مازال المحللون والملاحظون والرأي العام الداخلي يتابعون بترقب المخاض السياسي لحكومة بنكيران الثانية، الذي بدا أكثر عسرا من مخاض حكومته الأولى، وذلك على الرغم من تصدر حزب العدالة والتنمية لنتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016. إذ بعد إعادة تعيين الملك مباشرة لبنكيران كرئيس للحكومة وتكليفه بتشكيل الائتلاف الحكومي المقبل دخل هذا الأخير في مشاورات مع بعض الأحزاب بدت لأول وهلة سهلة لتتعقد بانتخاب وزير الفلاحة السابق أخنوش رئيسا لحزب التجمع الوطني للأحرار، الذي رفع من سقف شروطه السياسية، ما جعل المشاورات حول تشكيل الحكومة تتعثر وتطول. ومما عكس هذا النوع من الترقب و"الانتظارية" تصريح رئيس الحكومة المعين، بعد تفويض من الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بإطلاق جولة ثانية من المشاورات الخاصة بتشكيل أغلبيته الحكومية، بأن "مشاورات تشكيل الحكومة تعاني من "الانتظار"، موضحا أنه ينتظر "حسم الاتحاد الاشتراكي مشاركته في الحكومة المقبلة، بغية الانتقال إلى المناقشة التفصيلية"، كما أنه مازال ينتظر رد رئيس التجمع الوطني للأحرار حول المشاركة في الحكومة، في غياب أي موقف جديد منذ اللقاء الذي جمعهما يوم 30 أكتوبر 2016. ولعل ملابسات هذا الوضع تذكر بأجواء المشاورات التي أحاطت بتشكيل حكومة بنكيران الأولى، وخاصة في نسختها الثانية التي استغرقت وقتا أطول بسبب صعوبة المفاوضات وتعقدها، بالإضافة إلى ما أحيطت به من أجواء التكتم والسرية. 1- شفافية المفاوضات وتشكيل الحكومة لوحظ اختلاف كبير بين الكيفية التي أدار بها بنكيران مشاوراته بشأن تشكيل الحكومة في نسختها الأولى، والتي اتسمت في مجملها بالشفافية والانفتاح بشكل كبير على وسائل الاتصال العمومي، وأجواء التكتم الشديد التي أحاط بها تشكيل حكومته في نسختها الثانية. وحاول بنكيران، منذ تعيينه على رأس الحكومة، أن ينهج أسلوبا مختلفا في التعامل مع الرأي العام والفرقاء السياسيين الذين كانوا يرغبون في التحالف معه لتشكيل حكومته، إذ أكد على ضرورة أن يتم ذلك في إطار مؤسسي، بعيدا عن الأبواب الخاصة المقفلة.. وهكذا شرع في مشاوراته الرامية إلى تشكيل الحكومة الجديدة، بلقاء عباس الفاسي، بصفته أمينا عاما لحزب الاستقلال، مصرحا للقناة التلفزية «الأولى» ضمن إحدى نشراتها المسائية، بأن لقاءه مع الفاسي يأتي في إطار ما سبق الإعلان عنه بخصوص ميله إلى التحالف مع أحزاب الكتلة الديمقراطية لتشكيل الحكومة المقبلة، ومشيرا إلى أنه سيجري مشاورات مماثلة مع حزبي «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتقدم والاشتراكية». وأكد بنكيران أن هذا اللقاء «كان وديا وحدث فيه تفاهم في المراحل الأولى من التشاور حول كل ما يهم الحكومة الجديدة التي نسعى إلى تشكيلها». كما أعلن رئيس الحكومة المكلف أنه بدأ اتصالات مع كل من الأمين العام لحزب «الحركة الشعبية»، امحند العنصر، والأمين العام لحزب «الاتحاد الدستوري»، محمد أبيض، مضيفا أنه لم يتم الاتصال بالأمينين العامين لحزبي «الأصالة والمعاصرة» و»التجمع الوطني للأحرار»، لأنهما اتخذا القرار بالتموقع في صف المعارضة. كما أنه بخلاف عبدالرحمان اليوسفي، الذي اتخذ من بيت الحليمي مقرا لمفاوضاته وتشاوراته مع أمناء الأحزاب التي دخلت ائتلافه الحكومي، حرص بنكيران أن يكون مقر العدالة والتنمية بشارع الليمون مكان استقباله لحلفائه ومشاوراته معهم، مع إحاطة الرأي العام بكل ما يدور بهذا الشأن. وهكذا درج بنكيران، خاصة في بداية المشاورات، على استقبال شركائه في الأغلبية الحكومية على السلم المؤدي إلى مكتبه في الطابق العلوي من المقر المركزي لحزب العدالة والتنمية. كما كان يرافقهم، حين المغادرة، حتى أبواب سياراتهم أمام عدسات وميكروفونات الصحافة. كما خلق رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، تقليدا جديدا في التعامل مع وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية بأن جعل من كل المعلومات الخاصة بالتفاوض والمباحثات مع الأحزاب السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة أمرا متاحا لها؛ وتمثلت خرجاته الإعلامية على الخصوص في عقد ندوة صحافية أولى تحدث فيها عن الاتصالات التي أجراها مع أطراف سياسية بعد فوزه في الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر 2011، كما عقد ندوة صحافية ثانية بعد المرحلة الثانية من المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة، ثم لقاء مع عدد من وكالات الأنباء الأجنبية المعتمدة بالمغرب ووكالة المغرب العربي للأنباء. وتجلت أهم مميزات الجانب التواصلي لعبد الإله بنكيران في تقديمه، بعد انتهاء كل لقاء أو تفاوض مع الأحزاب الثلاثة (الاستقلال والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية)، تصريحا حول ما تم تداوله من القضايا التي تهم التنسيق وترتيب الأوراق الخاصة بتشكيل الحكومة. وكان لا يمر يوم من المفاوضات دون أن يكون هناك تصريح لرئيس الحكومة المعين، يوضح فيه أهم القضايا التي تم الاتفاق حولها، والتي استأثرت بالنقاشات السياسية بين الأحزاب التي شكلت الائتلاف الحكومي بزعامته. وبقي هذا الجو من الشفافية سائدا إلى حين تنصيب الحكومة من طرف الملك. 2- سرية المفاوضات وتعديل الحكومة بعد انسحاب الوزراء الاستقلاليين من حكومة بنكيران وجد الأخير نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما إما التحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار أو الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها. ووجد بنكيران نفسه مضطرا للتحالف مع "خصم الأمس"، صلاح الدين مزوار، وذلك درءا لانتخابات سابقة لأوانها قد تعيد حزب العدالة والتنمية من جديد إلى صفوف المعارضة، وكذا لأن كلا من حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بما يتوفران عليه من مقاعد تمكنه من تكوين أغلبية برلمانية وتشكيل حكومة، عبرا عن رفضهما التحالف معه، خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي أكد استمراره في معارضة حكومته، وعبر عن رغبته في إعادة إحياء كتلة معارضة مع حزب الاستقلال. وبعدما فضل بنكيران الحل الأول، كان من الضروري أن يخضع لمطالب هذا الحزب الذي كان له هامش من الحرية لإملاء كل شروطه على رئيس الحكومة. ولم يفوت صلاح الدين مزوار فرصة الثأر لحزبه من بنكيران، الذي وجد نفسه في موقف ضعف سياسي واضح. وانعكس هذا الضعف من خلال مظهرين أساسيين تمثلا في: * اضطرار رئيس الحكومة حتى يكسر الجدار النفسي وتسهيل بدء المفاوضات مع حليفه الجديد إلى تقديم اعتذار مبطن عن الانتقادات التي كانت وجهت إليه من بعض أعضاء الحزب. فقد صرح مزوار بأنه أثار في أول لقاء مع بنكيران التصريحات والاتهامات التي كالها إليه هو وقيادات حزبه، والتي بلغت أوجها عندما تم اتهامه بالحصول على «بريمات» غير قانونية. بنكيران لم يجد بدا من الاعتراف بأنه «كان غالط.. وملي عرف بأن هذا البريمات قانونية ما بقاش ثار الموضوع أو تكلم عليه». بالإضافة إلى ذلك دعا بنكيران أعضاء حزبه بعدم مهاجمة مزوار في قضية "البريمات" المعروفة. *القبول المبدئي بالشروط التي تضمنتها مذكرة حزب التجمع للانضمام إلى حكومة بنكيران، والتي كان من أهمها: إعادة صياغة البرنامج الحكومي الذي سبق أن صوت ضده "الأحرار"، وتوزيع الحقائب الوزارية من جديد، في وقت كان يعتزم بنكيران تعويض "الأحرار" لوزراء الاستقلال المستقيلين، وهو ما رفضه صلاح الدين مزوار مشددا على أن حزبه لن يكون "عجلة احتياط". وفي هذا السياق أكد مصدر رفيع المستوى من التجمع ليومية "الصباح"، في عدد الثلاثاء 28 ماي 2013، أن "تغيير الخطاب من قبل مزوار في لقاء وكالة المغرب العربي للأنباء، الذي قال فيه إن أجهزة الحزب هي التي تقرر في المواقف الكبرى، إشارة دالة على استعداد الحزب لقبول أي عرض من بنكيران للمشاركة في الحكومة، لكن بشروط تمليها قيادة الحزب، حتى لا يتحول إلى عجلة احتياطية". ولعل تفاوض رئيس الحكومة مع حزب التجمع من هذا الموقع الهش أو ما يشبه موقف المضطر انعكس بشكل كبير على طبيعة مفاوضاته مع مزوار، التي اتسمت ببطئها، وطول مدتها، بالإضافة إلى أجواء التكتم التي أحاطت بها : التكتم حول المشاورات بخلاف أجواء الشفافية التي أحاطت بتشكيل حكومة بنكيران الأولى، ساد تكتم شديد الأجواء التي أحاطت بتشكيل النسخة الثانية بعد انسحاب حزب الاستقلال بزعامة حميد شباط، وقبول حزب التجمع الوطني للأحرار الانضمام إلى الحكومة. فمنذ بداية المفاوضات وجد الصحافيون صعوبة كبرى في استقاء الأخبار ومتابعة تطورات المفاوضات بين بنكيران وصلاح الدين مزوار. وبمجرد حصول بنكيران على تفويض من طرف أعضاء الأمانة العامة لحزبه للتفاوض مع رئيس حزب التجمع بشأن ترميم حكومته، وجهت تعليمات من طرفه لمختلف قياديي الحزب بعدم الإدلاء بأي تصريحات بشأن هذه المفاوضات للصحف. ورفض ادريس الأزمي الإدريسي، الوزير المكلف بالميزانية، الذي حل ضيفا على برنامج “قضايا وآراء”، مساء الثلاثاء 10 شتنبر 2013، لمناقشة نتائج التقرير الاقتصادي لسنة 2012، الإجابة عن سؤال لمعد البرنامج عبد الرحمان العدوي بشأن نتائج مشاورات بنكيران في ما يخص ترميم الأغلبية الحكومية، وقال: "لست هنا للإجابة عن هذا السؤال، وإذا كنت- موجها الخطاب للعدوي- تبحث عن إجابة بخصوص المشاورات حول التشكيلة الجديدة للحكومة المقبلة فقد أخطأت العنوان؛ وأضاف: "لسنا هنا لمناقشة الأمور الخاصة وإنما لمناقشة قضايا عامة". كما أوضح وزير الاتصال، مصطفى الخلفي، في لقاء صحافي سئل خلاله عن تطور المفاوضات بشأن تشكيل الحكومة في نسختها الثانية أنه لا يملك أي معطيات حول مسار المفاوضات مع حزب التجمع الوطني للأحرار، مشيرا إلى أن رئيس الحكومة هو المخول له الحديث عن ذلك، وهو وحده من يملك آخر المستجدات. ولم يقتصر الأمر على قياديي حزب العدالة والتنمية، بل شمل أيضا مفاوض بنكيران، الذي طلب من مزوار عدم الحديث للصحافة والسعي نحو مفاوضات سرية لضمان نجاحها، وهو ما كان يلتزم به. ويمكن أن نرجع تكتم بنكيران إلى عدة عوامل من أهمها : - إدراكه لحساسية الظرفية السياسية التي تجري فيها هذه المفاوضات، والتي تتسم بتراجع الزخم السياسي الذي سهل تشكيل حكومته الأولى، سواء على الصعيد الإقليمي بعد الانقلاب على مرسي بمصر، وصعوبات حكومة حزب النهضة بتونس، أو على الصعيد الداخلي بعد انسحاب حليف كبير من حكومته كحزب الاستقلال الذي يجر وراءه تجربة طويلة في إدارة شؤون الدولة بزعامة شخصية قيادية كشباط، تنافس بنكيران في خطابه ولغته الشعبوية، تحوله إلى خصم عنيد أصبح يطالب بحل حزب العدالة والتنمية. - وجود تيار داخل حزب العدالة والتنمية يفضل عدم التحالف مع حزب كان إلى وقت قريب خصما للحزب الإسلامي وكان زعيمه محط انتقادات شديدة من طرفه، وخوض انتخابات سابقة لأوانها حفاظا على مصداقية الحزب السياسية. ولعل ما عكس ذلك التصريح الذي أدلى به عبد العزيز أفتاتي لصحيفة "هسبريس"، إذ لمح إلى وجود "جزء من المزاج السائد داخل حزب العدالة والتنمية يفضل تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، وهو الشيء نفسه لدى قطاع من الرأي العام". - بطء المفاوضات اتسمت المفاوضات بين رئيس الحكومة وحليفه الجديد مزوار، بالإضافة إلى مشاوراته مع باقي مكونات الائتلاف الحكومي ببط ء شديد، إذ حرص فيها كل طرف على تحقيق مطالبه في أجواء من الحذر والتكتم والشكوك. بعد اللقاء الأول على مائدة الإفطار بين رئيس الحكومة وحليفه الجديد، والذي ترك أثرا إيجابيا في نفسية الأخير، إذ إن بنكيران لم يضع أي شروط تذكر عندما عرض عليه بشكل رسمي الانضمام إلى التشكيلة الحكومية الجديدة، بعث صلاح الدين مزوار، الذي أحرز على تفويض من برلمان حزبه بإدارة المشاورات مع رئيس الحكومة، بمذكرة إلى بنكيران، تتضمن المحددات المبدئية لانضمام "حزب الحمامة" إلى أحزاب التحالف الحكومي. ومباشرة بعد تلقيه المذكرة هاتف بنكيران صلاح الدين مزوار، يدعوه إلى عقد لقاء عاجل في مقر رئاسة الحكومة. ومن ثمة دخل الطرفان في مفاوضات مارطونية تجاوز عددها ست جولات، ما أظهر للمتتبعين وللرأي العام أن هناك عدة صعوبات تعقد عملية التفاوض وتؤخر إعلان ميلاد النسخة الثانية من الحكومة. ولعل مرد هذه الصعوبات يكمن بالأساس في عدة عوامل من أهمها : - تفاوض رئيس الحكومة من موقع أبان فيه لحليفه عن حاجته الماسة إلى مشاركة حزبه، إذ لم يؤكد في بداية أول لقاء مع الأمين العام للتجمع على أي شروط مسبقة، ما دفع الأخير إلى رفع سقف مطالبه. ومما يؤكد ذلك ما صرح به أحد قياديي التجمع عندما أشار إلى أن "بنكيران كان شديد الحرص على عدم إثارة أي شيء من شأنه أن ينغص أول لقاء مع مزوار". وقال مصدر موثوق كان قريبا من الاجتماع إن «ابن كيران دار فيها طبيب نفساني باش يخلي مزوار أليز». «والو ما تكلمانش في الحقائب الوزارية.. حتى مزوار ما خبرناش آش قاليه ابن كيران بهذا الخصوص»، يستطرد المصدر ذاته في إشارة إلى أن بنكيران لم يتجاوز عرض المشاركة على مزوار، دون تقديم شروط مسبقة.. وهو «الأمر الذي أثار استغرابنا» يقول المصدر، مبرزا أن هذا الأمر حرض العديد من أعضاء المكتب السياسي على رفع سقف شروط المشاركة في الحكومة، بمبرر أن المشاركة بأي ثمن ستهز الحزب أمام الرأي العام الوطني وستكرس مقولة أنه بالفعل «مجرد عجلة احتياط». - الضغوطات التي مورست على بنكيران من داخل حزبه والمتمثلة في أصوات مجموعة من القيادات الرافضة للتحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار. فبنكيران الذي منحته الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية إمكانية الشروع في المفاوضات الأولية بتنسيق مع قادة الأغلبية، اصطدم بأصوات داخل برلمان حزبه أكدت رفضها الرضوخ لشروط حزب التجمع الوطني للأحرار، وأوضح أحدهم أن «حزبه لن يرضخ بسبب البحث عن الأغلبية العددية لشروط غير مقبولة أو مبالغ فيها» في إشارة إلى أي شروط محتملة قد يضعها الأحرار للدخول إلى الحكومة، مؤكدا أنه "في هذه الحالة فإن الخيار الذي يجب تأييده هو الذهاب إلى صناديق الاقتراع مهما كانت التكلفة". كما لم يخف قياديون من "حزب المصباح" قبل انطلاق المشاورات الأولية أنهم ضد أي سيناريو ترميم الأغلبية الحالية، وكشفوا أنهم مع الانتخابات السابقة لأوانها، ومن بينهم البرلماني عبد العزيز أفتاتي، كما لا يخفون أنهم يتمنون فشل مفاوضات أمينهم العام مع التجمع الوطني للأحرار كي يقنعوه بالذهاب إلى خيار «حط السوارت«، والدعوة إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها. كما وجد بنكيران صعوبة كبرى في إقناع بعض أعضاء حزبه، خاصة المتشددون منهم، بتخلي الحزب عن وزارة المالية وإسنادها إلى الأمين العام لحزب التجمع. ويرى مراقبون أن تعيين صلاح الدين مزوار كوزير للاقتصاد والمالية كان سيضع بنكيران في موقف حرج، على اعتبار أن مزوار يواجه تهما سابقة بالفساد، تعود إلى فترة وجوده في المنصب نفسه ضمن حكومة عباس الفاسي عام 2007، والتي كانت مثار عدة انتقادات من طرف أعضاء ونواب حزب العدالة والتنمية. ولعل هذا ما حاول بنكيران استباقه من خلال الموافقة على تعيين عزيز أخنوش، وزير الفلاحة في حكومته، والذي كان محسوبا على حزب التجمع في حكومة عباس الفاسي، في هذا المنصب. كما وجد بنكيران صعوبة كبرى في لجم الفريق الذي شن حملة ضد مزوار، جعلته يهدد بالانسحاب من المفاوضات. ولعل هذا ما أكده أحد الصحافيين، حين أشار إلى أن "أكثر ما كان يعقد سير المفاوضات بين بنكيران ومزوار هو مواقف صقور الحزب، والحملة التي يشنها الجيش الإلكتروني للعدالة والتنمية وذراعه الإعلامي للضغط على مزوار وتليين مواقفه، موضحا أن الأخير هدد مرات متعددة بترك الجمل بما حمل، لكن بنكيران كان يقنعه بأن ما يهم هو موقفه وليس ما يعبر عنه صقور الحزب من مواقف مختلفة.. كما أضاف أن "زعيم الأحرار كان يفاجأ غداة كل جولة بعكس ما يصرح له به بنكيران، إذ ظل صقور "حزب المصباح" وذراعه الإعلامي يهاجمانه بشكل اتخذ أشكالا عنيفة مع انتهاء المفاوضات". - الضغوطات التي مورست على بنكيران من قبل حليفيه في الحكومة، حزبي الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية. فالأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، نبيل بنعبد الله، أكد مرارا استعداده للانسحاب من الحكومة في حال تم توسيع دائرة التحالف الحكومي إلى أكثر من حزب واحد، فيما رأى حزب الحركة الشعبية في تشكيل النسخة الثانية من الحكومة فرصة للمطالبة بحقائب إضافية، اغتنم فرصة مطالبة الحليف الجديد بأن لا تقتصر المفاوضات على مجرد ترميم الحكومة الحالية، وإعادة تشكيل أغلبية جديدة للمطالبة بإعادة النظر في التركيبة الحكومية بمجملها، والمطالبة بمنحه حقائب إضافية. - الضغوط الممارسة على الأمين العام للتجمع، إذ أكد بعض قياديي هذا الحزب بأنهم لن يقبلوا دخول الحكومة لمجرد ملء المقاعد التي سيغادرها وزراء حزب الاستقلال، بل إن الحزب يبحث عن أن تكون له قيمة مضافة في حال الانضمام إلى الأغلبية الحكومية، إلى جانب أن مزوار وجد صعوبة كبرى في ترضية كل طموحات قياديي حزبه للاستوزار، وقبول أسماء دون أخرى. - طول مدة المفاوضات لاحظ المتتبعون بأن إعادة تشكيل بنكيران لحكومته في طبعتها الثانية استغرق وقتا أكثر من تشكيله لحكومته الأولى، خاصة أن الأمر لا يتعلق في آخر المطاف إلا بتعديل حكومي لا يتطلب كل هذا الوقت. فأكثر من شهرين، وعقد أكثر من ست جولات، أظهر للعديد من المراقبين ولشرائح واسعة من الرأي العام أنه يثير الكثير من الاستغراب، خاصة في ضوء مجموعة من الانتظارات التي تهم بالأساس وبشكل آني مناقشة مشروع الميزانية للعام المقبل، وافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان. فالذين تابعوا اللقاءات والمشاورات التي تمت بين بنكيران ومزوار منذ أزيد من شهر، لم يفهموا سبب هذا التعثر الكبير في الإفراج عن النسخة الثانية من الحكومة. لكن يبدو أن استغراق المفاوضات بين الطرفين كل هذا الوقت لا يرجع فقط إلى الضغوط النفسية والسياسية التي كان يشتغل فيها الطرفان، وليس فقط إلى أجواء العطلة الصيفية والرمضانية التي دارت فيها هذه المفاوضات، بل بالأساس إلى اختلاف في التصور بين الطرفين المتفاوضين: - فرئيس الحكومة انطلق منذ البداية على أن انضمام التجمع إلى حكومته الائتلافية سيكون فقط لملء المقاعد الوزارية التي تركها وزراء حزب الاستقلال الخمسة، في وقت ألح التجمع على ضرورة أن يتم هذا الانضمام على أساس تغيير جذري في البرنامج الحكومي، إذ لا يعقل أن يتم قبول برنامج كان ينتقده الحزب عندما كان في المعارضة. وبالتالي كان هناك تباين واضح في أرضية التفاوض بين الرجلين، فكان بنكيران لا يرى في دخول وزراء مزوار إلا "ترميما" لحكومته، في وقت كان مزوار يرى أن انضمامه للحكومة سيكون من خلال موقع حليف رئيسي على غرار حزب الاستقلال، حتى وإن لم يتوفر على عدد مقاعده البرلمانية، وليس كعنصر احتياطي لجأ إليه لملء المناصب الشاغرة التي تركها الوزراء الاستقلاليون.. - إصرار التجمع الوطني للأحرار على إعادة هيكلة بعض الوزارات، بما يعنيه ذلك من استبعاد وزراء من مناصبهم، وهذا ما سيحدث على الأقل في وزارة الاقتصاد والمالية، حيث سيجد اليزمي نفسه خارج الحكومة. كما سيجعل كل الوزارات، أو على الأقل الأقطاب الوزارية، موضوع تعديل كبير. - رغبة مزوار في تغيير بعض الوجوه الحكومية، وهو ما أغضب بنكيران، خاصة بالنسبة لسعد الدين العثماني، الرجل الثاني في الحزب، الذي تبين أن صلاح الدين مزوار لمح إلى عدم إمكانية استمراره على رأس وزارة الخارجية. ولعل هذا التباين في منطق وأرضية التفاوض هو الذي ساهم في تعثر المفاوضات منذ بدايتها، وجعل عبد الإله بنكيران يغلق باب الحوار لفترة، استغلها للسفر، وهي الفترة نفسها التي منحت لصلاح الدين مزوار لإعادة النظر في المنطق الذي كان يفاوض به رئيس الحكومة، والذي يعطي الانطباع، على الأقل بالنسبة لبنكيران، بأنه هو المتحكم في المفاوضات. وكان لطول مدة المفاوضات التي بدأت منذ 23 يوليوز 2013، وإحاطتها بسرية وتكتم من الجانبين، نتائج سلبية تمثلت بالأساس في: - خلق جو عام مشحون بعدة إشاعات وتسريبات شككت في استقلالية المفاوضين، إذ علم من مصادر مقربة من قيادة “الأحرار” أن مزوار علق مؤقتا مشاوراته مع بنكيران، إثر التسريبات التي نشرت في بعض الصحف، ومفادها أنه يتلقى توجيهات من خارج قيادة حزبه في مشاوراته مع بنكيران. ولنفي هذه الإشاعات وتفنيدها قام مزوار بنشر بيان مطول ينفي فيه تلقيه أي تعليمات بشأن مفاوضات انضمامه إلى الحكومة. وبهذا الصدد كتبت الصحفية لطيفة العروسي بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 7 شتنبر 2013 ما يلي : "نفى صلاح الدين مزوار، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، المغربي المعارض، تلقيه «تعليمات» بشأن سير المفاوضات بينه وبين عبد الإله ابن كيران، رئيس الحكومة، وهي المفاوضات المتعلقة بانضمامه إلى التحالف الحكومي الحالي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية؛ كما أكد رفضه أي ضغوط تمارس على حزبه. وفي هذا السياق، أوضح مزوار أن «أحد أسباب استغراق المفاوضات هذه المدة التي قد يعتبرها البعض طويلة، يتمثل في ضرورة بناء التجربة الحكومية الجديدة على أساس متين، سواء لاتقاء الصراعات داخل الأغلبية، أو لضمان فعالية الفريق الحكومي وقدرته على تحقيق منجزات فعلية على الأرض، حتى لا يتكرر ما جرى في النسخة الأولى». وأضاف: «أؤكد أن المشكلة الحالية هي مشكلة الأغلبية وخاصة رئاسة الحكومة، وليست مشكلة (التجمع) الذي يوجد، حتى إشعار آخر، داخل المعارضة وفي وضع مريح. وإذا ما حاول المساهمة في إخراج الحكومة من مأزقها فذلك من موقع الغيرة الوطنية ليس إلا، ولا يمكن تحميله تحت أي مبرر مسؤولية انفراط الأغلبية والأزمة الحكومية». وأكد مزوار أن حزبه «التزم جملة وتفصيلا بمسطرة المفاوضات كما جرى الاتفاق عليها، وقدم تصوره لكافة الجوانب المتصلة بالموضوع، بشهادة الوثائق المتوفرة»، مشيرا إلى أن «تدبير المفاوضات من موقع حزبي تم بحسن نية، مراعيا مصلحة الوطن أولا، وأمانة التفويض الذي طوقني به المجلس الوطني للحزب المنعقد يوم الثاني من غشت الماضي». وأشار مزوار إلى أن الجهاز التقريري لحزبه ألزمه بضرورة الحرص على إعادة صياغة الأولويات، وإعادة النظر في ميثاق الأغلبية والهيكلة الحكومية. ومضى يقول إنه «بالقدر الذي يشرفني ويشرف حزبي لعب دور محوري في إنقاذ التجربة الحكومية وضمان حيويتها ومردوديتها، بالقدر الذي أرفض كما يرفض كل "التجمعيين" أن يكون هناك من ينظر إلى "التجمع" بعقلية التعالي والغرور الفارغ، وأي تعال أكبر من محاولة إجبار "التجمع" على قبول دور عجلة الاحتياط وحرمانه من الخوض في أمور الهيكلة الحكومية كما خاضت فيها الأحزاب الأخرى من أجل المشاركة في الحكومة». وقال مزوار إن حزبه «لن يخضع لأي ضغوط، كيفما كانت الوسائل والأدوات التي يجري استخدامها لذلك، وإن الحكومة الوحيدة التي يمكنه أن يعمل من داخلها هي حكومة تحترم الشركاء المكونين لها وتلتزم بأولوياتها وتضع مصلحة المواطن فوق الاعتبارات الضيقة، ولا يكون وسطها مجال للعب على الحبلين»، على حد تعبيره. وخصص مزوار حيزا كبيرا من بيانه للرد على ما تنشره صحيفة «أخبار اليوم» المغربية، بشأن المفاوضات، وقال إن الصحيفة تتحامل على حزبه وعليه شخصيا «عبر إطلاق أحكام تحقيرية واستفزازية أو اختلاق أخبار دون ذكر مصادر ودون أي أساس واقعي». ورفض مزوار «إقحام القصر الملكي» في شأن يخصه إلى جانب رئيس الحكومة، والادعاء بتلقيه تعليمات بشأن المفاوضات الجارية، وأن «التأخر ما كان ليحصل لو تلقيت التعليمات بالإسراع في قبول تشكيل الحكومة»، على حد تعبيره". - امتعاض باقي مكونات الائتلاف الحكومي؛ إذ صرح رشيد روكبان، عضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية المشارك في الحكومة، بهذا الصدد ل«الشرق الأوسط» ( 7 شتنبر 2013)، بأن أعضاء الديوان السياسي عبروا عن استياء عارم من طول المفاوضات بين مزوار وبنكيران في اجتماعهما الأخير، وطالبوا بتسريعها من أجل تشكيل تحالف جديد، أو المضي إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها. وكان بيان صادر عن الديوان السياسي للحزب دعا إلى «تسريع وتيرة المفاوضات من أجل تشكيل أغلبية حكومية جديدة بقصد تجاوز الوضعية الحالية في أقرب الأوقات». وعلى الرغم من طول هذه المفاوضات، فقد نجح حزب التجمع الوطني للأحرار في انتزاع حقائب وزارية ذات ثقل كبير، همت بالأساس وزارة الشؤون الخارجية والتعاون التي سحبت من العثماني، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، والتحكم في وزارة الاقتصاد والمالية من طرف بوسعيد، أحد تقنوقراطيي التجمع، بالإضافة إلى توسيع وزارة التجارة والصناعة والاستثمار والاقتصاد الرقمي وتسليمها لأحد المحسوبين على هذا الحزب، إلى جانب احتفاظ أخنوش بوزارة الفلاحة والصيد البحري الذي دخل في خلاف مع بنكيران حول صندوق لتمويل المشاريع الفلاحية. وهذا الأخير، الذي خلف مزوار على رئاسة التجمع، هو الذي دخل في معارك تفاوضية مع رئيس الحكومة بنكيران، حيث وضع شروطا لا تتناسب مع حصة المقاعد النيابية التي حصل عليها حزبه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وكان من بينها إبعاد حزب الاستقلال من الحكومة المقبلة رغم أنه حصل على الرتبة الثالثة في هذه الانتخابات ب46 مقعدا، في وقت لم يحصل حزب التجمع سوى على 37 مقعدا، مما جعل حزب الميزان يرد بقوة على هذا التنطع من خلال إحدى مقالات البقالي في جريدة "العلم". لكن هذا لم يمنع أخنوش من أن يشترط أيضا ضم حليفه الاتحاد الدستوري ضمن تشكيلة الحكومة المقبلة إلى جانب مطالبته بحصة وازنة من الحقائب الوزارية. من هنا يظهر أن طبيعة الانتخابات التشريعية بالمغرب (بنمط اقتراعها، وبنسبة المشاركة فيها، وبتقطيعها الانتخابي...) وتركيبة المشهد الحزبي (بتشردماته، وجمود بنياته القيادية، وتقلص قواعده الجماهيرية...) وتحكم المؤسسة الملكية في مكونات الحقل السياسي، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تعثر المشاورات وتعقد المشاورات حول تشكيل الحكومة، سواء ترأسها حزب العدالة والتنمية أو غيره، ما دام أن هذه الانتخابات لا تسفر عن أغلبية تمكن أي رئيس حزب من التحكم في ملابسات تشكيل حكومته، كما أن الفراغ الذي يعرفه دستور فاتح يوليوز 2011 الذي لا يحدد سقفا زمنيا لتشكيل الحكومة سيؤدي دائما إلى سيادة هذا النوع من الترقب والانتظارية الذي يسبق تشكيل أي حكومة جديدة. ولعل هذه المعطيات السياسية البنيوية هي التي تجعل الولادة الثانية لحكومة بنكيران تبدو عسيرة وقيصرية، ما انعكس من خلال تصريح بنكيران بأنه إذا "ما عجز عن تشكيل الحكومة فلن يدخل في أي متاهات"، مضيفا: "سأرجع إلى صاحب الجلالة وأخبره بأني فشلت في تشكيل الحكومة وأرجع إلى بيتي". ولعل هذا ما دفع الملك في خطابه من دكار إلى توجيه تقريع سياسي إلى النخب الحزبية المتنافسة وحثها على ضرورة تجاوز منطق توزيع الكعكة الانتخابية، وعدم الارتباط بالحسابات العددية في المطالبة بالحقائب الوزارية، ليرسم للحكومة المقبلة توجهها الإفريقي وبروفايل كفاءاتها التنفيذية. فالحكومة هي في نهاية المطاف هي حكومة جلالة الملك وليست حكومة بنكيران.