كرة اليد.. اتحاد طنجة يتأهل لربع نهائي كأس العرش    جهاز الإحصاء الفلسطيني: مقتل أكثر من 134 ألف فلسطيني وأكثر من مليون حالة اعتقال منذ نكبة 1948    دفاتر النقيب المحامي محمد الصديقي تكشف خبايا مغربية عقب تحقيق الاستقلال    مدرب بركان يشيد بالفوز على الزمالك    إبراهيم صلاح ينقذ "رين" من خسارة    لقاء لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار بفاس حول الحصيلة المرحلية للعمل الحكومي    الانفصاليون في كاتالونيا يخسرون غالبيتهم أمام الاشتراكيين بقيادة سانشيز    طقس الإثنين.. أمطار رعدية مع هبوب رياح قوية بهذه المناطق    خلاف مروري بساحل أكادير يتحول إلى جريمة دهس مروعة (فيديو)    بلينكن يحذر إسرائيل من "الوقوع في فخ القتال مع حماس والانزلاق إلى الفوضى إذا لم يكن هناك خطة لحكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب"    إقليم العرائش يستعد لاحتضان الدورة الثانية عشرة للمهرجان الدولي ماطا للفروسية    المنتخب المغربي للتنس يتوج بطلا لإفريقيا    رصيف الصحافة: سمك فاسد في "جامع الفنا" يودع 3 أشخاص الحراسة النظرية    مطلب ربط الحسيمة بشبكة السكة الحديدية على طاولة وزير النقل    الجيش المغربي ونظيره الأمريكي ينظمان الدورة ال20 من مناورات "الأسد الإفريقي"    النصيري في ورطة بإسبانيا وعقوبة ثقيلة تنتظره    تفاصيل محاولة فرار "هوليودية" لمغاربة بمطار روما الإيطالي        "إيقاعات تامزغا" يرفع التحدي ويعرض بالقاعات السينمائية الأسبوع المقبل    جيتكس إفريقيا المغرب 2024.. وكالة التنمية الرقمية في خدمة النهوض بالابتكار والتكنولوجيا الجديدة    باريس سان جيرمان يودع مبابي أمام تولوز بالدوري الفرنسي الليلة    وفاة 5 تلاميذ غرقا بأحد شواطئ الجزائر    بونو: هدفنا إنهاء الموسم بدون خسارة وتحقيق كأس الملك    عاصفة شمسية قوية تنير السماء بأضواء قطبية في عدة دول    أردوغان: نتنياهو بلغ مستوى يثير غيرة هتلر    حل مجلس الأمة الكويتي: إنقاذ للبلاد أم ارتداد عن التجربة الديمقراطية؟    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    أسعار الطماطم تقفز بأسواق المغرب .. ومهنيون: تراجع الإنتاج وراء الغلاء    معرض الكتاب.. لقاء يحتفي بمسار الأديب أحمد المديني    افتتاح فعاليات الدورة الثالثة للمعرض الدولي للأركان بأكادير    "أسبوع القفطان".. فسيفساء من الألوان والتصاميم تحتفي بعبق الزي المغربي    "كوكب الشرق" أم كلثوم تغني في مهرجان "موازين" بالرباط    توقعات أحوال الطقس غدا الاثنين    الدرهم يرتفع بنسبة 0,44 في المائة مقابل الأورو    زلزال بقوة 6.4 درجات يضرب سواحل المكسيك    اليوتوبر إلياس المالكي يمثل أمام النيابة العامة    الصويرة : دورة تكوينية لفائدة أعوان التنمية بمؤسسة إنماء    المغرب الفاسي يبلغ نصف النهائي بفوزه على المغرب التطواني    الحسيمة تحتضن مؤتمر دولي حول الذكاء الاصطناعي    الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لها للمشاركة في إدارة غزة    طانطان.. البحرية الملكية تقدم المساعدة ل59 مرشحا للهجرة غير النظامية    عرض "قفطان 2024" في نسخته الرابعة و العشرين بمراكش    ورشة حول التربية على حقوق الانسان والمواطنة    مذكرة توقيف تلاحق مقدم برامج في تونس    بعد إلغاء حفل توقيع رواياته.. المسلم يعد جمهوره بجولة في المدن المغربية    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    ماذا يقع بالمعرض الدولي للكتاب؟.. منع المئات من الدخول!    النخبة السياسية الصحراوية المغربية عنوان أطروحة جامعية بالقاضي عياض    عائلات "المغاربة المحتجزين بتايلاند" تنتقد صمت أخنوش وبوريطة    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في خطى سيدنا علقمة

أن أستغرق في النوم باكرا كل ليلة هو دأبي الذي لم ينكسر. لا أذكر متى بدأ ذلك، لكنني أجزم أن والدتي التي رحل عنها والدي قبل بلوغ عامي الثالث، بلطفها الحاني وصرامتها الزائدة هي من روّضني على هذه العادة، التي لست أدري إلى الآن ميزتها... أحسنة هي كما تشدد على ذلك مروضتي حينما تنتبه إلى الساعة و تجد عقاربها قد ناهزت التاسعة فتأمرني، ولا أتردد في التلبية، أم سيّئة مثلما يتحدث عنها قرنائي في الحي و القسم و ينعتون أصحابها بالدواجن ...
خلال هذه الليلة أبى النوم إلا أن يفارق جفوني. ليس لوجع ألمّ بي فمنع عني معانقة أحلامي. و لا لحمى زارتني فتداعى لها جسدي بالسهاد. ولا لهمّ كدّر صفائي و غلبني تنفيسه فطرد النوم عني... فليست هذه العلل وحدها في العادة من يحجب النوم عن الناس.
كان إحساسا لذيذا، ممزوجا بسعادة اللحظة ومتعة الانتظار. رفع مستويات الانتباه في خلاياي المسؤولة عن ذلك، و جعلني أحيى لأول مرة في عمري ليلة بيضاء، أعدّ فيها الساعات و أتطلع إلى حلول الصباح. فقد شارفت على تحقيق منية لطالما انتظرت أوانها، منذ أن قص علي جدي سيرة "سيدنا علقمة" ذات ليلة قبل سنوات، وصرت أطلب سماعها منه كلما قدم إلى المدينة ووصل بنا رحمه. ففي أول الصباح ستطأ قدماي موضعا قال عنه جدي في هامش حكايته، إن صخوره لا زالت إلى الآن تحمل آثار حوافر حصان سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام، عندما هبّ من مشرق الأرض إلى مغربها في لمح البصر لمساعدة "سيدنا علقمة" الأسير عند ملك "الشميش" و يسهل التحقق منها بمحاذاة بئر عند سفح التلة نزل عنده لإرواء عطشه و توريد حصانه...
لم أستفق كالعادة على لمسات كف والدتي الحنون، و إنما هذه المرة أنا من أيقظها لتعد لي زادي من الطعام، فموعد انطلاق الحافلة قد أوشك، و أستاذنا في مادة التاريخ، المشرف على رحلتنا التي تتضمن درسا عيانيا للآثار الشاهدة في موقع ليكسوس(1) قد حذرنا من التأخر في الحضور لأن مقصدنا هذا اليوم، ينبغي أن نصل إليه باكرا وننتهي منه قبل اشتداد الحر خوفا من ضربات الشمس.
تناولت فطوري بسرعة دون أن أفحص مكوناته، وأنتقي منها ما يطيب لي مثلما أفعل كل صباح. ثم وضعت حقيبتي فوق ظهري و قبلت والدتي في خدها و رأسها و انطلقت في اتجاه موقف الحافلة. كنت ثالث الحاضرين بمكان اللقاء، و سرعان ما التحق بنا الباقي. كلف الأستاذ أحدنا بكشف الحضور وفق لائحة القسم، في حين ابتعد هو قليلا لتدخين أول سيجارة له خلال هذا الصباح... كان عددنا ثلاثين فردا، نصفنا من الإناث... ونحن القسم الأول من بين ثلاثة في المستوى الرابع من السلك الإعدادي، اختارنا الأستاذ لنحظى بهذه الخرجة إلى موقع ليكسوس لاكتشافه عن قرب بعدما أنهينا برنامجنا الدراسي في مادة التاريخ لهذه السنة، و كان آخر عناوينه "حضارات المغرب القديم".
ليكسوس ولوكس وتشمس وليكسا وغيرها... كلها أسماء لهذا الموقع العريق، حفظتها لنا المصادر الأدبية القديمة، وعززتها اللّقى الأثرية المكتشفة حديثا، ولقنها لنا أستاذنا مؤخرا في الفصل ... شخصيا لم أكن أعرف ذلك بهذه الدقة من قبل، لكنني كنت أعرف أن التلة الشامخة، المشرفة على نهر اللوكوس، التي لا يفصلها عن مجال لعبنا بالهضبة المطلة على الوادي الفسيح سوى بضعة أميال و الحاضنة لهذا الموقع، اسمها الأشهر عندنا هو "الشميش"(2). و قد تعلمت ذلك مبكرا من خلال احتكاكي بمن سبقني من قرنائي إلى معرفتها، وترسخ ذلك في جعبتي بما نهلته حولها من حكايات جدي الرائعة...
وأنا دون العاشرة من عمري وعيت بنظري يسافر بعيدا وراء الوادي وسط مقاييس خاصة بي، فكانت تبدو لي السيارات المتحركة في اتجاه "الشميش" في حجم لعب عاشوراء التي كنا نسعد بحيازتها و المحافظة عليها طويلا. أحيانا إلى عاشوراء الموالي... كنت أتابع مسارها بجانب مزارع الملح، من قنطرة نهر اللوكوس إلى "تلة الشميش". و حينما تختفي وراءها يصبح تركيزي منصبا على التلة التي كانت تبدو لي هي أيضا في حجم كومة صخر وضعتها شاحنة بيرلي قرب ورش للبناء.. فأتساءل كيف يمكن لهذه الصخرة أن تحتضن بيتا يسع عائلة، فبالأحرى قصرا يسكنه ملك جبار اسمه "رأس الغول" و إلى جواره مدينة تضم جنودا و شعبا؟؟
حينما نزلنا من الحافلة، ووطأت أقدامنا صخور الموقع الأثري، وشرعنا في التجول بين أحيائه، نسخت كل الصور التي كانت راسخة في مخيلتي منذ الصغر، و وقفت على واقع آخر بمقاييس و أحجام مغايرة، مستمدة هذه المرة من معاينتي القريبة وملامستي المباشرة... كانت دهشتي ملفتة.. وربما شارفت على الصدمة، لما لمست من آثار لم أكن من قبل أتوقع أشكالها و أحجامها.. لم أستوعب بسهولة أغراضها رغم إرشادات أستاذنا... لكنني شممت فيها رائحة العراقة و سافرت بروحي وخيالي إلى أزمان غابرة شاهدت فيها أسيادا و عبيدا و عسكرا ، شاهدت لباسا بسيطا لا يتعدى الركب وشاهدت سيوفا و رماحا و أحصنة يمتطيها فرسان الحاكم، شاهدت كؤوسا تكرع و غواني ترقص على نور فوانيس زيتية وسط بخور متصاعد... شاهدت بغالا و حميرا تسحب عربات محملة بالزيتون ، شاهدت مشاهد أخرى عديدة، لم أجد من صور حية أماثلها بها سوى ما تابعته حديثا من حلقات تمثيلية لمسلسل العبابيد، الذي يروي قصة الملكة زنوبيا و بطولاتها الخالدة ذودا عن مدينتها "تدمر" قبل إحراقها من قبل الرومان..
حطت بي حوامة الخيال عند سفح التلة من جهة الجنوب، حيث تنتصب معامل تمليح السمك و إنتاج عجين الكاروم. هالني امتدادها الفسيح و صلابة بناءاتها الشاهدة، خاصة عندما أكد الأستاذ أن الجزء الكبير منها لا يزال مطمورا تحت التراب. عند ولوجها، سمعت تفاصيل مسهبة عن حجم إنتاجها الذي قيل إنه كان موجها بالجملة إلى الخارج... حسبت أن المقصود بالخارج، المناطق المجاورة للشميش كرقادة والقسيريسي والريحيين والنكارجة والسنديين(3)... و اعتقدت أنها هي أيضا كانت معمورة بالسكان والعمران، و تحيى تواصلا و تبادلا مستمرا فيما بينها. لكن كل ذلك كان اعتقادا خاطئا. فالخارج المقصود هو العالم البعيد المحيط بالبحر الأبيض المتوسط من قرطاج إلى روما و من صور إلى إسبرطة و من أثينا إلى قرطاخنة...و هو الذي كانت تتبادل معه ليكسوس تجارتها في زمنها الذهبي. صعب علي في الأول قبول ذلك رغم ثقتي العمياء في شخص أستاذنا الذي أسهب في ذكر الكيفيات التي كان يتم بها هذا النوع من التجارة العابرة للبحار... إلا أنني تراجعت وسلّمت بمعلوماته، بعدما فطنت إلى خزنة ذاكرتي التي سرعان ما أفرجت عن شريط درس علاقات التبادل الحر بين المغرب و أوربا في مادة الجغرافيا المبرمج خلال هذه السنة. فقلت لعل تهافت الخارج على خيراتنا البحرية ليس وليد الآن، بل له جذور عميقة تشهد عليها أحجار ليكسوس القديمة عن ميلاد عيسى عليه السلام...
ونحن نتوغل أكثر في قلب الموقع، فإذا بمجموعة منا تسبق الأستاذ و تنزل إلى ساحة المسرح الروماني (4) حاملة سيوفا من قصب ومستبدلة محافظها من موضعها المعتادة بالظهر إلى الصدر في شكل دروع وواقيات وهي تقلد شخصيات فيلم "كلادياتور". ابتسم الأستاذ للمشهد وهو في طريقه، ولما وصل والتففنا حوله أخبرنا أن هذه المعلمة هي من أهم المعالم بهذا الموقع و هي آثار فريدة من نوعها، إذ لم يعثر على مثيل لها في شمال إفريقيا إلى الآن. ودورها المسلي للملوك والقادة في المجتمع الروماني معلوم جيدا و قد شاهدناه مشخصا بطريقة جيدة في الفيلم الذي تقلدون مجالديه الآن... و لم يفته أن يشير إلى أن جزءا من ذلك الفيلم مصور في المغرب... و ربما انطلاقا من هذا الرابط التاريخي الذي تحكي عنه هذه الآثار...
بعد ذلك، ولجنا الحمامات المجاورة، ورأينا تصاميمها وأشكالها المختلفة عن حماماتنا الحالية. اكتشفنا تنوعها حسب تنوع طبقات المجتمع. إذ لا ينبغي الجمع في الاستحمام بين الأسياد و العامة، و بين الجنود و العبيد، وبين الحكام والمحكومين... فلكل صنف حمامه الذي يليق به.. في وسط أحدها طبع رأس الإله بوسيدون (5) بشكل رائع بواسطة فسيفساء لامعة ذات قيمة كبيرة، و مغرية لسراق الآثار.. لا أدري كيف تم الحفاظ عليها إلى الآن رغم وضعية التهميش التي يحياها الموقع منذ اكتشافه في أربعينات القرن الماضي... أخذ الأستاذ لإله المحيطات بوسيدون بعض الصور الشمسية، ثم ساقنا صعودا إلى حي المعابد ودور الأشراف المنتصب فوق رأس التلة، التي بدت بشكل واضح محيطة بأسوار دفاعية ضخمة، ومطلة على جزء كبير من مصب نهر اللوكوس. وفيها كان القسط الأكبر من الدرس العملي لسلاسة رؤية جميع أطراف الموقع.. ومن الوقفة الأولى استوعبنا غاية اختيار هذا الموقع لبناء هذه المدينة في غابر الأزمان. وأدركنا جيدا التوفيق الذي حالف واضعي أساساتها، ونحن نتمثل في خيالاتنا المحلّقة بواخر الصيد الواردة على المرسى و المغادرة لها تحت مراقبتنا الواضحة و كأنها أخرى قديمة، وافدة بأشرعتها المرفرفة، و سواعد راكبيها المجدفة بإيقاعات منسجمة قاصدة ليكسوس، التي اصطففنا في حصنها المنيع، نترقب وصولها للتبادل معها إن كانت مسالمة و تنوي التجارة، أو الانقضاض عليها بالرماح الصقيلة والسهام الحارقة إن كانت تقصد الغزو...
عند اقتراب منتصف النهار، بدأ الظل ينحصر مع توسط الشمس للسماء. فبدأنا نلمس اشتدادا في درجة الحرارة، و جفافا في الجو بسبب رياح الشركي الهابّة على المنطقة. العديد منا ارتدى قبعته الواقية، و الباقي ممن لم يحضرها معه مثلي، نزع وحدة من لباسه الخارجي، و حزم بها رأسه درءا لأشعة الشمس المركزة.. غيّر الأستاذ إيقاعه في تقديم شرحه، وشرع في نهج الإيجاز لمنحنا قسطا من الراحة قبل مراجعة ملخص الدرس و المغادرة في اتجاه بيوتنا.
كنت حاضر الذهن معه منذ البداية، مستوعبا جل المعلومات التي تصدر عنه و حافظا لها. تمنيت بعد هذه الخرجة أن أعود قريبا إلى هنا و معي جمع من الغرباء من مدن بعيدة، أو سياح أجانب برمج لهم أن يزوروا الموقع، وأكون دليلهم المرشد. أجول بهم حيث يتجول بنا أستاذنا، و أشبع ظمأهم بالمعلومات التي راكمتها اليوم. وكلي فخر و اعتزاز بانتمائي إلى هذا المكان... وكنت أيضا أنتظر بلهفة و شوق إشارة أستاذنا إلى الفترة التي جعلتني أتعلق بهذا المكان. و أنتظر زيارته لاكتشافه والوقوف على الآثار المباركة، التي رسخت في ذهني عن طريق مرويات جدي، الذي كثيرا ما حثني على زيارتها متى أتيحت لي المناسبة... وقد زادت لهفتي لذلك عندما انتقلنا إلى الحقبة الإسلامية. ووقفنا على آثار لمسجد وميضأة بالطرف الشرقي للموقع... إلا أن الأستاذ مر بذلك مرور الكرام، و أعلن أوان الاستراحة تاركا في داخلي فضولا يحرضني على جلبه إلى الموضوع . خاصة حينما تردد في الجواب على سؤال الحقبة التي تؤرخ لهذه الآثار، و بدا بين الجاهل لها و بين المتهرب من القول فيها... فانتهزتها فرصة سانحة و قلت: لعلها ابتدأت مع زيارة سيدنا علي بن أبي طالب إلى هنا في عهده؟
التفت إلي الأستاذ موجها نحوي نظرات هازئة وهو يقول: هل أصابتك أشعة الشمس بالسوء يا أحمد؟
لا !!!
و عن أي علي بن أبي طالب تتحدث؟
قلت ببراءة... عن الخليفة الرابع للنبي عليه الصلاة و السلام، الذي جاء إلى هنا لنجدة الصحابي الجليل سيدنا علقمة الذي أسره "خمييس رأس الغول" ملك الشميش..
بدا مستغربا وهو ينظر إلي بتحفظ و ينتظر أن أكمل... فخلت أنه لا يدري شيئا عن ما أقول... ثم أضفت، إن آثار حوافر حصانه لا زالت محفورة هنا إلى الآن..
ومن أخبرك بذلك ؟
جدي ...
لعله كان يسلّيك بمثل هذه الأحاجي...
هذه ليست أحاجي... إنها حقائق من تاريخ المنطقة... و جدي حافظ للقرآن و عالم بسير الأعلام، و قد أكد لي أن سيرة سيدنا علقمة حقيقية. و فصولها مصوّرة و منشورة في إطار إلى جانب صور مولاي عبدد القادر الجيلاني
و آدم و حواء و الحسن و الحسين... و معلقة في العديد من البيوت، و قد شاهدتها ببيته بالبادية... و بالتأكيد آثارها باقية في الشميش و قد وصف لي موضعها...
لعل التعب بدأ ينال منه ، و لذلك لم يرد أن يستمر في محاورتي فقال لي: اسمع يا أحمد إن ما تتحدث عنها لا تعدو أن تكون أسطورة شفهية تتداولها الألسن، و لا أثر لها في تاريخ هذا المكان و لا أي مكان آخر. و لذلك توقف عن اجترارها لأنها لن تنفعك في دراستك؟
لم أقتنع بكلامه و لا بتوجيهه، إذ ما الفرق بينها و بين ما كان يحكي عنه هو منذ وصولنا إلى هنا؟ و لذلك طلبت منه أن يأخذنا إلى سفح التلة حيث البئر، و هناك يمكننا أن نتأكد من صدق أو كذب ما أقول.؟؟
لم يستسغ إلحاحي، فأراد أن يفحمني بالسؤال، بعدما طلب من الجميع الانتباه، فقال موجها كلامه إلينا جميعا: من منكم يعتقد أن حوافر حصان قد تدوم آثارها في الأرض أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن؟... فأومأ الجميع إلا أنا، أن لا أحد... فقال لي مستنكرا و مشيرا بيده إلى رفقائي: اسمع ؟؟؟
فقلت له: لقد قال لي جدي حينما قص علي سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام، أن آثار أقدامه لا تزال محفورة إلى الآن قرب الكعبة المشرفة، و يقال لها مقام إبراهيم..
صحيح، لكن تلك معجزة... و المعجزات لا تمنح إلا للأنبياء عليهم الصلاة و السلام.. و علي بن أبي طالب الذي تتحدث عنه ليس بنبي...
إنه ابن عم رسول الله و خليفته...
و هل تصدق أنه جاء بحصانه من مشرق الأرض إلى مغربها في لمحة عين؟
كما صدقتك قبل قليل أن حانون جاء في البحر من لبنان إلى ليكسوس في قارب من تبن و شراع من جلد ثور..
لم يعجبه قولي الذي نمّ عن تحد واضح له، و تشكيك في معطيات درسه، فنهرني بتسلط ...
اطوي علي هاذ الموضوع... إوا هاذ الشي اللي بقا... ولّى بحال العلم بحال الخرايف ...
ثم أمرنا بالبحث عن الظل قصد أخذ قسط من الراحة قبل العودة...
و كأن نحسا أصابني، فأحبط تطلعاتي في الوصول إلى غايتي، التي انتظرت فرصتها طويلا. و كنت سأسعد كثيرا حينما ألتقي بجدي، و أخبره أنني حققت حلمي بزيارة الشميش، و وقفت على المواضع التي وصفها لي، و رأيت بأم عيني الحفر التي خلفتها حوافر "السرحاني "... أحسست بالإساءة، و انقلبت بهجتي إلى انكسار، فانزويت في حي الحمامات قرب بوسيدون، أتأمل إتقانه و أستمتع بجمال فسيفسائه... صاحبني صديق تظاهر أنه يتضامن معي في ما تعرضت له من نهر. لكن سرعان ما اكتشفت أن الفضول فقط هو الذي دفعه لملازمتي، حتى يسمع مني تفاصيل أحداث سيرة سيدنا علقمة... جلسنا في المقعد الحجري بالمبنى الداخلي للحمام الكبير حيث الظل وارف، و إذا بجمع من رفقائنا شرعوا في التواري عن أعين الأستاذ والالتحاق بنا باسترسال... ظننت أن الظل هو من جلبهم إلينا، لكن هم أيضا كانت غايتهم مثل صديقي الأول... فاق الجمع ثلتي الحاضرين معنا في هذه الخرجة، و كلهم أبدى تعطشه و لهفته للسماع مني...
أعاد لي ذلك جزءا من نشاطي، و أحسست بنصر معنوي في مبارزتي اللفظية للأستاذ، التي ابتدأت بتدخل بريء، كانت غايتي منه طلب المعرفة. فإذا به يصبح جدالا غير مرغوب فيه، لم يحسم إلا بالتسلط علي و قمعي أمام الملأ... حينما وجدتهم ينظرون إلي بتوسل. و يلتمسون حديثي و فيهم ليلى، التي ينبض لها قلبي حاضرة و غائبة. راقني ذلك كثيرا فاستجبت...
و من حيث يبدأ جدي حكيه بدأت فقلت: ((...حكى لي شيخي فيما يرويه عن شيوخه الذين سبقوه إلى حفظ سير الأعلام من الرسل و الأنبياء و الحكماء و الصالحين، أن صحابيا جليلا ورعا تقيا اسمه سيدنا علقمة، قضى عمره الطويل الذي ناهز المائة سنة، زاهدا في الدنيا، منقطعا إلى الله، يقضي يومه صائما، و ليله قائما، لا يضيع الجماعة و لا ينشغل عن ذكر الله و تلاوة الأوراد... شغله التعلق بالله عن أي ارتباط آخر، فعزف عن الزواج و بقي أعزبا إلى هذا السن الكبير... و في يوم من الأيام انتهى إلى سمعه حديث شريف، يروى عن النبي عليه السلام، مفاده أن الذي لم يتزوج في الدنيا، لن تفتح له باب من أبواب الجنة.. و سيبقى مصيره معلقا بين الجنة و النار مهما بلغت طاعاته، و علت حسناته. فحزن كثيرا، و تأسف على ضياع عمر طويل دون إلقاء باله إلى سنة الزواج وغاية النجاة. و خالف فيها النبي المرسل و الخلفاء الأربعة و العشرة المبشرين، و باقي الصحابة الأخيار... خاف على مصيره المنتظر بعد اقتراب أجله.. و بإيمان راسخ، و عزيمة قوية قبل أحكام الشرع الحنيف، و شرع في البحث عن زوجة لائقة، يكمل بها دينه و يضمن بها جنته. و من الوهلة الأولى ابتدأ من جيرانه الملتصقين به، فخطب منهم بنتهم، لكنهم رفضوا تزويجه لعلة هرمه. لم يحزن لذلك، لأنه يؤمن بالقضاء و القدر، و يعلم أن الزواج قسمة و نصيب. فانتقل إلى جيران آخرين، لكنه لقي ذات الرفض و سمع ذات التبرير... لم ييأس لأنه أدرى و أعلم بمبرراتهم الصائبة. فقبول شيخ كبير مثله للزواج أقرب إلى المحال في هذا الزمان... انتقل إلى أسرة ثالثة ثم رابعة ثم خامسة... ثم عاشرة .... ثم انتقل إلى المسجد يطلب الزواج من المصلين، و بعده إلى السوق ... ثم إلى خارج المدينة ... ثم أشاع طلبه بين القبائل القريبة و البعيدة لكن لا أحد قبل... فلسان حالهم يقول: إن سيدنا علقمة بينه و بين القبر مسافة شبر و تزويجه عبث و لا معنى له...
انزوى في بيته وحيدا، مسلما بقدره المحتوم... قريبا من اليأس في سعيه الملحاح إلى بلوغ مرمى النجاة،. مكثرا من الطاعات و متفرغا للدعوات... و كله أمل في أن يمنّ الله عليه بكرامة، يقضي بها وطره، و يذهب بها همّه... و ذات ليلة مقمرة، رأى في منامه رؤيا مبشرة، تأمره بالسفر إلى بلاد العجم. ففيها خلاصه الذي استعصى عليه في بلاد العرب..
قام سيدنا علقمة قبيل الفجر مستبشرا برؤياه، فأعد عدته و جهز فرسه. و بعد أن أدى صلاته انطلق غربا في اتجاه بلاد العجم... و هو في طريقه، فإذا به يلقى سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام عائدا من المسجد، فسأله عن قصده. فقص عليه قصته و عبّر له عن خشيته. و لما أخبره عن عزمه و قصده، لم يثنه عن ذلك، بل شجعه على المضي، و سانده في السعي، و نصحه بالتوكل على الله، و التعلق به في السراء و الضراء... ثم حذره من المخاطر التي يمكن أن تعترض سبيله. و قال له: انطلق على بركة الله، و التمس التوفيق منه تعالى، و خذ بالأسباب فهي مفتاح الولوج و سبيل الوصول... إنما احرص على أن يكون معك الماء دائما، حتى إذا وقعت في مكروه و لم تجد له منجى، قرّب الماء من فمك كأنك تعتزم الشرب، و ادعني باسم الله يا علي ..يا علي...أنقذني يا علي... و سآتيك بإذن الله في لمح البصر...
أخذ سيدنا علقمة يضرب في الأرض من صوب إلى صوب، و من حدب إلى حدب، و من ناحية إلى أخرى. قاطعا الأميال، و طاويا المسافات، إلى أن انتهى به المسير تحت تلة الشميش. و بينما هو جالس تحت شجرة بالسفح، يرتاح و يريح مركبه قبل شد الرحال. فإذا بفتاة شقراء فائقة الجمال اسمها شميشة، و هي ابنة ملك الشميش الفريدة، تتجول لوحدها بالقرب منه. فانتهزها فرصة و قام مثل شاب في عقده الثالث، و انقض عليها و أركبها على فرسه و فرّ بها عائدا إلى بلدته... لكنه لم يبتعد كثيرا حتى أدركه أبوها الملك الجبار "خمييس" المشهور برأس الغول لتقنعه بقناع مخيف يشبه الغول، و قيل لأنه كان ذميما و يشبه الغول... و خلصها منه و ساقه أسيرا مكبلا بعدما ارتأى أن يتركه حيا قبل أن ينفذ فيه حكمه أمام الملأ... بقي سيدنا علقمة أسيرا في زاوية من زوايا قصر "خمييس رأس الغول" بضعة أيام، كان ينتظر فيها حلول موعد أعياده حتى يأخذه إلى المسرح المدرج و يطعمه للأسود تحت نظرات و ضحكات شعبه المتعطش لمشاهدة الدماء... لكن بينما هو كذلك فإذا بشميشة يغلبها الفضول، فمرت بجانبه لتنظر إليه و تسأله عن غرضه من خطفها، فكان منه أن انتهزها فرصة سانحة ، و قبل أن يجيبها، استعطفها لتروي ظمأه بالماء قبل أن يموت. حنّت إليه و لبّت طلبه، فأمرت وصيفتها أن تقرب له جرة الماء... و لما أخذها و قرّبها من فيه، نادى ياعلي ياعلي أنقذني ياعلي ...و إذا به يسمع من فم الجرة صوت سيدنا علي يجلجل في أذنه و يقول: لبيك يا علقمة...
و ما هي إلى لمحات حتى كان سيدنا علي عليه السلام عند سفح التلة قرب البئر، بدرعه الواقي و سيفه "ذو الفقار" يروي عطشه وعطش حصانه " السرحاني" الذي كان يعلي حوافره الأمامية إلى أعلى و يضرب بها الصخرة المحاذية للبئر حتى أحدث فيها آثارا لا تنمحي ...ثم صعد إلى التلة حيث قصر ملك الشميش الجبار، و خلّص سيدنا علقمة و أردفه وراءه و انطلق به في اتجاه الشرق... أحس خمييس رأس الغول أن شيئا قد حصل في قصره فأرسل من حاشيته من يتفقد الأسير الذي آن موعد سحله في الغد، فإذا به يفاجأ به راكبا وراء سيدنا علي و منطلقا على بعد فرسخ في اتجاه الوادي ..
جهز "خمييس رأس الغول" بسرعة كتيبة من جيشه، و امتطى فرسه، و انطلق في أثرهما راكضا إلى أن أدركهما في سهل فسيح عند وادي المخازن(6)، حيث ستدور معركة حامية بينه و بين سيدنا علي امتدت إلى غروب الشمس... قبل ذلك، لم يلتفت سيدنا علي إلى الوراء منذ غادر الشميش، لكن حصانه الملهم "السرحاني" بدأ يثقل الخطى و كأنه يريد أن يخبره أن خطبا ما يعقبه من خلفه و يحثه على الانتظار. و لما التفت بعد أن امتنع السرحاني تماما عن المسير، وجد رأس الغول بقناعه الرهيب واقفا متأهبا للفتك، و كتيبته المرافقة تفرض حصارا محكما عليهما. تقدم سيدنا علي نحو رأس الغول و دعاه إلى المبارزة. و بغروره المجنون، و استعلائه أمام جنوده لم يتردد في الاستجابة و أقبل دون تردد... و بضربات فارقة بسيفه "ذو الفقار" انهال عليه سيدنا علي عليه السلام قاسما جسده إلى أجزاء تحت نظرات كتيبته، التي كانت ترقب المشهد باستغراب من شدة و قوة سيدنا علي التي لا تضاهى. و ما إن انتهى حتى رفعت الكتيبة حصارها و تراجعت عائدة، منكسرة إلى أرضها تجر ذيول الهزيمة بدون ملك...)
كنت خاشعا و أنا أحاكي جدي في حكيه و حركاته، مسافرا في ثنايا أحداث حكايته المشوقة ، و مستمتعا بصمت و انتباه المستمعين إلي. و حينما انتهيت و مررت بعيني أتطلع في وجوههم و أتلمّس ردود أفعالهم، لم أجد فقط الثلثين الذين التحقوا بي في مبتدأ الجلسة يطلبون الحكاية. فقد التحق بهم الباقي و كلهم انبهروا لما سمعوا... بل لما التفت إلى الوراء فاجأني الأستاذ متكئا على سور قصير و قد استمع إلي هو أيضا دون مقاطعة أو تعليق... و قبل أن أقوم من مقعدي، و أنتظر أمر الأستاذ فيما تبقى من برنامج الخرجة، وجدت الجميع يستعطفه و يلح عليه من أجل النزول إلى سفح الثلة للتأكد من آثار زيارة سيدنا علي عليه السلام ...
الهامش
1 – ليكسوس : مدينة أثرية تقع بالضفة الشرقية لنهر اللوكوس على بعد أربع كيلومترات عن وسط مدينة العرائش، عمرتها حضارات قديمة متعددة و آثارها تضم معالم متنوعة فيها ما هو أمازيغي محلي و ما هو فينيقي و قرطاجي و روماني و إسلامي اكتشفت في سنة 1948 من قبل عالم الآثار ميغيل طاراديل.
2 – الشميش : اسم يطلق محليا على ليكسوس
3 – رقادة و القسيريسي و الريحيين والنكارجة والسنديين : قرى و دواوير مجاورة لموقع ليكسوس
4 – المسرح الروماني: هو من المعالم الجميلة المكتشفة بموقع ليكسوس و هو دائري و مدرج و مهيأ للمصارعة سواء بين البشر أو مع الحيوانات
5 – بوسيدون : هو إله المحيطات عند الرومان و ليكسوس معروفة بصورته الفسيفسائية الجميلة التي اكتشفت بإحدى ساحاتها
6 – وادي المخازن: موقع شهير بالقرب من مدينة القصر الكبير دارت فيه رحى المعركة المعروفة بوادي المخازن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.