إسرائيل تقتل ثلاثة عناصر من حزب الله    ترامب يوجه تحذيرا جديدا إلى مادورو    تراجع مستمر في معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم بالمغرب    ضوء النهار الطبيعي يساعد مرضى السكري على ضبط مستويات الجلوكوز    أجواء ممطرة في توقعات اليوم الثلاثاء بالمغرب    الصناعة التقليدية حاضرة بقوة ضمن فعاليات كأس إفريقيا للأمم 2025    تعزية ومواساة    كأس إفريقيا .. صلاح يقود مصر للفوز على زيمبابوي في الوقت بدل الضائع    لجنة التعليم والشؤون الثقافية والاجتماعية بمجلس المستشارين تصادق على مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة    افتتاح كأس الأمم الإفريقية بالمغرب: حدث قاري يكشف خلفيات العداء السياسي    بلاغ مشترك توقيع اتفاقية إطار للشراكة والتعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ومؤسسة أرشيف المغرب تهم حفظ الذاكرة القضائية    ميسور: حملة واسعة لتوزيع المساعدات الإنسانية لفائدة الأسر بالمناطقة الأكثر هشاشة بجماعة سيدي بوطيب    ماذا تريد الدولة من اعتقال الأستاذة نزهة مجدي؟    تراجع عن الاستقالة يُشعل الجدل داخل ليكسوس العرائش لكرة السلة... وضغوط في انتظار خرجة إعلامية حاسمة        بصعوبة.. مصر تفوز على زيمبابوي 2_1 في أول ظهور بالكان    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تحضيرات المنتخب المغربي تتواصل استعدادا لمباراة مالي    نيويورك.. زهران ممداني يفاجئ مشجعي أسود الأطلس في مطعم مغربي            موندو ديبورتيفو تشيد بحفل افتتاح كان 2025 بالمغرب    حموشي يقرّ صرف منحة مالية استثنائية لفائدة جميع موظفي الأمن الوطني برسم سنة 2025    الحسيمة.. حادثة سير خطيرة على الطريق الوطنية قرب بني عبد الله    بركة: دراسة ترسي حماية جديدة لآسفي.. ونراجع المناطق المهددة بالفيضانات    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    في ندوة وطنية بأزمور لمختبر السرديات: الخطاب والمرجع في النقد المغربي    «لماذا يخطئ المثقفون» صامويل فيتوسي الانحياز الفكري والأخلاقي أمام امتحان الحقيقة    مجموعة «فوضى مورفي» للكاتبة خولة العلوي .. شغف ووعي ورغبة في كتابة نص مختلف    نشرة انذارية جديدة تحذر من تساقطات ثلجية كثفة وامطار قوية    نبض بألوان الهوية المغربية والإفريقية: عرس كروي رفيع المستوى في افتتاح الكان        ختام السنة برياض السلطان تروبادور غيواني بادخ    تصنيف فيفا .. المغرب يحافظ على المركز 11 عالميا    يومية "آس" الرياضية الإسبانية: براهيم دياز.. قائد جديد لجيل واعد    انتقادات حقوقية لتراجع تصنيف المغرب في تنظيم الأدوية واللقاحات    ريدوان يطلق أولى أغاني ألبوم كأس أمم إفريقيا "ACHKID"    تحقيق ل"رويترز": في سوريا الجديدة.. سجون الأسد تفتح من جديد بمعتقلين جدد وتعذيب وابتزاز    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا مع توقع استمرار خفض الفائدة الأمريكية    توقعات أحوال الطقس غدا الثلاثاء    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    رغم انخفاضها عالميا.. المحروقات بالمغرب تواصل الارتفاع والمستهلك يدفع الثمن    نهائيات كأس إفريقيا للأمم تعيد خلط أوراق العرض السينمائي بالمغرب    ارتفاع أسعار النفط    تيسة تحتضن إقامة فنية في الكتابة الدرامية والأداء لتعزيز الإبداع المسرحي لدى الشباب    تفاصيل جديدة بشأن "مجزرة بونداي"    وفاة الممثل الأمريكي جيمس رانسون انتحارا عن 46 عاما    إعلام إسرائيلي أمريكي: نتنياهو يسعى لتفويض من ترامب لمهاجمة إيران    سعر الذهب يسجّل مستوى قياسيا جديدا    الاستيطان يتسارع في الضفة الغربية ويقوّض فرص قيام دولة فلسطينية    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تصلح الجامعة المغربية؟
نشر في هسبريس يوم 06 - 06 - 2018

غرضي من كتابة هذا المقال أن أبين أن هناك طُرُقاً ثلاثة تؤثر بها الجامعة على مستويات التنمية في بلد من البلدان، لأُرتّب على فهمنا لهذه الطرق أنواعا ثلاثة من الجامعات؛ وهي الجامعات "النافعة"، والجامعات "المستنفعة"، والجامعات "العقيمة".
سأبين خصائص كل نمط من هذه الأنماط الثلاثة من التأثير لأستنتج أن رُقِيَّ الجامعة إلى مقام "الجامعة النافعة" رهين بنوعية علاقتها بثقافة الابتكار. سأومِئ أيضا إلى أن الجامعة المغربية لازالت تراوح مكانها بين مستوى "العقم" الذي لا نفع معه ومقام "الاستنفاع" الذي قد يعِد بالأفضل.
نموذج للتأمل!
لنتأمل أولا في الكيفية التي تساهم بها الجامعات النافعة في تنمية بلدانها..لنتأمل في نموذج الجامعات البريطانية.
حسب دراسة أنجزتها منظمة Oxford Economics بشراكة مع الجامعات البريطانية، فإن قطاع التعليم العالي في المملكة المتحدة ساهم سنتي 20142015 بحوالي 21.5 مليارات جنيه إسترليني (28.61 مليار دولار) في مجموع الناتج الداخلي العام لبريطانيا. حوالي ثلث هذا الرقم (9 مليارات جنيه إسترليني) ساهم به قطاع الخدمات المرتبط بالجامعات وحده (مطاعم، فنادق، مواصلات، إلخ). كما أن الثمار التطبيقية للأبحاث التي تنتجها الجامعات البريطانية في القطاع الخاص سنة 2014 أضافت ما يقارب 22 مليار جنيه إسترليني (29.28 مليار دولار) إلى الناتج الداخلي العام البريطاني (يسمى ما "تفيض" به الجامعات على القطاع من تطبيقات تكنولوجية Spillover).
وبفضل ما توفره الجامعات البريطانية من مهارات عملية (هندسية وغيرها) يكتسبها الطلبة خلال مسارهم التكويني في هذه الجامعات، فإن المتخرجين يولّدون من خلال الأعمال التي يحصلون عليها حوالي 36 مليار جنيه إسترليني (47.71 دولارا أمريكيا).
وإذا أضفنا هذه الأرقام التي تدل على القيمة النفعية للبحث العلمي في الجامعات البريطانية، سنستنتج أن هذه الجامعات تنتج ما قيمته الإجمالية حوالي 105.6 مليارات دولار أمريكي سنويا، وهو ما يقارب مجموع الناتج الداخلي العام للمغرب عندما يصل إلى أعلى مستوياته، أي 109.88 مليار دولار حسب معطيات البنك الدولي.
هذا يعني عمليا أن الجامعات البريطانية تنتج وحدها ما ينتجه المغرب بكل قطاعاته..وبكل إمكانياته..وبكل مؤسساته!..وبكل ثرواته الطبيعية..وبكل فلاحته..! هذا واقع مؤسف، ولكنه ليس قدرا غير قابل للتغيير؛ إنه فقط مؤشر من مؤشرات واقع التخلف التي لا نزال نعيشها.
الجامعة النافعة
الجامعة "النافعة" productive university هي الجامعة التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الرفع من الناتج الداخلي العام للبلد المحتضن.
من المؤشرات على وجه "النفع" في أداء الجامعات مؤشر "الإنتاج" ومؤشر "الفيض" Spillover. يدل مؤشر "الإنتاج" على عدد المنتجات التكنولوجوية التي لا يمكن تصنيعها دون الاعتماد على ما تصدره الجامعة المعنية من أبحاث. ويدل مؤشر "الفيض" على ما "تفيض" به الجامعة على القطاع الخاص من أبحاث يتم استثمارها في هذا القطاع بأوجه مختلفة.
إذا أردت أن تدرك أهمية البحث العلمي في تنمية المجتمع فما عليك إلا أن تتخيل كيف ستكون حياتنا اليوم بدون الثمار التكنولوجية لهذا البحث العلمي: بدون هواتف نقالة أو أرضية، بدون وسائل نقل بين المدن، بدون محركات ضخمة لضخ مياه السدود التي نستعملها في السقي والشرب والنظافة، بدون مصابيح كهربائية، بدون وسائل تواصلية معلوماتية كالحواسيب والإنترنيت، وبدون أجهزة لكشف الأمراض ومعالجتها...
لقد أصبحت هذه المنتجات وغيرها جزءاً متجذِّراً في أسلوب حياتنا بشكل أصبحنا معه لا ننتبه لها ولا نفكر كيف جعلت حياتنا مختلفة بشكل جذري عن حياة أجدادنا. والأمر الذي لا ينبغي أن ننساه هو أن كل هذه المنتجات ثمار للبحث العلمي.
فحسب دراسة أنجزها مانزفيلد (1991) Mansfield، فإن عشر (1/10) المنتجات والعمليات التي تم تسويقها من سنة 1975 إلى سنة 1985 ما كان لها أن تظهر لولا البحث العلمي الجامعي، فهي من منتجات هذا البحث وثماره التطبيقية. وكشف لنا هذا البحث أيضا أن معدل عدد السنوات التي عادة ما تفصل بين إنجاز البحث العلمي وتصنيع ثماره التكنولوجية هو 7 سنوات.
ولا ينبغي أن يُقال (كما يتوهم العامة من الناس) إن البحث العلمي الأكاديمي الأكثر نفعا هو ذاك الذي يتصل بشكل مباشر بالعلوم التطبيقية دون غيرها من العلوم الأساسية التي لا تتقصد نفعا معلوما. فالشاهد على عدم صحة الزعم ما بينه باحث آخر اسمه ڭريليتش (1995) Grilitches اكتشف من خلال بحثه أن المردود النفعي للعلوم الأساسية هو أكثر بثلاث مرات من مردود المباحث التطبيقية.
ورغم أن جزء ا كبيرا من الثمار التكنولوجية والخدماتية للبحث العلمي الأكاديمي الجامعي (كتكنولوجيا الطيران والرحلات الفضائية، والإنترنيت، والطاقة النويية، والنانوتكنولوجيا ...) هو مما تدعمه الحكومات في إطار البحث والتطويرResearch and Development (RandD)، فإن البحث أثبت أن الجزء الأكبر من الثمار التطبيقية للبحث العلمي الذي تنتجه الجامعات يتم استغلاله في القطاع الخاص لا في القطاع العام (أنظر مثلا هازوكاتو (2013)).
فعلى المستوى الدولي لم يعد البحث العلمي اليوم حبيس الجامعات والمعاهد العليا. فسياق العولمة وظهور الشركات الدولية العملاقة جعل قطاع المقاولات الدولية الضخمة أكبر مساهم في البحث الموجه للتنمية والابتكار. هذا ما صرح به تقرير للمنظمة الدولية للتعاون والتنمية الاقتصادية في مارس 2010. لكن ما لا ينبغي أن نغفله أن التكوين العلمي الأساسي لمعظم هؤلاء الذين يعملون في مختبرات البحث داخل قطاع المقاولات والخدمات والتصنيع، والشهادات العلمية التي تزكيهم بصفتهم "باحثين"، عادة ما تأتي من الجامعة. لذلك تبقى الجامعة هي بؤرة إنتاج العلم وما يثمره من تكنولوجيا موجهة لتنمية المجتمع؛ بل إن المقاولات الكبرى، في الدول المتقدمة، تعول بشكل ملحوظ على شراكاتها مع مختبرات البحث داخل الجامعات. من ذلك مثلا أن 17.1% من الشركات الألمانية تلجأ إلى الجامعات والمعاهد العليا لتحسين عملياتها بالأنشطة الابتكارية.
الجامعة العقيمة
مع الأسف يتناقض هذا الواقع في الدول المتقدمة مع حالة المغرب، حيث فقط 3.8% من الشركات المغربية تلجأ إلى الجامعات والمعاهد من أجل هذه الغاية. بدل ذلك فإن 25.6% من الشركات المغربية تعتمد في أنشطتها الابتكارية على مزوديها بالمعدات التكنولوجية، و19.2 تعتمد على مؤسسات ومختبرات القطاع الخاص التي تكون أجنبية في أغلب الأحيان.
لا تختلف الجامعات في العالم الثالث عن مثيلاتها في العالم المتقدم في ما تتوفر عليه من إمكانيات فقط، بل تختلف عنها أيضا في الوظيفة التي تؤديها في المجتمع. فقد لا حظ بعض الباحثين مثل ماثيوس (2001) Matthews وڤيوتي (2002) Viotti أن الوظيفة الجوهرية للمنظومة التعليمية في البلدان ذات الدخل المحدود ليست هي توليد المعرفة بل هي دعم مهارات الساكنة، سواء أتعلق الأمر بالمهارات الڭرافية Graphic Skills، كالكتابة والقراءة، أم المهارات التجريدية، كالحساب وقياس الأجسام. كما لاحظ هؤلاء الباحثون أيضا أن الجامعات في البلدان محدودة الدخل تتميز بضعف التمويل ومحدودية متوسط الكفاءة عند العاملين بها من أساتذة وإداريين (والمقصود ب"متوسط الكفاءة" مُعدّلها العام الذي لا يلغي وجود كفاءات عالية عادة ما تضيع وسط بحر من التخلف الأكاديمي).
ماذا عن حالة الجامعة المغربية تحديدا؟ إذا اعتمدنا على الاعتبارات الكمية، مثل عدد رسائل الدكتوراه التي تناقش في المغرب، فإن وضعية البحث في المغرب لا تبدو في منتهى السوء؛ فقد خلص أحد الأبحاث مثلا إلى أن عدد رسائل الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي نوقشت بين 1960 و1970 لم يتجاوز رسالة واحدة. لكنه ارتفع إلى 377 في الفترة الفاصلة بين 1991 و1996 (عبدالواحد أكمير 1997، مجلة فكر ونقد). أما عدد الأبحاث (دكتوراه وماجستير) التي نوقشت في جامعات المملكة المغربية بين 2002 و2003، حسب تقرير لمركز بحث ألماني (ستيلونبوش) فهو 1095؛ بينما لم يتجاوز هذا العدد 779 في 2001 2002. مع العلم أن 545 من أبحاث 20022003 كانت في العلوم الحقة، وفقط 403 في العلوم الإنسانية؛ ما يدل على أن مشكلة عدم مساهمة البحث العلمي في التنمية ليس مرده اتجاه البحث في العلوم الإنسانية إلى مباحث علمية قد لا تكون لها تطبيقات تكنولوجية وتنموية ...
مع الأسف لا تمكننا إحصائيات ستيلونبوش من معرفة النسبة التي تمثل عدد رسائل الدكتوراه بالمقارنة مع الماجستير مثلا، إلا أن المؤشر العام يؤكد أن الأبحاث المناقشة في تزايد كمي..فلماذا لا يواكب هذا "التقدم" في العلم تقدما في مساهمة هذا العلم في التنمية؟.
أولا، لا ينبغي أن تخدعنا الأرقام كثيرا...فنحن لا نتوفر على نسبة على معطيات دقيقة حول عدد الحاصلين على الدكتوراه في الجامعات المغربية كل سنة بالمقارنة مع عدد الخريجين؛ فهذه النسبة تتجاوز 4.4% في السويد و2.5% في ألمانيا.
ثانيا، العامل الحاسم في تمكين البحث العلمي من المساهمة في التنمية ليس هو فقط نسبة رسائل الدكتوراه التي تناقَش كل سنة بالمقارنة مع عدد الخريجين، بل عدد الرسائل التي ينجزها المهندسون engineers. فالبحث الهندسي engineering research هو القناة التي تربط البحث العلمي بالابتكار التكنولوجي والخدماتي، والمهندسون هم الذين يخترعون التقنية والخدمات المبتكرة أو يجددون خصائصها التصميمية design properties، وهم الذين يُوَظَّفون في مختبرات التجديد والتطوير داخل المقاولات الكبرى وورشات التصنيع. اختصارا، لا يمكن للبحث العلمي أن يساهم بشكل معتبر في التنمية إلا بوساطة البحث الهندسي.
من التقارير التي برهنت على أهمية البحث الهندسي في التنمية تقرير أنجزه مختبر بحث في جامعة كامبريدج، تحت إشراف البروفسور پاتريك ماكسويل سنة 2012. أثبت هذا التقرير إحصائيا أن بحثا واحدا من كل 10 أبحاث يتم إنجازها في جامعة لايدن حول الفيزياء والهندسة engineering وعلوم الصحة وعلوم الحياة، يكون في مفترق الطرق بين هذه التخصصات؛ بل إن التقرير كشف أيضا الأهمية القصوى التي تضطلع بها التخصصات الهندسية في تطوير البحث في العلوم الأخرى، من الفيزياء الكوسمولوجية التي تحتاج للمناظير الضخمة عالية الحساسية للضوء، إلى الجراحة الطبية التي تعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا العالية.
أهمية العلوم الهندسية تتضح أيضا إذا ما قارنا نسبة رسائل الدكتوراه التي تناقش كل سنة في الدول المتقدمة بالمقارنة مع مقابل هذه النسبة في الجامعات المغربية. نسبة رسائل الدكتوراه في التخصصات الهندسية في الجامعات الألمانية يتجاوز 10% من مجموع رسائل الدكتوراه التي تناقش كل سنة (تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، 2010). أما نسبة جميع الأبحاث (الدكتوراه والماجستير كليهما) في التخصصات الهندسية في الجامعات المغربية فلا تتجاوز 1% من مجموع الأبحاث المنجزة.
ولا ينبغي أن يُتوهم أن البحث الهندسي اليوم مبحث من مباحث العلوم الصلبة دون العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فهذا وهم ناتج عن تصور تقليدي متجاوز للعلوم الإنسانية يحصرها في "الشعريات" و"الرومانسيات" ويُغفل أن العلوم الإنسانية والاجتماعية قد دخلت اليوم، في العالم المتقدم، إلى مجالات العلوم المعرفية والحوسبية، ومجالات الترجمة الآلية والدبلجة الإلكترونية، ومجالات الذكاء الصناعي والنمذجة العقلية، ومجالات التعليم بتكنولوجيا المعلوميات والتواصل، ولا تبعد عن هذه المجالات المتطورة سوى في البلدان التي لازال فيها الطباشير أداة للتدريس، والعصا أداة للتهذيب.
الجامعة المستنفعة
"الجامعة المستنفعة" هي الجامعة التي تتحسّس نفع الجماعة الحاضنة لها بشكل ذكي، فتسعى، بعد أن ترصد هذه الحاجة، إلى تطوير أساليب البحث والتطوير بما يتلاءم مع هذه الحاجة.
من الأملثة التاريخية على "الجامعة المستنفعة" حالة الجامعات الكورية الجنوبية؛ فقد تضاعف المدخول الفردي في هذا البلد من الستينيات إلى بداية الألفية الثالثة بحوالي 12 مرة، وارتفع بالموازاة مع ذلك الإنفاق على البحث والتطوير من 166 مليون دولار (0.26% من الناتج الداخلي العام) سنة 1965 إلى 55 مليار دولار سنة (4.04% من الناتج الداخلي العام) 2011؛ وهو واحد من أعلى معدلات الإنفاق على البحث والتطوير في العالم.
فكيف حدث هذا التوسع المذهل؟..كيف تحولت الجامعات الكورية من معاهد عقيمة لا تكاد تكون لها وظيفة غير شحذ المهارات التي تعلمها التلاميذ في الابتدائي، كمهارات الكتابة والقراءة، إلى أعظم محاضن البحث والتطوير في العالم؟.
سنكتشف السر في هذا التطور الكبير إذا أدركنا أن أعمال البحث والتطوير في كوريا الجنوبية مرت من 3 مراحل أساسية وهي:
1 مرحلة الستينيات: كانت كوريا الجنوبية غارقة في الفقر والحرب، ومستويات الدخل الفردي فيها متدنية بشكل حاد. لذلك فقد اتجه صانع القرار إلى تأسيس معهد كوريا للعلوم والتكنولوجيا (Korea Institute of Science and Technlogy) سنة 1966، والذي كان دوره هو دعم البحث في الصناعات الثقيلة والصناعات الكيماوية، لأن الحاجة، في هذه المرحلة، كانت إلى تجويد الصادرات (كالنسيج، والملابس، والأثاث، وغيرها) التي لم يكن يعتمد الاقتصاد الكوري على غيرها. لقد استطاع صانع القرار في هذه الفترة أن يدرك الاحتياج الأساسي للاقتصاد الكوري، فوجه البحث والتطوير نحوه بشكل ذكي استثمره في القليل الموجود من أجل الكثير المطلوب.
2 مرحلة السبعينيات: اتجهت الصناعة الكورية في هذه المرحلة وبشكل كبير نحو الصناعة التخصصية الإستراتيجية كبناء السفن، والآلات، والصناعة الكيماوية، والصناعة الإلكترونية، وصناعة السيارات. فتوجه صانع القرار إلى تأسيس معهد جديد يسمى "المعهد الحكومي للبحث المتخصص"، وله وظيفتان اثنتان؛ أولهما دعم البحث المتخصص الذي يتلاءم مع التكنولوجيا المتخصصة، وتجويد الواردات التكنولوجية. وقد كان المهم في هذه الفترة ليس هو تطوير الإنتاج التكنولوجي المحلي، بل تطوير الصادرات التكنولوجية التي كانت فرصة لتأهيل المجتمع الكوري لفهم أسرار الصناعة التكنولوجية وتطويرها في الوقت نفسه.
3 مرحلة الثمانينيات والتسعينيات: في هذه الفترة، انتقلت الصناعة الكورية إلى مرحلة أصبح بإمكانها منافسة الصناعة الدولية، فحرر صانع القرار السوق بشكل كامل وتخلص من هيمنة الدولة على قطاع البحث والتطوير بشكل جزئي. إذ أطلقت الحكومة مشاريع بحث وتطوير متعددة بتعاون مع الجامعات التي تتمتع باستقلال ذاتي، لا من أجل تطوير التكنولوجيا المستوردة، بل من أجل ابتكار تكنولوجيا محلية تسد الاحتياج الوطني والدولي أيضا. هذه هي المرحلة التي أصبح فيها توجه الجامعات مركزا على البحث في تكنولوجيا الأجيال المستقبلية، ما جعل دور الجامعات وأبحاثها أكثر أهمية، إذ تحول مجال البحث فيها من مجرد "بحث وتطوير" إلى ثقافة ابتكار عالية هدفها تقدير مشاكل المستقبل واحتياجاته، وإبداع حلول لهذه المشاكل بالإبداع التكنولوجي والهندسي.
وبهذا فقد تحولت الجامعة الكورية من مجرد حافظة لتراث المهارات المكتسبة إلى جامعة مبدعة لحلول الحاضر والمستقبل كليهما، ولم يعد الپروفيل المتخرج من هذه الجامعات مجرد "خريج" ينضاف إلى آلاف الخريجين الآخرين، بل "رائدا" من رواد الابتكار Cre0-naute
ذلكم إذن هو مسار "الجامعة المستنفعة".. أي الجامعة التي تنطلق من توجيه البحث والتطوير نحو احتياج اجتماعي مرصود بعناية، ثم تتجه بعد ذلك إلى تطوير ما سدت به هذا الاحتياج من الواردات، ثم تستقل بثقافتها الابتكارية التي تستلهم ما تخلقه من قيم مضافة من حل مشاكل المستقبل.
خلاصة
التطور الطبيعي للجامعة يكون دائما من "جامعة عقيمة" أبلغ عملها حفظ المهارات، إلى "جامعة مستنفعة" تركز مجهودها في البداية على رصد الاحتياجات بذكاء، إلى "الجامعة النافعة" التي تبدع مستقبل المجتمع الحاضن لها. إنها رحلة "الوجود" الصامت المنغلق على ذاته إلى "الكينونة" المنفتحة على كل ما ليس سواها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.