المسيرة الشعبية التي نظمت بالدارالبيضاء، والتي رفعت فيها شعارات ضد رئيس الحكومة، ما جعل حزب العدالة والتنمية يتهم بعض أجهزة وزارة الداخلية بمساندة حزب الأصالة والمعاصرة. وعموما، تعتبر نتائج هذه الانتخابات استثنائية في تاريخ الانتخابات بالمغرب نظرا لأنها، وبخلاف المنطق السياسي الذي يتحكم في العمليات الانتخابية في مختلف الأنظمة الديمقراطية، منحت الفوز لحزب يتصدر الحكومة، وجددت الثقة في رئيسها الذي اتخذ جملة من القرارات تضررت منها فئات واسعة من الشرائح الوسطى والشعبية، وعلى رأسها الموظفون والمأجورون، والتي كان من أهمها إلغاء دعم الدولة عن المحروقات، وكذا إصلاح الصندوق الوطني للتقاعد، في وقت تراجعت انتخابيا كل الأحزاب المكونة لهذه الحكومة، كالتجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، وكذا حزب الاستقلال الذي شارك في النسخة الأولى لحكومة بنكيران، قبل أن ينسحب وزراؤه منها. كما أن هذه الانتخابات بمنطقها الغريب ضاعفت من مقاعد حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أتى في المرتبة الثانية، وهو الحزب الذي لم تمض على تأسيسه سوى 8 سنوات، ما يطرح تساؤلات عميقة حول الميكانيزمات الخفية والمعلنة التي تحكمت في هذه الانتخابات، والتي أسفرت في نهاية الأمر عن هذه الثنائية القيصرية. ولعل الجواب عن هذه الأسئلة يكمن في نسبة المقاطعة المكثفة للهيئة الناخبة، التي أدركت إما عن وعي أو بحس سياسي أن مصدر السلطة مازال لا ينبع من صناديق الاقتراع رغم شفافيتها، ما دام أن الإرادة الشعبية مازالت تابعة للإرادة الملكية، ومنطق الرعية بمختلف تلويناته القبلية، والزبونية، والشخصية، والعاطفية، مازال لم يتحول بعد إلى منطق الشعب بحصانته السياسية والاقتصادية والفكرية والإرادية.