يأتي البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الحكومة، الأستاذ سعد الدين العثماني، يوم الأربعاء 19 أبريل 2017، غنيا بالعديد من المحاور. لكن، بحكم تخصصي، سوف أقف من خلال هذه الورقة على المحور الاجتماعي، الذي تميز بالهروب من تحمل الحكومة للمسؤولية في ما يتعلق ببلورة سياسات اجتماعية بهدف إيجاد حلول ناجعة لمحاربة التفاوتات الاجتماعية بين مختلف طبقات المجتمع وكذلك تقليص التفاوتات المجالية بين معظم مدن وقرى المملكة، ومنه إيجاد مخارج لمحاربة الفقر والهشاشة وما إلى ذلك من مظاهر البؤس وغيرها من المظاهر الاجتماعية، التي باتت تنتشر في مجتمعنا، مما ساهم في انتشار الهوامش والأطراف؛ حيث الإقصاء والحرمان بكل أشكاله. لمناقشة السؤال الاجتماعي من خلال كلمة السيد رئيس الحكومة، سوف نعمل في البداية على التذكير بمسألة أساسية، ويتعلق الأمر بالطبقة المتوسطة، التي غالبا ما يذهب السياسيون إلى اعتبارها القوة الشرائية المهمة في البلاد، وبالتالي سوف تساهم في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لكن حان الوقت للقول بأن الطبقة المتوسطة في مجتمعنا قد انهارت منذ بداية الثمانينات من القرن من الماضي. للبرهنة على طرحنا هذا، تم الرجوع إلى البحث في أطروحات الراحل الأستاذ محمد جسوس، الذي أقر بأن المغرب عرف في مرحلة ما بعد الاستقلال بروز طبقة متوسطة نتيجة لارتفاع وتيرة التوظيف في القطاع العام وهجرة رؤوس الأموال والشباب من القرية إلى المدينة (بول باسكون) ثم نتيجة التحول في التركيبة السكانية، التي كانت تميل في اتجاه توسع قاعدة الهرم السكاني لغلبة عنصر الشباب. مما ساهم في تحقيق نمو اقتصادي مهم جعل الطبقة المتوسطة تحظى بأهمية كبرى؛ حيث باتت تشكل في فترة ما قبل الثمانيات من القرن الماضي العمود الفقري، الذي صارت تستند إليه معظم آليات الاستقرار الاجتماعي والسياسي، مثلما شكلت الطبقة المتوسطة في تلك الفترة، أي قبل الثمانينات من القرن الماضي، آلية مهمة استندت إليها السلطة. لعبت الطبقة المتوسطة في فترة ما قبل الثمانينات دورا أساسيا في التأطير السياسي والنقابي مثلما ساهمت في خلق معارضة قوية، أيضا نجدها في المقابل ساهمت في ممارسة السلطة، ناهيكم عن تواجدها في العديد من المجالات الاجتماعية والثقافية. بيد أنه ومنذ بداية الثمانينات من القرن الماضي؛ حيث تزامن الجفاف القوي الذي عرفه المغرب خلال تلك الفترة وسياسة التقويم الهيكلي، الشيء الذي ساهم في إضعاف الطبقة المتوسطة؛ وذلك لعدة أسباب، نذكر منها تجميد الأجور وتراجع الدولة عن تمويل العديد من الخدمات، مما فتح المجال أمام القطاع الخاص الذي أسماه الراحل محمد جسوس ب"الهمزة" سواء في ما يتعلق بالتعليم أو الصحة أو غيرها من القطاعات، وكذلك تراجع الدولة عن توفير فرص الشغل. هذه الأسباب وأخرى أدت إلى ارتفاع الأسعار وضرب القوة الشرائية للأسرة المغربية. لقد تراجع المستوى المعيشي للطبقة المتوسطة وصارت مهددة بما أسماه الراحل محمد جسوس ب"الجاذبيات السفلى" التي فسرها بالسقوط إلى أسفل السلم الاجتماعي. وبناء على هذا الطرح، يمكن أن نسلم بنهاية الطبقة المتوسطة منذ أزيد من أربعة عقود، ولا غرابة في كون هذا السقوط الذي عرفته الطبقة المتوسط إلى أسفل السلم الاجتماعي شمل أيضا أبناءها. لقد تأثر التدبير الاجتماعي (أشدد هنا على القول بالتدبير الاجتماعي وليس السياسات الاجتماعية) الذي ميز مغرب ما بعد الثمانينات (تأثر) بالإكراهات الاقتصادية،التي عرفتها البلاد، وهيمنة الأعيان على الاقتصاد والثروات، أمام غياب إرادة سياسية للتغيير. كما ساهمت الدولة في "بلقنة" المشهد السياسي بتوالد أحزاب سياسية إدارية شكلت مؤسسات لاستمرار الأعيان وتوغلهم في دواليب الدولة من أجل حماية مصالحهم، مما كان له انعكاس كبير على مستوى تضامن الدولة مع المواطنة والمواطن. فقد حرصت هذه الأحزاب على أن يتموقع الأعيان في مختلف أجهزة الدولة وكذلك في البرلمان، سواء عندما كان ممثلا بغرفة واحدة أو في الحالة التي أصبح فيها بغرفتين، الشيء الذي ساهم في إعادة إحياء النخب السياسية التقليدية الممثلة في الأعيان الذين باتوا يحرصون على تمرير القوانين التي تخدم مصالحهم، مثل الإعفاء الضريبي على القطاع الفلاحي الذي يستفيد منه كبار الملاكين. كما حرصوا على انتشار أبنائهم في مراكز القرار، مما ساهم في تراجع كبير للدولة عن الخيار الديمقراطي الذي من شأنه أن يساهم في إعادة توزيع الثروة. لقد ترجم أول تراجع للدولة عن التضامن مع المواطنة والمواطن من خلال التخلي عن التشغيل وإيجاد العمل للعديد من الشباب، إناثا وذكورا، على اعتبار أن آلية التشغيل هي الأداة الأساسية التي تضمن بشكل عادل توزيع الثروة من جهة، وتضمن من جهة ثانية تضامن المواطنين في ما بينهم عن طريق دفع الضرائب. ساهم التدبير الاجتماعي الذي تبنته الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام للبلاد في تفكك التضامن الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، مما ساهم في بروز بروليتاريا سفلى (حسب الأستاذ محمد جسوس) تغيرت من حيث المضمون وصارت تتكون من المهمشين والمتواجدين على أطراف المجتمع؛ حيث الأمية والفقر والهشاشة، مثلما تكونت من أعداد كبيرة من المهاجرين من الأوساط القروية الفارين من جحيم الجفاف وقهر سياسة التقويم الهيكلي (عاطلون بدون أية شهادة أو تكوين)، التي فرضت على الدولة التراجع عن الدعم الذي كانت تقدمه للعديد من القطاعات، بما فيها القطاع الفلاحي. تميزت هذه البروليتاريا السفلى بانضمام العديد من خريجي الجامعات والمدارس والكليات، في ما بعد، إضافة إلى العديد من العمال والموظفين الذين تهاوت وضعيتهم من الطبقة المتوسط إلى البروليتاريا السفلى (محمد جسوس) التي باتت تشكل الغالبية العظمى للمجتمع المغربي، سواء منهم تلك الشرائح الاجتماعية التي كانت تقطن أحياء الصفيح وأحزمة الفقر بضواحي المدن والتي باتت تقطن في ما بات يعرف بالسكن الاقتصادي. إن انهيار الطبقة الوسطى منذ بداية الثمانينات ساهم في عجز الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام للبلاد من خلال نهجها لآليات التدبير الاجتماعي عن التعاطي مع المسألة الاجتماعية بشكل جريء ودقيق، مما ساهم في تفاقم العديد من المشاكل الاجتماعية؛ حيث نمت ظاهرة الأطفال في وضعية الشارع، مثلما ازدادت وضعية المرأة سوءً، خاصة مع ظهور القطاع الخاص الذي بات يستغل كل المهاجرات من الأوساط القروية؛ حيث يشتغلن في ظروف صعبة وبأجور زهيدة، أيضا استغلالهن من طرف أرباب الضيعات الفلاحية، ناهيكم عن تدهور قطاع الصحة وتراجع التعليم، أيضا باتت تظهر بعض البنيات الأسرية الجديدة التي تعاني من التهميش والفقر والبطالة وغياب أية حماية قانونية، من قبيل الأمهات العازبات والمسنين والأسرة التي تعيلها نساء مسنات وغيرها من البنيات الأسرية التي بات يعرفها المجتمع المغربي. لا أحد ينكر أن التدبير الاجتماعي الذي اتبعت الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينات ساهم في ترقيع بعض مشاكل بعض القطاعات، مع ظهور سياسة "البريكولاج" التي ساهمت في تعميق بعض الأزمات الاجتماعية، ولعل تفويت بعض القطاعات الاجتماعية، ك "محاربة الأمية والتربية غير النظامية والأطفال في وضعية الشارع وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين"، إلى النسيج الجمعوي لخير دليل على سياسة البريكولاج، على اعتبار أن المسألة الاجتماعية هي من اختصاص الدولة نطرا لتقاطعها مع السياسي، أعني بذلك أن المسألة الاجتماعية هي نتاج لسياسة متبعة، وبالتالي وجب نهج سياسات اجتماعية تهدف إلى تغيير المجتمع وليس إلى الترقيع والبريكولاج. إن تفويت المسألة الاجتماعية إلى النسيج الجمعوي لدليل على تملص الحكومة من مسؤولياتها في وضع سياسة اجتماعية تحقق تمفصلا وتكاملا بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من أجل تغيير المجتمع وتقدمه، بدل ترقيع أعطابه واختلالاته، بغية تحقيق تضامن بين مختلف فئات المجتمع. بالعودة إلى البرنامج الحكومي الذي قدمه السيد رئيس الحكومة، يمكن القول بأننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن بلورة سياسات اجتماعية من شأنها أن تمحو الفوارق الطبقية وتغير المجتمع؛ حيث ما تضمنه البرنامج الحكومي في الشق المتعلق بالمسألة الاجتماعية لا يعدو أن يكون تدبيرا اجتماعيا، لكونه لا يحمل أية مؤشرات من شأنها أن تساهم في تنظيم وإكمال مؤسسات السوق والهياكل الاجتماعية للمجتمع عن طريق التوزيع العادل للثروة وتوفير الحماية الاجتماعية لكل أفراد المجتمع مع تحقيق العدالة الاجتماعية. إن هروب السيد رئيس الحكومة إلى تفويت المسألة الاجتماعية إلى النسيج الجمعوي لدليل على أن الحكومة لا تملك مشروعا اجتماعيا يتأسس على الحق وعلى التضامن بين دافعي الضرائب والذين لا يملكون، بقدر ما يعد هذا الهروب إلى النسيج الجمعوي، في إطار تعاطيه مع المسألة الاجتماعية، تكريسا لاستمرارية منطق العمل الخيري والمساعدة الموكولة إلى ضمائر الأفراد في ما يتعلق بتخفيف مشاكل الأفراد والجماعات في وضعية صعبة، خاصة وأن النسيج الجمعوي، أو ما يصطلح عليه ب "المجتمع المدني"، قد ساهم بشكل كبير في تعميق الأزمة وفي تعميق التفاوتات الاجتماعية والإقصاء الاجتماعي ونهب للمال العام وتدمير للبيئة واحتلال للملك الجماعي في العديد من الدواوير بدعوى إنشاء مشاريع تنموية، في غياب أدنى احترام للقوانين المنظمة للبيئة وللملك الجماعي. بالرغم من تفويت الحكومات للعديد من المشاريع الاجتماعية، بهدف ممارسة مشروع الترقيع الاجتماعي، غير أن هذا النسيج الجمعوي باتت تتحكم فيه نخب الأعيان الجدد، ناهبون للمال العام بطريقة جديدة. إن توسع البروليتاريا السفلى هي التي صارت اليوم تغذي وتحرك معظم الاحتجاجات والتمردات والحراك الاجتماعي، الذي تعرفه معظم مناطق المغرب التي تعاني من الإقصاء والتهميش والتفاوتات الاجتماعية والمجالية (مثال الحسيمة)، غير أن هذه الاحتجاجات لا تنبني على مشروع للتغيير المجتمعي، فاقدة لمرجعيات سياسية وفكرية، تتجاوز في مطالبها التي تعد مشروعة برامج الأحزاب السياسية والهيئات النقابية، لكون هذه المطالب نابعة من حاجيات حقيقية من جهة، ومن جهة ثانية نابعة من نضج ووعي الساكنة المحلية بحجم التهميش الذي تعانيه، الشيء الذي يجعل الساكنة المحلية في مواجهة مباشرة مع الدولة في غياب أية وساطة يمكنها أن تترافع عن ملفاتها المطلبية. بما أن الأحزاب السياسية والهيئات النقابية فضلت التراجع عن الترافع عن المطالب الحقيقية التي ترفعها ساكنة المناطق المهمشة والأطراف التي صارت تتوسع أكثر فأكثر، وذلك لكون القرار الاقتصادي والسياسي صارت تتحكم فيه عائلات بعينها، معظم أفرادها يحملون جوازات سفر أجنبية بغية حماية مصالحهم، فإن المواجهة ستحتد بين الهوامش والدولة، مما سيقوي الدولة الحارسة. إن غياب مشروع قوي وواضح للسياسات الاجتماعية الاستهدافية، الذي من شأنه أن يحقق عدالة اجتماعية بين مختلف الفئات الاجتماعية، سوف يجعل المغرب مفتوحا على حراك اجتماعي قوي غير مؤطر سياسيا سيزيد من تعميق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها عموم الشعب المغربي. *باحث في علم الاجتماع/ جامعة ابن زهر أكادير