في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة العشرون وإنه ليأنف من البدايات الصغيرة فيقرر السفر إلى الرباط. وإنه ليحلم باسمه مرصعا بالذهب في مداخل المسارح الكبرى. وركب الحافلة. وكان السفر طويلا. وكان يتحسس جيبه فيحسُب: - يا ترى.. كم من الأيام أقضي بهذه الدريهمات!؟ وراقب المدينة الغاربة وهي تختفي وسط أضوائها. ثم انسلت الحافلة إلى ممرات مظلمة سرعان ما تكشّفت عن طريق طويل ممتد. وكان يتطلع إلى النجوم فتبدو كحبات نور صغيرة تتقافز على زجاج النافذة. وبدا لي كما لو كان القمر يجري في سمائه يلاحق حافلتي على الأرض. وقلت في نفسي: - قمر يلاحقني. هذا فأل حسن. وما كان في ذلك مدعاة للتفاؤل لولا أني كنت أتنسّم البشائر القادمة في كل شيء، فتقر عيني بالكلمة الطيبة أسمعها عابرا وتهدأ نفسي بالحديث الناعم تلتقطه أذني في الشارع، وإذا كل ما يقال تحت سمعي بشارات خير تغلفها الكلمات برموز أدركها لوحدي. وكنت أصوغ لكل كلمة معناها، فإذا سمعت أمّا تقول لابنها على باب المدرسة: - ما تخافش.. أنت ناجح إن شاء الله.. قلت هذه لي. وإنها بشارة بالنجاح المرتجى. وكنت أفلسف الموضوع فأزعم أن احتمالات سماعي لهذه العبارة من بين كل هؤلاء الناس لا تكاد تذكر، فلِمَ تقع في أذني وتستفز حواسي دون غيري؟.. وكذلك أقبل على الحياة يعب من نعيمها ويضرب صفحا عن شقائها. ولقد كان يدرك أن العين هي الباب، فلا يرى من الأشياء إلا مواطن جمالها. وإنه ليغض الطرف أحيانا فلا عين رأت ولا قلب وَجَع! وإني لساهم الطرف قد شرد بصري في العتمة البادية من خلف الطريق حتى تملكتني فرحة عارمة. وقد انتشيت وأنا أذكر أنني مقبل على حياة جديدة. ورأيت، على الطريق، أبوابا من نور تشرع في وجهي. ثم انتابتني رغبة مجنونة. وودت لو أقفز من الحافلة وأركض إلى ما وراء العتمة البادية. وسألتني: أهو ذا الطريق الذي يقودك إلى حلمك؟ في قلبك عطش. في روحك عطش. وينبض قلبك ولكن بلا دم. وإن الماء الذي يطفئ ظمأ السنين والدم الذي يحيي القلب من موات هو هذا الفن الذي تقطع الأميال لأجله. وابتسمت وأنا أرى والدي يحملني بين يديه ويهمس كأنه يصرخ: - طبيب.. فهمت!؟.. طبيب يعني طبيب! وأجبته من مسافة ثلاثة وعشرين عاما: - سامحني يا والدي.. ولكن الهوى غلاّب! ولئن غلبت علي مشاعر التفاؤل فقد كانت تعتريني مخاوف من الفشل بين الفينة والأخرى. وقد أخذت على نفسي أن أكتب للمسرح والسينما. وكانت تناوشني الظنون فأناورها. وتقول إن الفن ليس مصدر عيش فأقول سيكون عندي مصدر غنى. وقد أرهقت نفسي إرهاقا شديدا. وكنت أتقلب على جمر الطموح بين الرجاء والقنوط حتى انفتحت في الأفق المسدود فجوة أمل صغيرة. ثم وجدتني على خشبة المسرح. ووقفت أنظر إلى عيون الناس من خلف الستار. [email protected]