في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة التاسعة عشرة ثم بدا لي أن أجرب هذه المهنة في بيتنا، فكنت أُستّف الأكواب والقوارير في آنية كبيرة وآخذ منها ما يطلبه زبنائي طائفا على الغرف وملبيا جميع الطلبات. ورأيت، في غمرة الإنتشاء بالإنجاز العظيم، أن هذا التدريب المنزلي يكفي لأخوض غمار التجربة الجديدة. وخرجت في مساء ذلك اليوم، وقد لاحت في أفق السماء غلالة حمراء تغطي الزّرقة الصافية. وكنت إذا أمعنت النظر فيها بدت مثل كائن خرافي يستلقي على الهواء. وخفق قلبي وأنا أقف على مدخل باب صغير داخل المقهى، يطل منه رجل خمسيني: - خاصكم شي كارصون! - باغي تخدم؟ - واه.. ثم عض شفته السفلى وحك أرنبة أنفه. وقال، وهو يسعل سعالا مفتعلا ويولي عني مدبرا: - اللأ ! عُدت على أعقابي فدخلت وسط شعاع ضوء خافت لا أعرف مأتاه حتى خيل إلي كأن خيوط الضوء تدغدغني. ورأيت كأن الناس قابعون في هوة سحيقة، يشربون القهوة والشاي والليمونادا. ثم تراقصت خيوط الضوء تحت بصري فشعرت بدوخة خفيفة، وحدثت نفسي: - لأسرع في الخروج من هذه المقهى! ولم يكن بي شيءٌ سوى الحرج. وقد كرهت أن يضغط الرجل على لائه فيشدد اللام ويعقب بالهمزة. وقرأت في ذلك رفضا مشددا. واحتوشتني الظنون فخشيت أن لا أصلح لهذه المهنة الوحيدة المتاحة وأن يضيع صيفي سدى.. وقد ضاع يا حسرة! فكأنها نبال متتالية تُقذف في وجهي وكل نبل في رأسه لاءٌ قاطعة. وإني لأعجب لنفسي إذ لم تسألني: هل تستطيع؟ وكان جوابي يجري في عروقي قبل أن يجري على لساني: نعم أستطيع ! ثم جربت مهنا أخرى. لكنني لم أفقد أبدا عادتي الأثيرة. وقد رأيتني كاتبا منذ وعيت الأشياء من حولي، حتى إني لأخط الخربشات على الورق فأنقل ما يقال تحت سمعي بالدارجة إلى العربية، كأنني مترجم فوري. وكنت ألوذ بكلماتي هاربا من العالم الضاج بالهوس. ولعلها كانت حاجة فطرية. حتى وجدتني أكتب مسرحيات من فصل واحد. ثم اتجهت صوب المونودراما فكتبت مسرحية "فردية"، بل مسرحيات، ولكن آفتي أنني أسارع إلى تمزيق ما أكتب بسبب ما أقدّر أنه نشاز موسيقي في النص أو لأي سبب آخر، مهما بدا تافها. وقد مزقت أوراقا كثيرة، لا سبيل إلى عدها. وشاءت الأقدار أن تنجو مسرحيتي المونودرامية، على ما كان عندي من ملاحظات عليها. وحين أنهيت دراستي الجامعية، كان القرار جاهزا فأبرمته: - سأكون مسرحيا وسأعيش من المسرح.. ولما لم يكن في يدي غير تلك المسرحية اليتيمة، فقد أعدت كتابتها. وحفظت مقاطعها. ثم استعدت عادتي القديمة، فكنت إذا خلا البيت رددت الجمل والمقاطع وأديت الدور كما لو كنت على خشبة المسرح. وربما استفقت باكرا لأجل التمرين اليومي، حتى شعرت أنني صرت بطل مسرحيتي، الشاب المريض الذي "يكتريه" المتسولون ليتسولوا به! وإنه ليأنف من البدايات الصغيرة فيقرر السفر إلى الرباط. وإنه ليحلم باسمه مرصعا بالذهب في مداخل المسارح الكبرى. وركب الحافلة. وكان السفر طويلا. وكان يتحسس جيبه فيحسُب: - يا ترى.. كم من الأيام أقضي بهذه الدريهمات!؟ [email protected]