ألاحظ في مجتمعنا المغربي كثرة ممارسة الكذب على الأطفال بدعوى أن الطفل لا يزال صغيراً و"ما كايْفْهْمْشْ"؛ وهذا بلا شك خطأ تربوي فادح لأن للطفل حِسا كبيرا في تمييز الوقائع ومعرفة إن كان الآباء يخاطبونه بصدق أم لا. ولما يلتقط الطفل الحديث الكاذب يؤثر هذا على راحته النفسية ويشعرهُ بالقلق وعدم الاطمئنان وانعدام الثقة والأمان؛ وتنعكس هذه الأحاسيس السِّلبية على سلوكه وصحته وحتى على مستوى دراسته. ولعل أكبر دليل على قدرة الطفل على تميز الخطاب الكاذب هو المثال التالي: حين يرغب الطفل في شيء ما ويكون رد الآباء "وَحْتى نخْرجو" أو "حتى لْغَدَّ" يشرع الطفل تلقائياً في البكاء والصراخ. وسبب هذا البكاء ليس أنه لم يحصل على مُراده في الحين، ولكن السبب الفعلي هو الجواب الذي قدمه له الآباء وتحايلهم عليه لعدم الجواب بصدق. وإليكم بعض المواقف اليومية الواضحة التي يتضح فيها كذب الآباء: "مْلّي تْجيبْ 10 نْشْريلكْ شي حاجة"، "بابا عَوّْدْلي قصة...وَخّا حْتى لْبْلَّتي"، وْعْلاشْ ما قْلْتِلوشْ مَعْنْديشْ؟"، "في العطلة غَدي نْشْريلْكْ حاسوب"، فْلْويكانْدْ نْخْرْجو"،"بابا عْطْني باشْ نْشْري...ماعْنْديشْ"، "الى سْوْلْكْ شي واحْد، قول مانْعْرْفْ"، "تْمْشي مْعيا لْفْرَنْسا وْلا تْبْقى مْعا باباك". وهذه ما هي إلا القليل من أمثلة كذب الآباء على أبنائهم؛ ناهيك عن الكذب على الطفل في حالات المرض أو الطلاق، أو حالات السفر أو الكفالة... والكذب له انعكاسات وخيمة على تكوين شخصية الطفل وعلى علاقاته مع والديه وإخوانه وأقاربه وأصدقائه ومدرسته ومع المجتمع بصفة عامة. وهذه بعض الانعكاسات الخطيرة: 1- ضعف الشخصية لما يشعر الطفل ويتحقق من كذب والديه يحس وكأنه لا شيء ولا قيمة له، لأن الطفل بطبيعته يُكوِّن شخصيته حسب درجة النظرة الإيجابية من الآباء إليه والقيمة التي يعطوه إياها. ونعرف جيداً أن الفرد ضعيف الشخصية يمارس الكذب بدون انقطاع، مرة لعدم قدرته على قول الصراحة ومرةَ أخرى ليرفع من مستوى شأنه ويتخلص من الحرج. 2- غياب الثقة في النفس بما أن الآباء يكذبون على الطفل بشكل دائم فسيرى أنه ليس أهل ثقة، وخاصةً عندما لا يصدقه والداه قائلين له: "باركة من الكذوب"، فيفقد حينئذ الثقة فيهما، وبالتالي يفقد الثقة في نفسه، لأن الآباء هم الذين يزودون الطفل بمستوى الثقة في نفسه بفضل توازن علاقة الثقة المتبادلة. 3- انعدام الثقة في العلاقات بما أن الطفل بحاجة إلى تكوين صورة جميلة عن والديه والمحافظة عليها في ذاكرته الشخصية، فإنه يُسقط الكذب على الآخرين؛ ولهذا تَعوَّد المغربي أن يعتبر مُسبقاً كل شخص كذاب ولا يجب تصديقه حسب القولة المغربية الشهيرة "ما تِّيقْ حتى فشي واحْدْ". ومن هنا تصبح علاقات الطفل عديمة الثقة بالآخرين. 4- تقليد الآباء الوالدان هما النموذج الكامل للطفل، وبما أنه في قرارة نفسه يرفض حقيقة أن والديه يكذبان عليه فإنه يُعيد إنتاج النموذج نفسه الذي عاشه ويستعمل الكذب في علاقاته وكأنه سلوك رفيع المستوى. 5- القسم بالله في الكذب واللجوء إلى كتاب الله حينما نطلب من الطفل أن يُقسم بالله على صِحة ما يقول، فهذا يعني أننا نعتبره كاذبا مسبقاً؛ لأن في العلاقات الصادقة القائمة على الثقة لا نطلب من الآخر: "حْلْفْفْفْ... قولْ والله". هذا أمر خطير لأننا نعتبر حتى القسم بالله باباً من أبواب ممارسة الكذب، وندعو الطفل إلى أن يُقسم على كتاب الله "قولْ حْقّْ القرآن". كل هذه السلوكيات تخلق تشويشاً كبيراً في ذهن الطفل وتتسبب له في اضطراب راحته الداخلية. 6- اضطراب المزاج والقلق المفرط حينما يكتشف الطفل أن الأبوين اللذين وضع فيهما ثقته يكذبان عليه يعتبر هذا خداعاً فيشعر حينئذ بالقلق الذي يصبح مزمنا مع اضطراب مزاجي (كثرة الصراخ والبكاء والتشنج)، واضطرابات في النوم والتبول. 5- التحايل بعد مرور السنين يترسخ لدى الطفل أن الكذب هو نوع من التحايل وليس بأمر خطير.."الكذبة البيضاء"، وبالخصوص أن هذا التحايل يساعده على الغش والربح السهل وتجاوز المآزق. 6- انعدام المسؤولية وغياب الصدق في الأعمال من خلال الكذب يتعلم الطفل أن روح المسؤولية والعمل بصدق لا أهمية لهمان وأنه عبر ممارسة الكذب والتحايل بإمكانه أن يفلت من مشقة المسؤوليات التي يواجهها في حياته. 7- اعتبار عالم الراشدين كذبا وخداعا الآباء يمثلان للطفل عالم الراشدين، وبما أنه يرى أنهما كاذبين فإنه سيعتبر عالم الراشدين وحتى المعلمين تجليا لدائرة الكذب. 8- عدم الثقة بين الزوجين عندما يرسخ لدى الطفلة أو الطفل في ذهنهما أن كل فرد كذاب ومخادع و"ما تِّيقْ حتى فشي واحْدْ"، فإن هذا التصور يبقى معهما في مختلف مراحلهما العمرية. وحتى بعد الزواج تنشأ من هذا التصور حالات انعدام الثقة والتشكك والكذب والتحايل بين الأزواج. إن الكذب على الأطفال من مُسببات العنف في المجتمع وسبب غياب السلوكيات الحضارية وانعدام روح التشارك والتعاون وخدمة المجتمع وتحقيق السعادة الأسرية والطمأنينة المُجتمعية. *خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي