لا يمكن أن نفصل بين ما يحدث في المغرب من "بلوكاج"، واستنزاف، للمكون الإسلامي الذي يخوض تجربة الحكم لأول مرة، وما يعرفه النظام العربي الرسمي من الموقف الرافض لهذا المكون في دهاليز الحكم. إذ لا يمكن للمغرب أن يمثل شذوذا عما يعتمل في هذا العالم، وينفرد بقبول هذا المكون في خضم الحكم مهما قبل هذا الأخير بكل شروط اللعبة، وولج غمار الحكم بعيدا عن كل تبعات القناعة الأيديولوجية، ومختلف إحالاتها السياسية والحُكمية، مادام يوسم بالمكون الإسلامي عند الفاعل السياسي المغربي كما عند الأغيار من الدول الصديقة والشقيقة التي حيَّدته من اللعبة السياسية، و ظلت تعتبر التجربة المغربية، مع هذا المكون، إحراجا داخليا لها. بيد أن الظاهر من قبول هذا الولوج المشروط لحزب بنكيران يخفي باطنا رفضويا تُمارَسُ فيه السياسة في أقصى تجلياتها الخداعية والالتوائية التي يمكن أن يتصورها متابع نبيه، يقرأ بين السطور، ويجعل من الأحداث والوقائع تنطق بلسان حالها قبل مقالها. فمنذ اعتلاء الحزب الأغلبي للحكم عام 2012، وآلة "البلوكاج" والاستنزاف، تشتغل في الخفاء. فكانت بدايتها مع العرقلة التي تعرضت لها الكثير من المشاريع المتقدمة لوزراء العدالة والتنمية، والتي كانت سَتُسَوِّق لسوابق في التدبير الحكومي سترفع منسوب شعبية الحزب إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الحكم بالمغرب. ثم، بعد ذلك، مع محاولات بنكيران الساعية لنشر ملفات الفساد، التي ووجهت بالعرقلة والحرب الخفية والمعلنة، حتى طفح كيله، وأخذ يشتكي إلى الشعب المغربي من العفاريت والتماسيح، في محاولة لتبرئة ذمته من الوعود التي أخذها معه في حملته الانتخابية بمحاربة الفساد والاستبداد، والتي بوأته إجماعا شعبيا غير مسبوق. فرغم قبول حزب العدالة والتنمية بكل شروط اللعبة، ودخل السياسة، كما الحكم، على أرضية التوافقات السياسية، ولم يُبْدِ أيَّ رفض أو تَبَرُّمٍ أمام العروض التي كان بعضها يشكل انتهاكا واضحا لقناعاته السابقة؛ أَسْلَسَ القِيَادَ للحكم، وولج دفته، وظن في سذاجة أن الاستثناء المغربي، سيكون الحامي له من سيناريوهات الشرق العربي، وأن الحكم في المغرب مختلف، وغاب عنه أن للسياسة وجوها، ولحربها مذاهبَ، وأن المغرب ملتزم مع محيطه العربي والإقليمي وعلاقاته الدولية بقدر من "القناعة السياسية"، لا يمكن أن يشذ عنها وإلا أصبح خارج الرقعة الجيوسياسية التي تتحكم فيها المواقف المشتركة، والرؤى الموحدة. فكان لا بد من تقديم صورة لهذا المكون الإسلامي مختلفة، وقابلة للتدويل إقليميا، وإن تعذر ذلك دوليا. فكانت البداية مع قبوله في الحكم، وفق شروط دقيقة وصارمة، وترك محاولة الانقلاب عليه للزمن السياسي، والممارسة التدافعية في حلبة الخصوم السياسيين، تعمل عملها في صمت، وتؤدة، إلى أن تنهي هذا الفيلم الإسلامي من الحياة السياسية، بلا ضجيج، ولا حرب. وهو درس صحيح مليح استفادهُ المغرب الرسمي من أخطاء أنظمة عربية حاولت أن تفتح الباب على هذا المكوِّن لتُسَوِّق لنفسها، أمام العالم، "ديمقراطيةً" تغطي بها على ركام الفساد والاستبداد الذي تتخبط فيه، لكنها ما لبثت أن أغلقته بسرعة غير محسوبة، وبأسلوب عنيف، أجَّج الشارع، وأربك كل الحسابات. فلقد استمر التحرش بهذا الحزب منذ بوازغه الأولى في الحكم، وظل "البلوكاج" السِّمة المُواكبة لكل مشاريعه التنموية، ومحاولاته الإصلاحية، وبلغ أَوْجَهُ مع الانسحاب المبهم لحزب الاستقلال في منتصف الولاية، مما فرمل من السرعة الكبرى التي كان يسير بها رئيس الحكومة والفريق المشتغل معه، حيث كان لا بد من وضع الرِّجل على الفرامل، وإلهاء هذا القادم عن انجازات قد تمحو الساحة السياسية من كائنات ظلت تمثل الواجهة التعددية التي حافظت على توازنات سياسية لعقود، وظلت تتنقل بين دَفَّتَيِ الأغلبية المحكومة، والمعارضة المفتتة التائهة. وبعد الخروج من الفرملة إياها، انتقل الخصوم إلى الزج بالحكومة في متاهات المصادقة على قرارات لا شعبية، والمنافحة دونها، وظلت آلة التخطيط والإحصاء تزود الحكومة بالحسابات والمعطيات المخيفة، مما حرك السيد رئيس الحكومة لاتخاذ قرارات غير مسبوقة، أججت الشارع، في أكثر من محطة، وزادت من منسوب احتجاجه مع قرب الانتخابات التشريعية، وقبله مع الانتخابات الجماعية. لكن المارد الإسلامي ظل يواجه لأْوَاء المعركة/المعارك التي خاضها ضده الجميع بخطاب فيه الكثير من المصداقية والوضوح غير المسبوق؛ حيث انتقل إلى السرعة القصوى في المواجهة حينما كشف الستار عن "التماسيح، و"العفاريت"، وأخذ يسمي الخصوم بأسمائهم الحقيقية، حينما وسمهم بالمتحكمين، وحصرهم في حزب بعينه. كما استفاد من الأخطاء القاتلة للخصوم (مسيرة البيضاء المعلومة على سبيل المثال)، واستثمرها لصالح الحزب، لتصدر النتائج التشريعية، والفوز برئاسة الحكومة. لكن الخصوم لم يرفعوا الراية البيضاء، وانتقلوا إلى لعبة جديدة، عنوانها "البلوكاج السياسي"، وهي اللعبة التي أبان فيها بعض سياسيي الأحزاب عن انحطاط غير مسبوق في الالتزام التفاوضي. فمن التصريحات المُطَمْئِنة، والغيرة المفتعلة على المصلحة العليا للوطن، بعد كل لقاء تشاوري مع السيد رئيس الحكومة المكلف، إلى البلاغات المبهمة، والشروط التعجيزية والتي كان آخرها إلزام بنكيران بقبول حزبيْن أبانا عن سلوك لا سياسي، وظلا يقدمان له وجها، ولخصومه وجها حتى اقتنع بفك الارتباط معهما. وهو القرار الذي التقطه أصحاب شرط "خروج الاستقلال"، بفرح طفولي، وجعلوا منه شرطهم الجديد.. وهكذا، كلما قبِل السيد بنكيران بشرط يختلق "العفاريت" شرطا جديدا، أملا في أن يقتنع بنكيران بلاجدوى الاستمرار في الحكم، ويقدم "السوارت"، وينسحب بهدوء، وتخلو للقوم دفة الحكم، وينجح "الانقلاب الناعم" دون خسائر!. لكن السيد بنكيران، الذي عاش على سلسلة "بلوكاجات" متتالية منذ 2012، وخرج منها سالما، لم تفته هذه المكيدة، وواجه شروط أخنوش ب"انتهى الكلام"، ليوقف نزيف الإذلال، ويعيد اللعبة إلى المربع الأول، في انتظار تدخلٍ مَا قد ينقد مسار تشكيل الحكومة. وربما يكون انتخاب رئيس مجلس النواب اليوم الاثنين، الورقة الأخيرة التي ستقنع السيد بنكيران وحزبه بإمكانية تشكيل الأغلبية من عدمها، ومن تم بإمكانية الاستمرار في هذا الماراطون المشاوراتي من عدمه، وذلك إذا تقدم خصومه (أقصد هنا من انهى الكلام معهم ومن يوسوسون لهم) بمرشح واقتنع السيد بنكيران بترشيح ممثل من حزبه أو ممن يراه حليفا له، بعد ان أسندت إليه الأمانة العامة قرار الاختيار. حيث ستُظْهِر النتائج الملامح الكبرى للأغلبية المقبلة، و صورة شبه نهائية للاصطفاف الحزبي الجديد، وملامح الحكومة المقبلة. رغم ما في هذا المسار (أقصد انتخاب الرئيس قبل تشكيل الحكومة) من كلام قانوني ودستوري، وإن كان تسويغه سياسيا من ضرورات "الحدث الإفريقي". فهل سيستمر حزب العدالة والتنمية في معركة لَيِّ الأدرع إلى النهاية، ومهما كانت النتائج، على غرار ما قام به اليسار المُمَانع في فترة من تاريخ المغرب؟ أم سيتفيد من الدرس التونسي، ويجعل لمصلحة استمراره في الممارسة السياسية، بعد أن ظهرت خلفيات الحرب الخفية التي تدار ضده، أولوية مقاصدية تُبقيه على ساحة التدافع السياسي، وإن كان ذلك من خارج دفة الحكم؟!! هذا ما ستكشف عنه الأيام التي ستلي محطة الغد الحاسمة.. دمتم على وطن.. !!