أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    العدو الجزائري يقحم الرياضة من جديد في حربه على المغرب    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجامعة الملكية لكرة القدم تتوصل بقرار ال"كاف" بشأن مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتاب المقدس ليس محرفا
نشر في هسبريس يوم 31 - 12 - 2016


2/2
حاولنا أن نبين في المقال الأول صدقية الكتاب المقدس، وهنا سنحاول الإجابة عن سؤال هام نسأل من خلاله كل المشككين: هل الكتاب المقدس محرفا؟
سترى الإجابة عند طرحك لهذا السؤال على المؤمنين بالكتاب المقدس ب"لاً"، وسترى الإجابة عند غير المؤمنين به ب"نعم"، فأيهما تصدق؟ الجواب الأول أم الثاني؟
عفوا، لا أطلب منك أن تصدق أحداً، لكنني أطلب منك برهاناً إذاً كنت تؤمن بمصداقية الكتاب المقدس أنه غير محرف، وأطلب منك أيضاً برهاناً على عدم مصداقيته إذا كنت من المدعين بتحريفه، وأنه كتاب قد لعبت فيه التحاريف من كل جانب! هذا ما نقبله وبغيره لا نقبل، هذا هو قوامنا المعرفي والبحثي للفهم والتميز بين الباطل والحق، لا نريد ولا نقبل لك ولنا أن تؤمن بشيء ما هكذاً لأنك رأيت الآخرين يؤمنون هكذا بما يتعلق بمصيرك الروحي، ولا نريدك ولا نريد لنا أن نقبل أن يعلمنا أحد مهماً علاً شأنه معرفة للحق من الباطل في هذا المبحث المصيري الشخصي المتفرد، فلنا عقول وإفهامات نستطيع أن نستعملها للتميز لا للتحيز، وللأمانة أقول إنني لا أومن بتحريف الكتاب المقدس، وللأمانة أقول أيضاً إنه قبل ستة عشر سنة كنت غير مؤمن بالكتاب المقدس ومن أشرس المتهجمين عليه ومن المشككين في صدقيته وفي صدقية المؤمنين به!
فما الذي تغير؟ هل تغير الكتاب المقدس بعد ستة عشر سنة؟
لاً، لم يتغير الكتاب المقدس منذ ستة عشر سنة، بل لم يتغير منذ آلاف السنين، لكن الذي تغير هو أنا!
فما الذي غيرنا؟ وكيف تغيرنا؟
سأحكي لك شيئاً عن علاقتي بهذا السؤال والإجابة عنه، ففي دراستي الثانوية بتسعينات القرن الماضي سأحصل على كتاب عنوانه "التوراة والإنجيل والقرآن في نور التاريخ والعلم" (1) لكاتب تونسي من أصول فرنسية اسمه "موريس بوكاي dr.maurice bucaille". كان هذا الكتاب كباقي الكتابات التي أكن لها شيئا من الاحترام؛ لأنها جعلتني أتمسك بيقين تام بأن الكتاب المقدس كتاب مُحرف، وكان هذا الكتاب يملأ المكتبات الجماعية على قلتها في ذلك الوقت وتراه يباع بكثرة بالمكتبات، خصوصاً بمنطقة الأحباس التي تروج للعديد من الكتب ذات الحمولة الفكرية والرمزية الهامة من خلال الكتاب العرب خصوصاً، هذا الكتاب تراه مصادفة كما تراه في كل الأمكنة التي تعج بالكتب القديمة أيضاً (الزاوية مثلاً بالمدينة القديمة)، وهو بالمناسبة من تمويل الجمعية الإسلامية الليبية التي يتزعمها سيف الإسلام القذافي آنذاك.
لكن في سنة 1998 بالضبط سأحصل على كتاب بالعنوان نفسه من أحد الأصدقاء لكاتب أمريكي اسمه "وليم كامبل dr. william kampbell"؛ أي بعنوان "القرآن والتوراة والإنجيل في نور التاريخ والعلم" (2) أعتقد أن العنوان كان هكذا إن لم تخنني الذاكرة. صاحب هذا الكتاب، حسب ما عرفته في ما بعد، هو طبيب أمريكي كان مقيماً بمدينة أسفي بسبعينات وثمانينات القرن الماضي، ولا أعرف هل هي صدفة أن يكون صاحب الكتاب الأول موريس بوكاي dr.maurice bucaille طبيب أيضأ، وهو بالمناسبة فرنسي الأصل حاصل على الجنسية التونسية.
قرأت في السابق الكتاب الأول بكل جدية كعادتي في القراءة البحثية، وقرأت الكتاب الثاني الذي هو عبارة عن رد على الكتاب الأول، ما أعجبني بداية هو الغيرة والضآلة المعرفية لهذين الكاتبين في التعبير عن معتقداتهما الإيمانية؛ فالأول مسلم (موريس بوكاي maurice bucaille) والثاني مسيحي (وليم كامبل william kampbell)، لست هنا بصدد تقييم للكتابين، فالقراء هم الأحق أن يبدوا محاسنهم في الكتابين معاً.
لكن ما أثارني هو التحفيز الذي جعلني أبدأ القراءة والتمحيص في هذا الكتاب الذي انتقد من طرف الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين والسياسيين ورجال الدين غير المسيحيين، مرة أخرى بقراءة ليست كالسابق (كنت من قبل قرأت الكتاب المقدس لتفنيد بعض طروحاته العقائدية والإيمانية)؛ لأن هناك قاعدة شيعية تقول: "إن مذهباً يثبت نفسه من كتب مخالفيه أحق بأن يتبع، وإن مذهباً يحتج عليه بما في كتبه فيلجأ إلى التأويل والتحوير أحق أن يتجنب عنه"، لم أكن من أصحاب المذهب الشيعي، لكن كانت هذه القاعدة الفقهية الشيعية نظرتي للأمور الدينية والفكرية والثقافية..
سأبدأ القراءة من جديد بسبب هذا الكتاب الأخير للدكتور "ويليم كامبل dr.william kampbell" للكتاب المقدس وقراءته على ضوء كتابه وكتاب الدكتور "موريس بوكاي dr.maurice bucaille"، وقرأت أيضاً لتعميق البحث الموسوعة النقدية للنص التوراتي بعنوان "إظهار الحق" لابن خليل الرحمان الهندي وكتابات أخرى في النقد النصي الإنجيلي، وأنصت لمناظرات السيد أحمد ديدات، وقرأت بعض مناظراته المكتوبة التي أقامها بستوكهلم (السويد) مع أحد القساوسة والتي كانت تملأَ الدنيا بالعالم المدعو بالإسلامي.
أظن أن زمان الطفولة يطغى في تشكلاتنا الاجتماعية والدينية على الآخر المخالف عنا، وهذا الزمن أيضأ (الزمن الطفولي) هو الذي يشكل إله كل منا، فلكل منا توارت دينه اكتسبه بالجغرافيا ليس إلاً، فلم يختر أي منا معتقده وهويته، فنحن نتعامل مع هذا التراث الجبري ومع أنفسنا ومع الله ومع الآخرين دون فهمه، حسب المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري.
فمثلاً، المسلمون ولدوا وتربوا على كره اليهود وبعضهم تربى على كره اليهود والمسيحيين (يعرف المُسلمون المسيحيين بالنصارى، ولكن كلمة نصارى لا تعني المسيحيين، ولا يطلقونها على أنفسهم)، وعلى أنهم خير أمة أخرجت للناس، ولا يتخيل أحدهم أن الآخر اليهودي أو المسيحي..إلخ على صواب إطلاقا، هذه الفكرة لا تأتي حتى في الأفلام! وعلى ما أظن أن قلة قليلة جداً هي التي تفكر في البحث عن الأشياء التي تسلمتها بالوراثة وعلى مدى صحة هذا التوارث؛ لأننا إن كنا نطالب الآخر (اليهودي - المسيحي) بأن يبحث في تراثه لاكتشافه وتنقيحه لأننا على يقين مسبقاً بأنهم على خطأ، ونعتبرهم عميانا لأنهم يقبلون تراثهم دون فحص، فأنتم الأولى بأن تفعلوا ذلك.
المنطق يقول كما تريد أن يفعل الناس افعل أنت أولاً ما تريد أن يفعلوه، وعلى ما أظن أن إعادة البحث في التراث الديني بكل خلفياته التاريخية والسوسيولوجية والأنثربولوجية، ومحاولة كشف حقيقته تجعلنا أكثر تجذرا وثباتا في مناطق الصواب فيه، وتجعلنا موقنين ومتغيرين في مناطق الباطل والخطأ فيه.
فالأكيد أن الإله الحقيقي يحب الباحثين عنه بكل قلوبهم، وأيضاً المفتشين عنه وعن الحق في الكتب كما جاء على لسان المسيح: "فتشوا الكتب"، فهذا زمن آخر، لم يعد مقبولاُ أن نزيف الواقع، أو نشكك في الكتاب المقدس، وأن نتكاسل في إعطاء الدليل لكلامنا حول عدم صدقية الكتاب المقدس، وأن نكد ونصنع من السراب تباشير وأوسمة نتظاهر بها بأننا نؤمن باليقين التام بأن الكتاب المقدس كتاب لعبت فيه الأيادي في غفلة من الله، صاحب هذا الكتاب الذي يشككون فيه، ويؤمنون به في الآن نفسه بأنه كلام الله.
لقد ادعى علال الفاسي أن جده تكلم من القبر، حسب ما جاء في كتاب عبد الكريم الفيلالي: "التاريخ المفترى عليه"، ولم يشكك أحد في صدقية ادعائه، لماذا؟ لأن الغالبية العظمى تؤمن بالخرافات والإيديولوجيات المنمطة، وتعيش بأريحية في هذا الوهم الديني، لكنها تشكك في الكتاب المقدس لأنه يقض مضاجع الجبابرة والسياسيين والباعة الدينيين، الكتاب المقدس ليس هو الحق فقط، بل هو تعرية للزيف، وكشف ورطة الإنسان الأخلاقية.
وهنا أتسأل، كما يتسأل غيري من الباحثين والمهتمين بتحقيق النص التوراتي والإنجيلي، إن إتهام الكتاب المقدس بالتحريف هو إتهام لذات الله نفسه لعجزه حماية كتابه من التحريف وحفظ كلامه وتركه عرضة للتغيير والتبديل، وهو إتهام ذو حدين، فكما ترك الله ذكره في الإنجيل والتوراة والزبور عرضة للتحريف بيد الإنسان - فلماذا لا يكون القرآن كذلك؟
يقول القرآن: "وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" (سورة المائدة 46).
إذا طرحنا سؤالاً منطقياً - لو كان هناك تحريف في التوراة، فمتى تم هذا التحريف؟
أية المائدة (46) دليل كاف على أنه لم يكن هناك أي تحريف للتوراة إلى زمن مجيء المسيح - فهل تم التحريف بعد المسيح؟
فإذا كان القرآن يقول عن نفسه إنه مصدقا لما بين أيدي اليهود وقت زمن القرآن، فلاً بد أنه يتكلم أيضاً عن نسخة سليمة ليس فيها تحريف - فكيف يقوم اليهود بتحريف التوراة بدون علم ومعرفة المسيحيين؟ وكيف يتفق اليهود والمسيحيون على تحريف التوراة رغم أنهما عقيدتان مُختلفتانَ ومضادتانَ؟
"وَذا قيلَ لهُمْ أمنًوا بمَا أنْزَل الله، قالوا نَؤُمنُ بمَا أنًزلَ عَلينَا ويكفْرًونَ بَما وَرَاءَهُ وهًوَ الحَقَ مُصَدَقا لمَا مَعَهُمَ قلْ فلمَ تقَتَلون أنْبيًاءَ الله منْ قبلُ إنْ كنتم مُؤَمنينَ" (سورة البقرة 91). "ياَ أيًهَا الذين أوتُوا الكتابَ أمنْوا بمَا نَزَلنَا مُصَدقَا لمَا مَعَكمُ" (سورة النساء 47).
إذاً، القرآن هنا يقول لأهل الكتاب إنه نزل مصدقا لما بين أيديهم، مصدقا لما معهم، فلا يمكن أن تكون التوراة قد تم تحريفها وقت نزول القرآن حسب الفهم الإسلامي للإنزال، وحسب ما قاله الباحث الدكتور بسام الجمل بهذا الخصوص في كتابه "أسباب النزول" الذي فصل فيه معنى الإنزال التوراتي والإنجيلي، وسماه بالنبات كما تنبت الأرض بعد سقيها بالماء من السماء؛ أي الإيمان الذي يحدث بعد إنزال كلمة الله من السماء، كما قال القرآن بذلك، فإنزال التوراة والإنجيل إنبات للإيمان، وإنزال الماء من السماء إنبات للأرض بعد موتها. وإليكم هذه القصة التي تثبت أنه وقت زمن نبي الإسلام، كانت هناك نسخة من التوراة صحيحة باعتراف نبي الإسلام نفسه.
جاء بتفسير أية المائدة (46) لابن كثير ما يلي:
أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله (ص) إلى القف فأتاهم في بيت المدراس (3)، فقالوا: "يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فأحكم"، قال: "ووضعوا لرسول الله (ص) وسادة فجلس عليها تم قال: "ائتوني بالتوراة" فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: "أمنت بك وبمن أرسلك".
فهل يا ترى ممكن لنبي الإسلام أن يفعل هذا، أو يقول هذا الاعتراف للتوراة إذا كانت مُحرفة؟
وفي رواية أخرى عن الحدث نفسه، حدثنا سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: "أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله (ص) إلى القف فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: "يا أبا القاسم، إن رجلاً منا زنى بامرأة فأحكم بينهم" فوضعوا لرسول الله (ص) وسادة فجلس عليها تم قال ائتوني بالتوراة، فأتي بها فنزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها، ثم قال "أمنت بك وبمن أرسلك" ثم قال ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع (4).
والسؤال الآن: هل إذا كانت التوراة محرفة في زمن نبي الإسلام، كان سوف يقول لها "أمنت بك وبمن أنزلك"؟ وكان سيطلبها لكي يحكم منها على اليهود حكم الرجم؟
"إنًا أنْزَلنَا التًوْرَاة فيهَا هْدًى ونُورُ يَحْكُم بهَا النَبيونَ الذينَ أسْلمُوا للذينَ هَادُوا والربًانُيونَ والأحْبَارُ بمَا اسُتحفظُوا منْ كتاب الله، وكانوا عَليْه شُهَدَاءَ، فَلا تَخَشَواً النْاس واخَشَوْنَ ولا تَشتروُا بَآياتي ثمَنَا قليلا ومَنْ لمْ يَحْكمُ بمَا أنْزَلَ الله فأُولئكَ هُمُ الكافروُنَ" (سورة المائدة 44).
بدأ تفسير ابن كثير بشهادة كاملة للتوراة، إن الآية تمتدح التوراة وتؤكد على عدم تحريفها أو تزييفها، ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: "إناً أنَزَلنَا التَوَرْاةَ فيهَا هُدًى ونْور، يَحكم بهَا النبيونَ الذْين أسْلمُوا للذينَ هَادُوا"؛ أيْ لا يَخَرجون عَنْ حُكمهَا ولا يبدلونَهَا ولا يُحَرُفونَهَا.
فقد وردت كلمة إنجيل في القرآن في اثنى عشر موضعا على التوالي:
- "أنزل عليك الكتاب بالحق مُصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان" (سورة أل عمران 3 - 4).
- "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (سورة أل عمران48).
- "يا أهل الكتاب لما تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون" (سورة أل عمران 65).
- "وقفينا على أتارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين" (سورة المائدة 46).
- "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وَمَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" (سورة المائدة 47).
- "ولو أنهم أقامُوا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مُقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" (سورة المائدة 66).
- "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيمُوا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين" (سورة المائدة 68).
- "وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (سورة المائدة 110).
- "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمُرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين أمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المُفلحون" (سورة الأعراف 157).
- "إن الله اشترى من المُؤمنين أنفسهم وأمُوالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعد عليه حق في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بَايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" (سورة التوبة 111).
- "ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزاره فاستغلض فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجْراً عَظيماَ" (سورة الفتح 29).
- "وقفينا بعيسى ابن مريم وأتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأتينا الذين أمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" (سورة الحديد 27).
هذا ما جاء بالقرآن بخصوص الإنجيل، والذي جاء فيه أنه:
هدى للناس - هدى ونور - مصدقا لما في التوراة - موعظة للمتقين - من اتبعه يغدق الله عليه النعم - وإن لم يقمه أهل الكتاب فليسوا على شيء.. فهذا مجمل ما ذكر عن الإنجيل في القرآن، وجلي كبير التقدير والاحترام الذي يوليه القرآن لهذا الكتاب، كما نلاحظ عمق الطرح القرآني بخصوص مجموعة من القضايا التي تخص الإنجيل، لكن هنا سنبقى في حدود مفهوم الإنجيل لنتساءل عن المقصود بالخبر الطيب والسار أو البشارة التي يفسر بها المسيحيون كلمة إنجيل.
* المراجع والهوامش:
1 - صدر هذا الكتاب سنة (1986) بتمويل من الجمعية الإسلامية الليبية العالمية التي كان يترأسها سيف الإسلام القذافي.
2 - dr.william kampblle "le coran et la bible a la lumière de l'histoire et de la science" = éditions farel = 1989
3 - مكان التعليم والعبادة (المجمع اليهودي)
4 – انظر، سنن أبي داوود (3859)
*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.